في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
إزاحة المراكز العلمية بعد التحولات الكبرى
 مقدمة
ليس للعلم وطن يأوي إليه إلاّ عقول العلماء، وحين يشعر العالم أو حتّى «محبّ العلم» في مكان ما أن عقله مهدّد بالانقراض وإدراكه ووعيه في تناقص مستمر يهرب فورا، حتّى ولو كان ذاك المكان وطنه الذي فيه جذوره وفروعه، لكنّه في الوقت نفسه يكون مستعدّا للبقاء فيه مدافعا عنه حتّى ولو هدّد الخطر حياته إذا شعر أنّ بقاءه في وطنه يحمي وطنه من خطر الفناء وكان حبّ الوطن نابعا من اعتقاد راسخ أو كان هو بذاته اعتقاد راسخ وفي بعض الحالات يكون حبّ الوطن أقوى من المعتقد. وقد تحقّقت الحالتين في بلد واحد بل وفي ظرف واحد، فالبلد كان ألمانيا، والظّرف السّياسي كان النّازية، وكان الظّرف الزمني هو الحرب العالمية الثّانية، حيث بلغ عدد الذين انضمّوا الى الحزب النّازي من الفيزيائيّين الألمان ما نسبته 44.8 % . 
أما البعض الآخر من العلماء فقد تعامل مع النّازية من منظور ايجابي لهذه العلوم سعياً وراء تحقيق انجازات لخدمة قضيّة الإنسان كان من هؤلاء «فيرنر هيونبرج» صاحب مبدأ عدم اليقين والذي ارتبط اسمه بتطوير قنبلة ذريّة للرّايخ الثّالث، و«فون براون» عالم الصّواريخ. وقد دافع بعض هؤلاء عن النازية وبحثوا عن مبرّرات علميّة لها، والبعض الآخر من أمثال «اينشتاين» و«هابر» و«راينر فايس» كانوا أمثلة بارزة لضحايا النّازية التي أجبرتهم على ترك وطنهم ألمانيا، ومنهم من ظلّ في ألمانيا واكتوي بنارها مثل «ماكس بلانك». 
من ذلك يبدو أنّ العلم في ظاهره كشيء حيادي ليس له علاقة بهذا أو بذاك، ولكنّ الأمر ليس كذلك فالعلم حركة تبدأ في أدمغة العلماء ثمّ تدور في المجال العام للدّولة، وبدون عمل سياسي حقيقي خاضع لأدوات تداول السّلطة فإنّ إدارة الشّأن العام ستفشل[1]، وتضيع بذلك مصالح الجميع وتدخل الدّولة نفق التّحولات الكبرى مثل الحروب والصّراعات والاستبداد وهي من صنع السّاسة الميكافيليين ابتداء والذين أصبحوا تجّار بشر في صورة سياسيّين.
تحول المركز العلمي للحضارة  في التاريخ القديم
بعد الاحتلال الفارسي لبلدان الشرق الأدنى، في عهد «قورش الثاني» (559 - 529 ق.م.) وفي عهد ابنه «قمبيز الثاني» (529 - 521 ق.م.)، هاجر الكثير من علماء الشّرق الأدنى إلى بلاد اليونان. وفي عام 480 ق.م احتلّ الفرس آسيا الصغرى بقيادة «أحشويرش الأول» بعد معركة «ثرموبيلاي» انهزم فيها الإغريق بقيادة «ليونيداس» ملك إسبرطة، واتّجه الفرس إلى أثينا وأحرقوها؛ وقد أدّى هذا الاحتلال إلى تشتّت فلاسفة اليونان وعلمائها في أرجاء الغرب الأوروبي؛ بل إنّ الكثير من مدنها قد أُفرغت من مثقّفيها مثل مدينة «ملطية» التي تقع في منطقة «شرق الأناضول» قرب نهر «الفرات» في تركيا والتي انتهى عهد ازدهارها العلمي منذ سقوطها بيد الفرس 546 ق.م.
وتؤكد المراجع أنّ المدرسة «الفيثاغورثية» في جنوب إيطاليا قد تأسّست على أيدي أحد العلماء المهاجرين من آسيا الصغرى بعد هذا الاحتلال. 
