قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة إبراهيم الخليل (3)
 ما الذي بوّأ رجلا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أن يتربع فوق عرش الخلّة الرحمانية؟
 
مازالت هذه الحلقات تعالج هذا السؤال الكبير أملا في أن يكون المرء على الدرب ذاته ولو في ذيله أن يستهويه الإتجاه المعاكس. هي خلال خمس كما تقدم عولجت أولاها في الحلقة المنصرمة أي التسلح بإيمان يشق طريقه من الشك إلى اليقين حتى يكرع ناهلا من معين اليقين ( وليكون من الموقنين ). اليوم مع خلتين أخريين
خلّة الطاعة الخالصة كأنما قدّ الرجل من طينة ملائكية
هل تصدّق أن رجلا مثلنا يؤمر بذبح إبنه الوحيد فيطيع؟ أقول دوما لنفسي : إما أننا لا نقرأ القرآن الكريم أو أننا لا نقرؤه متدبرين وهل أنزل القرآن الكريم لغير مقصد التدبر ( ليدبروا آياته )؟ بل أقول : حتى الذين يرتقون إلى مرتبة التدبر فإن العبر المجنية تظل حبيسة الفؤاد لا ظلال لها في الواقع. لم أجد تفسيرا آخر يسعفني عندما أنظر في القرآن الكريم بعين وأنظر في واقعنا بالعين الأخرى. قصة إسماعيل الذبيح خير مثال على ذلك. لو رويت لنا القصة من أي جانب آخر عدا الله سبحانه لما صدّقنا وحقّ لنا ألاّ نصدّق. هل هذا الإنسان الذي أمر بذبح إبنه الوحيد ـ وقد بلغ من الكبر عتيا وبلغ إبنه معه السعي ـ قدّ من طينة الملائكة أم هو من طينتنا نحن البشر نحب ونجزع ونفرح ونغضب؟ هل هناك طاعة خالصة نصوحة مطلقة مثل هذه؟. لا والله. ها نحن نؤمر بإنفاق دريهمات معدودات فنضنّ ونبخل. 
ليس هناك في القصص القرآني كله قصة هزتني هزّا عنيفا ولن تزال تهزّ كياني بقشعريرة أكثر مما فعلت بي هذه القصة. لا تقل : إنه نبي أو رسول أو صدّيق أو خليل. لم؟ عندما تقول ذاك فإنك تعفي نفسك من إنتهاج نهجه من جهة ومن جهة أخرى فأنت توجد لنفسك مسوغات للفرار من التكليف. بل هناك طامة عقلية أخرى وهي أن تتصور أن إبراهيم عليه السلام نزعت منه سمات الأبوّة فهان عليه ولده فأقدم على ذبحه وبيده هو، لحما ودما وهو وحيده وقد بلغ هذا من الكبر عتيّا وذاك السعي الذي يخلف به أباه. هذه فكرة مسيحية مضللة تسللت إلينا مع أفكار أخرى كثيرة. إبراهيم بشر ككل بشر وإنسان ككل إنسان وتلك هي المزية العظمى، إذ لو نزعت سمات البشرية أو الإنسانية من الأنبياء لما كان لهم أي فضل على الناس ولكنهم تفوقوا علينا جميعا بقهرهم لتلك الغرائز والفطر والشهوات عندما يتعلق الأمر بالله سبحانه أمرا منه صحيحا صريحا. أقول في نفسي دوما : على كل واحد منا أن يستحضر هذا الفداء الذي طبّق آفاق السماوات والأرض مصنوعا بإذن الله من  بشر مثلنا يأكل ويشرب ويفرح بفلذة كبده كما يفرح كل والد بولده وذلك عندما يدعى الواحد منا إلى الإنفاق. ليقل في نفسه : هذا أحد أكبر أسلافي أنفق فلذة كبده فكيف أتأخر أنا عن إنفاق دريهمات معدودات يكسو الله بها عاريا أو يطعم جائعا أو يسقي ظامئا أو يؤمّن خائفا أو يحرر سليبا؟
