تمتمات
بقلم |
رفيق الشاهد |
غيروا نظاراتكم |
الطّقس ربيعي والسّماء صافية أكاد ألامسها من روعة نقاء الهواء. كيف لا ومنذ ساعة هطلت أمطار غزيرة أزاحت كلّ الغبار المنتشر في الفضاء، فغسلت الهواء ثمّ الأشجار والمنازل، فالأنهج والشوارع حتّى بان كلّ شيء برّاقا وتفتّقت الألوان الحقيقيّة للأشياء، فكانت زاهية في كلّ ما حملته الطّبيعة من اخضرار متفاوت الدّرجات والأزهار على كامل الطّيف القزحي من طبقة الأحمر إلى البنفسجي مرورا بالأصفر والبرتقالي . هل يستشعر الحركة من لا يدرك الألوان؟
أمّا ألوان المباني فكانت باهته من أثر القدم، إلاّ أنّها ساطعةٌ تصوّر بالخطّ الغليظ حدود كلّ ما تركته لمسات المدنيّة وشيّدته يد البشريّة، فصدحت تحت هذا الصّفاء وهذه الأنوار أثار مروره من هنا، وذاك الأحمر القاني في الأفق غير بعيدٍ عن وسط المدينة جدرانٌ من آجر مازالت عارية تشهد استمراره وتشبّثه بالمكان؟
دقّ جرس الباب ففُتِح على رجل كهل تجاوز الخمسين وربّما على باب العقد السّادس يشبه لكلّ منّا قريبا أو صديقا. واجهة الباب مستقبلة أشعة الشّمس مباشرة ممّا جعل تفاصيل الصّورة واضحة تمام الوضوح.
خرج الرّجل في ملابس خفيفة وقديمة تليق بيوم عطلة بالمنزل، مريول أحمر نصف كمّ وتبّان أزرق يلامس الرّكبة، أمّا القدمين فكانتا حافيتين. وقف بحذر على عتبة الباب ولم يتجاوز الدّرجة الأولى من السّلم ذي الأربع درجات ينظر بارتياح إلى من حوله ينشدون له في صوت واحد أغنية «عيد ميلاد سعيد». لم يبد عليه الاستغراب، قد كان ربّما متوقّعا مثل هذا الإخراج من زوجته وابنته الشّابة. عيد الميلاد يُحتفل به في كل سنةٍ، وعلى طول السّنين قد تتشابه المناسبات وتصبح اعتيادية. ولكن في هذه المرّة أرادت البنت والأم تسجيل حدث توقّعتا عمق آثاره وكم سيوثق هذا الحدث من روابط الحبّ والمودّة التي جمعتهم وكم ستدعّم ركائز البيت السّعيد.
لما انشغلت البنت الشّابة بآلة التّصوير المركّزة على أبيها دون سواه، أشارت المرأة إلى حقيبة بجانب زوجها. تناولها وأخرج منها علبة مزوّقة بعناية شديدة وشرع في فتحها بهدوء لا ينمّ على شغف اكتشاف الهديّة. أخرج من العلبة علبة أخرى لا أقلّها تزويقا ولا عناية ثم شرع من جديد يفكّ الأشرطة ويزيل ورق اللّف الجميل ليخرج علبة أخرى على شكل الدّمى الرّوسية. وأخيرا ودون أن ينفد صبره اكتشف بين يديه اللّؤلؤة التي غمز بريقها من فتحة الصّدفتين، إنها نظّارات سوداء.
هدية مثل هذه عادة لا تغري الشّباب والكهول ولا يفرحون بها إذا ما كانت من الماركات التّجارية المسجّلة والباهظة الثّمن. ولكن فرحة الرّجل هذا غريبة لأنّ هذه النّظارات الشّمسية وإن كانت جميلة وتحمل ماركة تجاريّة مميّزة، لا يدرك ميزاتها الأخرى إلاّ هو من عاش عمره دون ألوان. نعم لم ير هذا الرّجل قبل اليوم إلاّ بالأبيض والأسود وهذه النّظارات التي كانت حلما يراوده صغيرا في أيّامه الأولى بالمدرسة لمّا كان يرقّم أقلام الزّينة بحفر خط على القلم الأحمر وخطين على الأزرق وثلاثة خطوط على القلم الأخضر، وهكذا حفظ لكلّ رقم لونا من الألوان التي عادة ما تذوب في بعضها فتفقده حركة الأشياء، إلاّ أنّه بقى عاجزا عن تشفير هذه الألوان على الصفحة الورقيّة دون الاستعانة بأقرب أصدقاءه الذين أصبحت ضحكاتهم بريئة كلّما تلطخت رسومه. ثم صارت هذه النّظارات أملا أصبح يناشده منذ أعلمه طبيبه المباشر بتوفّر تقنيات حديثة تستجيب لحالته الخاصّة إلاّ أن تكلفتها مازالت جدّ مرتفعة وبقيت من حينها بعيدة المنال. فواصل اعتماده على رفيقتيه لاختيار ملابسة حتى تكون منسجمة. ولكنّ زوجته والبنت واصلتا التّواصل مع الدّكتور حتّى وصف لهما النّظارات ذات التّقنيات الجديدة وتداينتا وتعاونتا مع الأصدقاء في السّر والكتمان لتوفير هذه النّظارات العجيبة في هذه المناسبة السّعيدة.
نظّارات عجيبة فعلا. ولتدرك معنى العجب، تمعّن في الرّجل لما رفعها إلى عينيه. الرجُل كهلٌ رصينٌ لا يُتوقع منه القفز ولا الركض ولا حتّى الرّقص، وكان على عكس ذلك جامدا تصلّبت أطرافه وتعطّلت قسمات وجهه فبانت غير منسجمة. إنّه لا يعرف ماذا يفعل رغم تجارب السّنين وحكمة الكِبْر التي عادة ما تنقذ صاحبها في مثل هذه المواقف المحرجة. زلزال داخلي عنيف هزّ كيانه فبعثرت موجاته الحسّية هيأته الخارجيّة فبان مرتبكا ودون انسجام لولا بعض الحركات الإراديّة هذه المرّة عندما يزيح النّظارات قليلا نحو أنفه لينظر من فوقها ثم يعيدها ليصفعه مدٌّ من الابتهاج كلّما صعقه الفارق يقنعه من جديد أنّه لا يمكنه أن يرى من خلف الجدار إلاّ بقدر انفتاح النّافذة. بل تيقّن أنّه لم يعش طيلة عمره إذ هو يولد من جديد ويحيا حياة أخرى ملؤها الألوان بتضاريسها وظلالها وهالاتها وما تحمله من حركة.
أيّها السّادة، مهما طال السنْيُ من البئر لا يُجمع من الماء
إلاّ بقدر ما يتّسع الدّلو.. والحياة وإن طالت قصيرة
والعيش دون شغف أقصر.
|