اكتسح الاسكندر المقدوني (356 -  323 ق.م.) بفتوحاته العسكرية مراكز الحضارات الشّرقية المعروفة آنذاك، وأصدر أوامره إلى قادة جيشه أن يجمعوا لأستاذه أرسطو (322 ق.م.) كلّ العيّنات العلمية التي طلبها؛ وقد أصبحت هذه العيّنات فيما بعد نواة لأوّل متحف ومكتبة يونانية، هذا بالإضافة إلى أنّها وفرت لأرسطو المادّة العلميّة اللاّزمة لأبحاثه الشّخصيّة. كما بنى الإسكندر مدينة الاسكندرية 331 ق.م. لتكون عاصمة جديدة لإمبراطوريته، والتي ستتحوّل في عهد خلفائه البطالمة إلى مركز علمي متميّز في عالم البحر المتوسط. شكّلت هذه الحروب معبرا انتقل خلاله تراث الشّرق إلى بلاد اليونان.
الحرب كمركز جذب وطرد
لا توصف الحرب في ذاتها بذمّ ولا مدح وإن كانت مذمومة في الذّاكرة لما تخلفه من آثار فقد أرواح المحبين، وآهات الثّكالي المحزونين، لكن لولا الحرب العالميّة الثّانية مثلا لتأخّرت معظم الاكتشافات الحديثة ربّما أكثر من مائة عام. لذلك أرى أن الحرب هي أكثر ممّا يهدّد العقل وينميه في آن واحد، فإذا كانت قضيّة الحرب عادلة وليست لعبة بين أمراء السّلطة والسّلاح حيث تحصد فيها أرواح طبقات لحساب طبقة أخرى، في هذه الحالة تنصهر قلوب وعقول العلماء لأجل ابتكار أدوات الدّفاع عن وطنهم، لكن إذا زاد الخطر لدرجة تهدّد الوجود فإنّهم فورا ينزحون إلى مكان آخر أكثر أمنا على عقولهم وحضارتهم وهويتهم، وهذا هو عين ما حدث في هجرة علماء الامبراطوريّة الرّومانيّة وريثة الحضارة اليونانيّة عقب فتح القسطنطينية. وأمّا إذا كانت قضية الحرب غير عادلة فهذا يعد من أكبر عوامل عدم الاستقرار المتمثّل في طغيان طبقة تريد حصد كل المكاسب والمزايا علي حساب باقي أبناء الوطن الواحد، تبث هذه الحالة الخوف في نفوس كل النّاس وأكثر النّاس إدراكا لذلك بل وأسرعهم هم العلماء، وإذا أضيف إلى هذا الجو الفاسد التهكم من العلماء ومحاولة إفقارهم فإنهم يهاجرون ويهجرون مخلفين وراءهم فراغا علميّا يملؤه الجهل والجهّال ولا شكّ وهم في ذلك بين أمرين كلاهما مرّ، الأول هو البقاء في ذلك الوطن المخيف والخوف على عقولهم من الانقراض وربّما علي الحياة نفسها من الاستبداد، والثّاني هو ترك الوطن ينزف هجرة عقول أبنائه وهم رأس مال الوطن الحقيقي. 
وقد قدّر بعض الدّارسين خسارة عالمنا العربي من هجرة هؤلاء النّاس بما قيمته 200 مليار دولار حيث حذّر تقرير أصدرته الجامعة العربيّة من أنّ الوطن العربي خسر 200 مليار دولار بسبب هجرة الكفاءات العلميّة والعقول العربيّة إلى الدّول الأجنبيّة، ودعا إلى السّعي لاستعادة هذه العقول، لاسيّما في ضوء التّفوق التّقني الإسرائيلي، وتحوّل الصّراع العربي الإسرائيلي تدريجياً إلى صراع تفوّق تقني[2]. يهاجر العالم في هذه الحالة  في سبيل بقاء عقله مفكّرا في المركز العلمي الجديد والآمن. هذا المركز الجديد نفسه قد يساعد بعض المستبدّين بشكل مباشر أو غير مباشر على بقاء الحال على ما هو عليه لتظلّ هجرة صفوة العقول باتجاهه هو.