لم يقدّ الرجل من طينة ملائكية بل من طينتنا نحن لحما ودما وغريزة وفطرة وجبلّة ولكن قدّ هو نفسه بإذن الله سبحانه من طينة غير طينتنا أي من طينة إيثار الآخرة على الدنيا ومن طينة توقير الرحمان سبحانه عندما يصدر منه الأمر الصحيح الصريح. طابت نفسه فكان كما نرى نحن اليوم خلقا آخر وما هو بخلق آخر ولكن بخُلق آخر . ( خَلقنا ) بفتح الخاء وتسكين اللام واحد أمـّــــا ( خُلُقنا ) بضم الخاء واللام معا فليس هو واحد. وشتان بين من يدعى إلى التضحية بفلذة كبده الوحيد وقد رزقه بعد لأي وبين من يدعى إلى التضحية بحمل لا يساوي شيئا في دنيا المال والمادة ورغم ذلك يبخل. وحريّ بمن يرتقي بمثل هذه الطاعة النصوحة الخالصة إلى هذا المرقى العظيم العالي أن يتربع فوق عرش الخلّة الرحمانية وأن يكون للرحمان نفسه سبحانه خليلا. إنما العلاقة بين الإنسان وبين الله هي علاقة تقوى وإيمان بالغيب فمن أطاع قرّبه إليه ومن عصاه أبعده عنه. طريق التضحية مازال مفتوحا أمامنا جميعا فهذه بلادنا ـ وهي البلاد المباركة وليس أي بلاد ـ محتلة وهذه أمتنا ممزقة الأوصال مسترقّة لدى المؤسسات النقدية الدولية وهذه ثوراتنا ممرغة في الأرض يعبث بها الأعداء عبث الأطفال بالتراب أو لهو الرياح بأوراق الخريف وهذه الأمية فينا تفوق نسبة الثلثين وهذه الحرية ( عروس إسلامنا ) لا مكان لها في أرضنا تارة بإسم أنها ضد حكم الله أو تطبيق الشريعة وتارة بإسم أننا لم ننضج رشدا لنعانقها كما قالت السيدة بشرى بن حميدة قبل أيام فحسب في لقاء إذاعي حول مشروع الحريات في تونس. 
ضد كل هذه المعوّقات الناكبة لحياتنا مازالت أمامنا أيام للتضحية أسوة بأبي الفدائيين إبراهيم عليه السلام متاحة. تضحية بالفكرة والرأي وتضحية بالوقت والحياة وتضحية بالمال والجهد المادي وتضحية بكل ما نملك لأجل تحررنا إذ أن المقصد الأسنى من أمر الله سبحانه عبده إبراهيم أن يذبح هو بنفسه ولده إنما هو تحريره من أكبر أعدائه أي هواه الرابض فيه أو نفسه الأمّارة بالسوء وعندما يتحرر الإنسان من هوى نفسه يكون إنسانا ويتأهل لتحرير الأرض والإنسان والواقع من بعد ذلك أما من إسترقه هواه وإستعبدته نفسه فهو المأسور حقا وفاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب بحق منذ القدم
خلّة التضحية في إبراهيم مضاعفة
إذ أن الرجل لم يضح بفلذة كبده فحسب إذ قاده بنفسه إلى المذبح طاعة نصوحة خالصة لمولاه الكريم سبحانه بل ضحى بنفسه هو كذلك وذلك عندما رضي أن يلقى في النار عندما حاجّه قومه فتفوّق عليهم بالحجة والبرهان في إثر مشهد من أبرز مشاهد العقل والدهاء. كان يمكنه أن يأخذ بالرخصة الدينية ومؤكد أن قلبه ليس ممتلئا إيمانا فحسب، بل مترع يقينا. بل إن قلبه مصنع من مصانع الإيمان ومعمل من معامل اليقين يضوع في نهاد الأرض ونجادها أملا في الله وحده سبحانه. ولكن لم يأخذ بالرخصة حتى لو كلفه ذلك حياته فقبل أن يلقى في النار تفترسه إفتراسا وتحوّله إلى فحمة سوداء. 
