الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماء والطارق ‏«الجزء 1/3»
 مقدمة في المنهج
تعتمد مقاربتنا لفهم الآية القرآنيّة التي تشير إلى ظاهرة طبيعيّة أصبحت موضوعا للمنهج العلمي على اللّغة وأحدث المعارف ‏العلميّة. في المدخل اللّغوي ننطلق من فرضيّة أنّ اللّفظ في «الأصل» يوضع لمعنى محدّد. نتبنّى مفهوم «الأصل» عند المعجمي أحمد بن فارس الذي يقول بالأصل الدّلالي وليس الصّوري «إذ يعتقد أنّ تأليفا من الحروف يتوافر على مفهوم أو عدّة مفاهيم أصليّة ‏حاول استخراجها من كلّ تأليف»[1] . ففي التأليف (و ق ع) مثلا يقول في مقاييس اللّغة «الواو والقاف والعين أصل واحد يرجع إليه ‏فروعه يدلّ على سقوط شيء». وفي التّأليف (ط ر ق) يقول في نفس المرجع «الطّاء والرّاء والقاف أربعة أصول: أحدها الإتيان ‏مَسَاءً، والثّاني الضَّرْب، والثّالث جنسٌ من استرخاء الشّيء، والرّابع خَصْف شيء على شيء». فيكون حينئذ معنى اللّفظ الذي أقر ‏في الاستعمال على أصل وضعه هو المنطلق والمنتهى في تعاملنا مع الكلمة القرآنية حتّى لا نتوه في فوضى من المعاني. إن ‏المعنى الأصلي هو المعنى الحقيقي «ولا يصرف اللّفظ عن الحقيقة إلاّ إذا دلّت على ذلك قرينة صارفة»[2]. فالمعنى الأصلي ‏للوقوع لا يمكن أن ينفصل عن السّقوط. وبما أنّ السّقوط متعدّد، فالقرائن التي تميّز سقوطا من غيره هي الاستعمال. كان يقول ‏العرب وقع الغيث وليس سقط. إنّ العلاقة بين اللّفظ والمعنى (بين الحامل والمحمول) تتحدّد من خلال استقراء كلّ الألفاظ التي ‏يتبادلها العربي في عمليّة التّواصل عبر اللّغة الطّبيعية. إنّ تحوير المعنى الأصلي للكلمة وتضمينها معنى جديدا وهو ما يسمّى ‏بالتّطور اللّغوي لا يلزمنا في بحثنا باعتبار أنّ عملية التّطوير هي جهد بشري، وكلّ جهد بشري محدود فلا يمكن حينها قراءة الآية ‏القرآنيّة على ضوء معنى جديد هو بالضّرورة مختلف ولو قليلا عن المعنى الأصلي. فالقرآن نزل بلغة العرب زمن الوحي وليس بما ‏سيستحدث لاحقا‎. ‎
مقدمة
يقسم تعالى بنجم محدّد بميزتين هما الطّرق والثّقب ‏‎:‎‏ «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)»[3]. ذهبت ‏التّفاسير القديمة إلى أنّ الوصف القرآني هو عام يشمل كلّ النّجوم أي أنّه ينطبق على جنس النّجوم لاعتبارين اثنين أوّلا لأنّه يشاهد ‏ليلا وكلّ من جاء بليل فهو طارق، وثانيا لأنّ ضوءه يثقب ظلمة اللّيل. وحديثا وبعد إن اقترب الإنسان أكثر من إدراك حقيقة النّجم ‏ذهب المفسرون في اتجاه ثان حيث اعتبروا أنّ النّجوم النّابضة وهي نجوم نيترونيّة شديدة التّضاغط وتصدر إشعاعا راديويّا دوريّا ‏هي المراد بالنّجم الثاقب لأن نبضاتها تصلنا على شكل طرقات وضوؤها ساطع لدرجة أنّه قادر على ثقب الظّلام والوصول إلى ‏الأرض رغم المسافة الهائلة التي تفصله عنها‎.‎‏ كما أنّ هناك من اعتبر الثقب الأسود هو المعني بالآية.‏
سنسعى في هذا المقال إلى تقديم قراءة بديلة عن التفاسير الحديثة باعتبار انتمائنا إلى نفس اللحظة المعرفية مع كتابها ولنا رأي آخر ‏في شأن «الطّارق النّجم الثّاقب». وهو بديل غير معني بالتّفاسير التّقليدية لأنّ ما قيل قديما لا يمكن إلاّ أن يعكس مستوى المعارف ‏الفلكيّة التي كانت سائدة وهي معارف لا تشمل إلاّ ما كان يبدو حقيقة وهو ظاهري فقط وتجاوزناه بمسافات فلكية.‏