تحول المركز العلمي من «القسطنطينية» إلى «روما» 
المتتبّع لصيرورة النّهضة والتّنوير الأوربيّين وهي تلك الفترة التي امتدت من العصور الوسطى وصولاً إلى العصور الحديثة يجد أنّها بدأت في التّشكل مباشرة بعد لحظة زمنيّة مضيئة في التّاريخ الإسلامي وهي سقوط الامبراطوريّة الرّومانية الشّرقية متمثّلا في سقوط عاصمتها «القسطنطينية» في عام 1453م على يد «محمد الفاتح» والتي ظلّت لأكثر من إحدى عشر قرناً درعا واقيا لأوروبا من أخطار الغزاة الآسيويين، فضلاً عن كونها حامية المسيحيّة الأوروبيّة الأرثوذكسيّة. 
على إثر ذلك السّقوط أقدمت كوكبة من علماء القسطنطينية (المسيحيّين بالطبع) على اتخاذ قرار الهجرة إلى إيطاليا وتمكّنوا بذلك من نقل ذخائر الكتب الإغريقيّة التي تحوي مفاتيح العلم اليوناني بل وما تركه الإغريق من تماثيل وأدوات قديمة. يعدّ ذلك انزياحا اختياريا - لكنّه ولا شكّ كان تحت تأثير القساوسة الذين دعوا بزعامة البابا «نيقولا الخامس» إلى تجهيز حملة صليبيّة لاستعادة القسطنطينيّة من قبضة الأتراك العثمانييّن ونظراً لعدم تحمّس الدّول الأوروبية لهذه الفكرة، والخوف من استثارة عداء العثمانيّين من جديد، فلم تخرج هذه الدعوة إلى التنفيذ بشكل جدّي. ثم تولى «البابا كالستوس» الثالث زمام الإدارة البابويّة، وأعاد فرض ضريبة العشر من أجل تمويل أسطول بحري لاستعادة مدينة «القسطنطينية». لكن ذلك الأسطول لم ينجح سوى في الحصول على بعض الجزر في بحر «إيجه» التي سرعان ما استردها العثمانيون.- انزاح مركز الحضارة من «القسطنطينية» إلي «ايطاليا» حيث تبوأت مكانتها كوريثة للثقافة البيزنطية والفكر اليوناني، وكنواة لبزوغ فجر النهضة الأوروبية الحديثة. حدث ذلك بالرغم من أن «محمد الفاتح» وافق على أن يظل السّكان تحت رعاية مذهبهم الأرثوذكسي، بل وأمر بالإفراج عن البطريرك البيزنطي لكنيسة القسطنطينية الأرثوذكسيّة، وأعاد تنصيبه بعد عام واحد من الفتح. 
أدّى هذا أصلا إلى تكريس مبدأ الانفصال التّام بين كنيسة «القسطنطينية»، وكنيسة «روما» إلى الأبد، بل أنّه جعل السّكان الأرثوذكس ينظرون إليه باعتباره حامي الأرثوذكسيّة الشّرقية، بعد أن تمتّعوا بحرّية العبادة وفق مذهبهم ودون خوف من هاجس الاتّحاد الكنسي.  فيما بعد تحوّل السّكان الأرثوذكس البيزنطيّون نحو الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا المسيحيّة. 
محاولة تثبيت المركز العلمي في الغرب
لضمان استقرار المركز العلمي وعدم انتقاله إلى مكان آخر كان ولابد من ضمان قدر معقول من الاستقرار السّياسي مبني على حرّية الممارسة واحترام القانون فتبنّوا مبكّرا نظاما ديمقراطيّا مستلهمين كتابات أفلاطون في الجمهوريّة وأنتجوا فلسفة عقلانيّة تصلح كأرضيّة لدراسة العلوم الطبيعيّة بعيدة عن السّحر والشعوذة. واعتمدت اللّغة الوطنيّة في معظم الأماكن واستعملت بدلا من اللّغة اللاّتينية التي كانت لغة رجال الدّين وكانت بمثابة اللّغة الرّسمية للعلم والثّقافة، واستثمرت الهجرات التي كانت ولاشكّ نتاج الخوف والتّخويف من «الإسلام» ذلك الدّين الجديد الذي يغزو أوروبا. 