هل كان يعلم مسبقا أن الله سبحانه سيصدر أمره إلى النار أن كوني بردا وسلاما؟ أبدا. ولو كان يعلم ذلك لإندثر معنى الإبتلاء. إنما كان يعلم أن الله سبحانه معه وأن لن يخذله وأنه ناصر دينه بعد أن تحوله النار إلى رماد يذرى في الأرض. حمّل نفسه عليه السلام حمل العزيمة فأقبل على النار منشرح الصدر مؤمنا أن الأبدان تفنى لتظل الأفكار الجديرة بالحياة حيّة بها يسعد الإنسان. وهو طريق الأنبياء والصديقين والشهداء. القدسية للفكرة وليس للإنسان. 
أي رجل هذا؟ لا يبالي بنفسه ولا بحياته فيلقى في النار مترسخا في عقيدته وهو يعلم أنه في مقام الإمامة إذ لو أخذ بالرخصة لذهب في روع بعض الناس أن القيمة الفكرية هي التي يلقى بها في النار ولذلك لا يكثر معتنقوها والذين يعتنقونها لا يخلصون لها. أي جمال عندما يعلم الرجل مقامه بين الناس فلا يرقى فوقه كبرا ولا ينزل تحته تواضعا مزيفا. رجل لا يضحى يفلذة كبده فحسب بل يضحي بنفسه هو أيضا. لا يبالي بالنار ولا يبالي بالمدية التي تخترق عنق ولده
 خلّة الذكاء والدهاء والعقل الأفقي
 الخلال عادة ما تكون شبكة خلقية متكاملة يعسر أن تتفرق تفرقا مريعا فلا يكون المرء في العادة كريما وجبانا ولا يكون عاقلا ومتقوقعا على خويصة نفسه لا يأبه بما يقع للناس من حوله. إبراهيم الخليل عليه السلام حباه الرحمان سبحانه بخلّة أخرى وهي هذه المرة خلّة عقلية ذهنية
مشهد تحطيم الصنم الأكبر
مرّ بنا أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يرد إبتداء تحطيم الأصنام غضبا جموحا كما يفعل كثير من الشباب المقبل اليوم على التدين الأرعن أو كما عمد بعض رجال حركة طالبان الأفغانية قبل عقود إلى تحطيم تماثيل لبوذا . هذا سلوك الغاضب والغاضب في العادة لا يبني بل يهدم . الغاضب يقصر عمله على التنفيس على كربته الداخلية فهو كمن يفرّ إلى السيجارة أو المخدر. كلاهما يريد التنفيس عن مخزونه الغضبي. 
إبراهيم عليه السلام غضب أنّ قومه يعكفون على الأصنام ولكنه لما أراد أن يصرفهم عن ذلك عمد إلى طريقة ذكية إذ حطم الأصنام الأطفال أي الصغار ثم علق الفأس في رقبة الصنم الأكبر وبذلك تسنى له أن يغلب قومه في ساحة النزال العقلي ولا أدل على ذلك من قول القرآن الكريم عنهم لما باغتهم بقوله عليه السلام ( بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) إذ قال مخبرا عن خيبتهم المعرفية ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ) أي أن كل واحد منهم قال لنفسه في لحظة محاسبة صريحة مع ذاته ( إني أنا هو الظالم بعكوفي على أصنام لا تنطق ولا تدفع عن نفسها الأذى). ذلك هو معنى أن الغضب المؤمن يهدي إلى المعركة العقلية . ولو حطم إبراهيم كل الأصنام دون تمييز لما توصل إلى هذا النجاح الباهر وكذلك لو حطم رأس الأصنام تاركا صغارها. أرأيت كيف أن إبراهيم تسلح بالذكاء والدهاء كما سيفعل من بعده أحد أحفاده وهو يوسف وقد تقدم لنا في قصته في هذه السلسلة ( قصص القرآن ) كيف أن هذا الحفيد الوفي لميراث جده توخى الحيلة العقلية وليس العنف الجسدي؟لم يكن إذن غرض إبراهيم عليه السلام تحطيم الأصنام ولكن كان غرضه تحطيم الصنم الفكري الذي يربض في العقول وبذلك يعلمنا الخليل عليه السلام أن المعركة مع الجهل بكل صوره هي معركة عقلية فكرية برهانية حجاجية وليست معركة بدنية وخاصة عندما نكون في حال إستضعاف وتمزق. إذ عندها تكون الحاجة إلى السلاح الفكري أشدّ. درس حريّ بالوعي
مشهد إحياء الموتى مع النمرود
لمّا جاء إلى النمرود يدعوه إلى كف أذاه عن الناس حتى يعانقوا الحرية التي هي مناط التكليف تقمّص هذا الحاكم المتكبر غروره مدعيا أنه هو نفسه يحيي ويميت وليس الله فحسب وأراد أن يري إبراهيم قدرته على ذلك فعلا فهمّ بالإتيان برجلين ليحكم عليهما بالقتل ثم يميت أحدهما ويعفو عن الآخر وبذلك يكون قد أحيا من شاء وأمات من شاء. عندها تقمص إبراهيم ذكاءه منحة من الله سبحانه تاركا الغرور لأهله ولم يواصل حجاجه النمرود في قضية الإحياء والإماتة بل رده إلى ما هو أعجب فجعله مبهوتا أي إتيان الله بالشمس من مشرقها. 