تفتتح سورة «الطارق» بالقسم بالسّماء والطّارق وهما مخلوقان من مخلوقات الله. وعندما يقسم الله وهو الغنيّ عن ذلك، فإنما يقسم ‏للفت النّظر إلى عظمة المقسم بها أي السّماء والطّارق من ناحية والتّأكيد على ما في القسم من حقائق تتعلّق بالطّارق وعلاقته ‏بالسّماء إذ يصفه الخالق بالثّاقب وهي حقائق سيكتشفها الإنسان يوما ما وسيكتشف معها القدرة اللاّمتناهية للخالق. نهدف في هذا ‏المقال  إلى تبيين  أنّ السّماء في هذه الآية تأتي بمعنى الكون المرئي أوّلا وهي المعنيّة بالثّقب ثانيا، كما سنحاول أن نبيّن أنّ ‏الطّارق هو نجم بعينه وليس كلّ النّجوم وتتوفّر فيه ما لا يمكن أن تتوفّر في غيره من الأجرام السّماوية من قدرة على الطّرق وإحداث ‏ثقب حقيقي في السّماء وليس ضوؤه الذي اعتقد طويلا أنّه يثقب الظّلمة. إنّ الجمع بين السّماء والطّارق في قسم واحد ليس عبثيّا بل ‏لا بدّ من علاقة موضوعيّة بين المخلوقين يعلم الله تعالى أنّها ستظهر يوما ما ونعتقد أنّها ظهرت فعلا والله اعلم. ‏
التفسير القديم
يقول الطبري (ت 310 هـ ) في «تفسير جامع البيان في تفسير القرآن»: «أقسم ربّنا بالسّماء وبالطّارق الذي يطرق ليلاً من النّجوم ‏المضيئة، ويخفى نهاراً، وكلّ ما جاء ليلاً فقد طرق أمّا في معنى{ وَما أدْرَاكَ ما الطَّارِقُ } فيقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله ‏عليه وسلم: وما أشعرك يا محمد ما الطارق الذي أقسمت به؟ ثم بين ذلك جلّ ثناؤه، فقال: هو النجم الثاقب، يعني: يتوقد ضياؤه ‏ويتوهَّج»‏‎.‎‏ وفي تفسير «تفسير القرآن الكريم» لابن كثير(ت 774 هـ) نجد «يقسم تبارك وتعالى بالسّماء، وما جعل فيها من الكواكب ‏النيّرة، ولهذا قال تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } ثم قال: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ } ثم فسره بقوله: { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } قال قتادة وغيره: ‏إنما سمي النجم طارقاً؛ لأنه إنما يرى بالليل، ويختفي بالنهار».أما في تفسير الجلالين المحلي والسيوطي (ت المحلي 864 ‏هـ)»{وَٱلسَّمَاءِ وَٱلطَّارِقِ } أصله كلّ آت ليلاً ومنه النّجوم لطلوعها ليلاً‏‎. ‎‏{وَمَا أَدْرَاكَ } أعلمك { مَا ٱلطَّارِقُ } وفيه تعظيم لشأن ‏الطّارق المفسر بما بعده هو‎: ‎‏{ٱلنَّجْمُ } أي الثريا أو كلّ نجم و{ ٱلثَّاقِبُ } المضيء لثقبه الظّلام بضوئه»‏‎.‎‏ نكتفي بهؤلاء المفسرين ‏حيث لا شيء آخر مختلف نوعيّا في التّفاسير العديدة الموجودة فهناك شبه اتفاق على أنّ الطّارق هو جرم سماوي مثل الكوكب أو ‏النّجم إذ لم يهتموا بالموضوع حيث لم يكن يعرف اختلاف طبيعتهما في الماضي، فالمهم هو ظهوره ليلا ولذلك سمّي طارقا وضوؤه ‏يثقب الظّلمة.‏
تفسير حديث-قديم
نكتفي بتفسير «التحرير والتنوير» لابن عاشور (ت 1393 هـ) الذي يكتب «و { الطارق }: وصف مشتق من الطّروق، وهو ‏المجيء ليلاً لأنّ عادة العرب أنّ النّازل بالحيّ ليلاً يطرق شيئاً من حجر أو وتد إشعاراً لربّ البيت أنّ نزيلاً نزل به لأنّ نزوله ‏يقضي بأن يضيّفوه، فأطلق الطّروق على النّزول ليلاً مجازاً مرسلاً فغلب الطروق على القدوم ليلاً‎.‎‏ و{ ما أدراك } استفهام ‏مستعمل في تعظيم الأمر،وقوله: { النّجم } خبر عن ضمير محذوف تقديره: هو، أي الطّارق النّجم الثّاقب‎.‎والثّقب: خرق شيء ‏ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النّور في خلال ظلمة اللّيل. شبّه النّجم بمسمار أو نحوه، وظهورُ ضوئه بظهور ما يبدو من المسمار ‏من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لَوح أو ثَوب‎.‎‏»‏
يمكن أن نواصل في سرد أمثلة لتفاسير أخرى ولكن لا نرى في ذلك فائدة إذ تعيد كلّها تقريبا نفس المعاني وندعو القارئ الكريم  ‏لمراجعتها. ولقد اعتبرنا تفسير بن عاشور الحديث زمنيّا قديما باعتبار تبنّيه لما قيل منذ مئات السّنين. ‏
السماء ‏