وبالرغم من طغيان الجانب الأدبي والعلمي المتمثل في إحياء الدّراسات القديمة، إلاّ أنّه ولأجل الحفاظ على الكيانات السّياسية الدّينية والاجتماعيّة التي اجتاحتها الدّولة العثمانيّة أنشأ التّجار الأوروبيّون أوّلا عدداً من المدن التّجارية ومن أبرزها: «فلورانسا»، و«ميلان»، و«البندقية» وغيرها من المدن ووفّروا لها سلطة قضائيّة وتشريعيّة من أجل المحافظة على تجارتهم وأموالهم. 
ساعد كلّ ذلك على ظهور الكثير من الأفكار الفلسفيّة والحركيّة مثل أفكار «ميكافيلي» و«جون رودان»، والاكتشافات الجغرافيّة التي مهّدت لتراكم رأس المال لبعض الدّول كأسبانيا وإيطاليا والبرتغال نتيجة لاكتشاف واستغلال مناجم الذّهب والفضّة في أمريكا اللاّتينيّة. كما ساعد إحياء الدّراسات القديمة خصوصا الدّراسات الإغريقيّة اللاّتينيّة القديمة على جذب اهتمام العلماء في أوروبا، فعكفوا على دراستها وترجمتها إلى اللّغات الوطنيّة المحليّة ممّا ساعد على زيادة المعرفة لدى أغلبيّة الشّعب. وبعد خمسة قرون من استقرار المركز العلمي في الغرب إلاّ أنّ هناك ثمّة مخاوف لديهم من انهيار الحضارة أو انتقالها إلى مركز آخر، وأوهام لدينا أنّ ذلك وشيك.  فثمّة فرق جبارة من العلماء والمهندسين يعكفون على تطوير حلول باستخدام نماذج رياضيّة متطوّرة من نموذج الفريسة والمفترس تمكّنهم من النّاحية النّظرية تفادي أخطاء الحضارات السّابقة. 
فقد قام «صفا موتيشارعي» أحد الباحثين من جامعة «مريلاند» بنمذجة المجموعات السّكانية البشريّة على أنّها حيوانات مفترسة، والموارد الطّبيعية على أنّها فرائس، ثمّ قسّم مجموعة «الحيوانات المفترسة» إلى مجموعتين غير متساويتين، مجموعة الصّفوة الثريّة ومجموعة الأفراد العاديّين الأقل ثراءً، فوجد أنّ من شأن حالة التّفاوت البالغة أو استنزاف الموارد دفع المجتمع إلى الهاوية، لكنّ الانهيار لا يكون كلياً إلاّ إذا صادف اجتماع الظّرفين، «إذ يغذي أحد الظرفين الآخر». فالثّراء يحمي الأثرياء من آثار استنزاف الموارد مدّة أطول مقارنة بغير المقتدرين، لذلك يقاومون النّداءات المطالبة بتغيير إستراتيجي، حتّى فوات الأوان. وهو نذير شؤم بلاّ شك للمجتمعات الغربيّة التي بلغت درجات خطيرة من عدم التّساوي، ولاسيما أنّ نسبة الـ1 % الأكثر ثراءً في العالم يملكون الآن نصف الثّروات، وفق أحدث التّحليلات [3].
المراجع
[1]  ماكس فيبر، «العلم والسياسة بوصفهما حرفة» ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة - بيروت 2011
[2]  محمد عبده يماني، هروب العلماء العرب إلى الغرب لماذا ؟» جريدة عكاظ  الأربعاء 10 سبتمبر 2008م .
[3]  زينا العاني مغربل،  «هل الحضارة الغربية آيلة للسقوط؟»، مجلة الفيصل العلمية على الرابط
http://www.alfaisal-scientific.com/?p=2647