لم فعل إبراهيم ذلك؟ لأنه يعلم أن ذلك الطاغية لا يعجزه أن يقوم بما يشبع غروره أنه يحيي ويميت ويقدم فعلا على قتل إنسان بريء. إبراهيم تعلم من ربه أبلغ درس في الحياة أنّ الإنسان كائن مقدس وليس محلّ تجربة ولذلك عدل الخليل عليه السلام عن هذا حتى يعلمنا قدسية الإنسان وعندما يكون الإنسان شيئا لا يبالى به في قوانين الطغاة فما علينا إلا أن نسلك طريقا ليس فيه تضحية بالإنسان البريء قدر الإمكان وقد كان هذا ممكنا في هذه المشهد الإبراهيمي وجاء بحجاج أشدّ فبهت الذي كفر. ذكاء حادّ وقّاد من الخليل عليه السلام. ذكاء حفظ به حياة ذلك الإنسان الذي كان يريد النمرود قتله ظلما ليشبع به غروره. وفطنة أشد توقدا عندما عدل إلى آية أخرى أعظم أي الشمس فهي ساطعة تشرق بإنتظام عجيب كل يوم من مشرقها وتؤوب إلى مغربها فهل للنمرود وللطغاة على إثره أن يفعلوا مثل ذلك؟ طبعا لا
مشهد ذكاء آخر حرر به زوجه سارة
أعجب أحد الطغاة في تلك الأيام بجمال سارة فأرادها لنفسه و سأل هذا الطاغية الخليل عليه السلام عن علاقة سارة به ظنا منه أنه سيقول هي زوجي وبذلك يأخذها منه نكاية وشماتة من جهة وبسبب أن الزوجة يمكن تعويضها بأخرى فالنساء كثر في منطق الطغاة طبعا من جهة أخرى. ولكن الخليل الذي يتوقد ذكاء وينبض دهاء فاجأ الطاغية بقوله أنها أخته وهو كذب بتعبير محمد عليه الصلاة والسلام ولكنه الكذب المطلوب المحمود الذي يتحرج منه اليوم متدينون طلوا أنفسهم بمظاهر التدين وقلوبهم خاوية من الذكاء الإسلامي المتوقد. وبذلك حصّن الخليل عليه السلام زوجه من قبضة ذلك الطاغية وفي ذلك قال عليه الصلاة والسلام في المعاريض مندوحة عن الكذب أي أن إبراهيم عليه السلام هنا ـ مثلا على ذلك ـ لم يكذب بل عرّض تعريضا أي قال كلاما صحيحا في ظاهره وغير دقيق في باطنه إذ أن سارة حتى وهي زوجه فهي أخته في الآدمية والإسلام معا. وقد أورد الشيخان البخاري ومسلم هذا الحديث في صحيحيهما فهو متفق عليه إذن وهو طويل نسبيا عن أبي هريرة وقد بدأه عليه الصلاة والسلام بقوله ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات). ولمن شاء مراجعة الحديث فهو في الصحيحين
بتلك الخلال الكريمة تربع إذن إبراهيم فوق عرش الخلّة الرحمانية وهو فتى في مقتبل العمر وفي الحلقة القابلة بإذن الله سبحانه نتعرف على بقية الخلال.