من خلال مطالعتنا للتفاسير لاحظنا أنّ المفسرين لا يفصحون عن مدلول السّماء المعني بالآية إلاّ أنّهم يتبنّون طبعا وبشكل بديهي ‏المعنى السّائد. فما هو معنى السّماء الذي كان سائدا عند نزول الوحي؟ كان النّاس يعتقدون على الأقل منذ أرسطو (القرن 4 ق م) ‏أنّ الأرض ثابتة وأنّ الشّمس والقمر والكواكب والنّجوم تتحرّك في أفلاك دائريّة مكوّنة من كرات من الكريستال. وفي نموذج ‏بطليموس الذي ساد من القرن 2 إلى بداية القرن 17 م وهو تعديل لنموذج أرسطو، تحتل الأرض مركز الكون وتحيط بها ثماني ‏كرات تحمل على التوالي القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشتري، زحل وأخيرا النّجوم الثابتة. ورغم عدم وجود أيّة ‏إحالة في القران الكريم على ذلك التّصور للسّماء إلاّ أنّ المفسرين اعتمدوه ضمنيّا وهو ما نجده مثلا في تفسير الجامع لأحكام ‏القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) حيث نقرأ  «قوله تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } قَسَمان: «السماء» قَسَم، و«الطارق» قَسَم. والطّارق: ‏النّجم. وقد بينه الله تعالى بقوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ * ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ}. واختلف فيه؛ فقيل: هو زُحَل: الكوكب الذي في السّماء ‏السّابعة؛ وقال ابن زيد: إنّه الثُّريا. وعنه أيضاً أنّه زُحَل؛ وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجَدْي. وعنه أيضاً وعن علي بن أبي طالب ـ ‏رضي الله عنهما ـ والفراء: «النّجم الثاقِب»: نجم في السّماء السّابعة، لا يسكنها غيره من النّجوم». واضح جدّا إن القول بأن زحل في ‏السّماء السابعة هو إحالة مباشرة للتّصور القديم للكون وسماواته السّبع.‏
هوية النجم
أما عن هويّة النّجم الطّارق فإنّ هناك اختلافا كبيرا أيضا. فهل هو اسم جنس يشمل سائر النّجوم أم نجم بعينه أم جرم آخر؟ لقد ‏رأينا في التّفاسير القديمة أنّ هناك سعي لتحديد النّجم. فهناك من قال بأنّه زحل وآخر قال أنّه الثّريّا وآخر الجدي وآخر كوكب ‏الصّبح وغير ذلك. بل هناك من قال إنّ الوصف ينطبق على الشّهب معتمدا على الآية «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ» [4] وآخرون يرون عكس ذلك مثل سيد قطب الذي يقول أنّه لا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من الآية ولا ضرورة ‏لهذا التّحديد بل إنّ الإطلاق أولى ليكون المعنى: والسّماء ونجومها الثّاقبة للظّلام، النّافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء. هناك ‏اختلاف في تحديد المراد من الطّارق هل هو وصف لكلّ نجم أم لجرم بعينه، لكن هناك اتفاق بأنّه جرم سماوي باعتبار ظهوره ليلا ‏وهو أحد معاني كلمة طارق لغة.‏
يمكن القول إذا بأنّ هناك شبه إجماع على أنّ الطّارق هو النّجم، مع بعض من قال بالكوكب، باعتبار ظهوره ليلا وعادة العرب ‏تسمية الآتي ليلا طارقا مع بعض الاختلاف في تحديد ما هو وانّه يثقب الظّلمة بضوئه. وفي مثل هذه التفاسير لا يمكن للمرء في ‏عصرنا الحاضر أن يستشعر حقّا عظمة ما أقسم الله به أي السّماء والطّارق إذ لا يعدو أن يكون موضوع القسم في تلك التّفاسير إلاّ ‏وصفا لما تعوّد عليه النّاس من ظهور للنّجوم ليلا وقدرة ضوئها على الانتشار خلال الظّلمة فضلا عن انعدام تام للتّساؤل عن ارتباط ‏السّماء بالطّارق في هذا القسم وكأنّ عطف الطّارق على السّماء أمر بديهيّ ولا يستحق التدبّر. ‏
في الجزء الثاني نتناول إن شاء الله بعض التّفاسير الجديدة والتي يرى بعض من أصحابها أنّ الطّارق هو النّجم النّيتروني وآخرون يقولون بأنّه ‏الثّقب الأسود بعدما نقدّم بالطّبع هذين الجرمين السّماويين كما يتصورهما العلماء في الفيزياء الفلكيّة الحديثة.‏
الهوامش
[1]   مفهوم الجذر عند النحاة العرب القدماء. ترجمة مبارك حنون. جذور. العدد 37. يونية 2014. ص 58‏
[2]   ‏دلالة التعبير المجازي وأثرها في فهم الخطاب القرآني. عرابي احمد. جذور. العدد 36. مارس 2014. ص 226‏
[3] سورة الطّارق - من الآية 1 إلى الآية 3                         [4] سورة الصّافات - من الآية 10