بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
التَفكير البلاغي والفعل التَفسيري أعطاب الفهم وسيادة الوهم(1/3)
 المقدّمة: ‏
ما يزال سؤال المنهج في قراءة كتاب الله هو الحلقة الأكثر صلابة واستعصاءً على ‏الذّهن المباشر لهذا النّصّ، ولعلّ التّعويل على الأدوات المنهجيّة القديمة في الوقت الَذي ‏استجابت لمعطيات العصر الَذي ظهرت فيه فإنَها استحالت إلى أمر قاتل إلى هذا المعنى و‏إلى مقص للوعي الدّيني وإبعاده عن عتبات الحياة المعيشة، ممّا يساهم في عزل أصحابه ‏وإقصائهم من حياة النّاس وواقعهم، لأنّ الوعي القديم ليس من جنس الوعي الجديد. وأدوات ‏المعرفة ليست هي هي. وأسئلة العصر ليست هي أسئلة الماضي. علما بأنّ المعرفة هي رهينة ‏الأدوات التي تنتجها. وعليه فإنَ كلّ من أعاد استخدام أدوات المعرفة الَتي كانت في زمن ما ‏فإنَه لا ينتظر إلَا الحصيلة ذاتها. يقول آينشتاين في هذا الصّدد꞉«من الجنون أن تفعل الشَيء ‏نفسه مرّة بعد أخرى وتتوقّع نتائج مختلفة». ومن هذا المضيق توجّب على أصحاب النّظر أن ‏يساهموا في استنباط أدوات معرفيّة جديدة تنسجم مع الغاية الأساسيّة التي نزّل القرآن من ‏أجلها وهي التّدبّر وإعمال التّفكّر في القيل القرآنيّ. ومصداق ذلك بادِ في قوله تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ»‏ [1]. وكذلك في ‏قوله تعالى: « ‎أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»‏[2]. وليس خافيا أنّ صيغة ‏الفعل المتعلّق بالتّدبّر قد وردت في صيغة الجمع المنفتح على كلّ عقل وعلى كلّ فرد.‏
ولعلّ أهمّ ما يبدأ به الدّارس هو تشخيص الأعطاب المنهجيّة الموروثة، حتّى إذا ‏اتّضحت الأرضيّة النّظريّة القديمة وشُخّصت عيوبها، تسنّى للمرء أن يؤسّس نظرا مخالفا ‏ومتطوّرا وساهم في تأسيس إطار نظريّ جديد بإمكانه انتاج ثقافة جديدة تنهض على بلورة ‏علاقة جديدة بالنَص القرآني كي ينتقل من حالة الجمود إلى حالة الحياة. فماهي معالم المنهج ‏الموروث في فهم كتاب اللّه؟
‏ أعطاب المنهج التّقليديّ في تفسير القرآن:‏
لئنّ تعدّدت أعطاب المنهج التّفسيري الموروث في فهم كتاب اللّه، فمسّت أغلب مداخله ‏كأسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاصَ والعامَ، فإنّ هذا البحث (على ثلاث حلقات) ‏سيكتفي بأهمّ الأعطاب الهيكليّة الكامنة وراء ركود الفكر الدّيني الحالي، باعتباره امتدادا للوعي ‏الدَيني الموروث وباعتبار غياب ما يجعله يمُتَ بصلة إلى واقعنا المعاصر. ولعلّ من أهمَ هذه ‏الأعطاب꞉
القول بالتّرادف: ‏
نزل الوحي في سياق ثقافي مخصوص وإذ تطوَر هذا السَياق بتقدّم الزّمن فإنّ المسألة ‏اللّغويَة كانت محلّ تجاذب ونقاش حاد بين الرّأي وضدّه فصرنا أمام مدارس لعلّ من ‏أهمَها مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة ومدرسة بغداد وغيرها كثير. ورد في لسان ‏العرب أنَّ فعل ردف يعني: «ما تبع الشّيء وكلّ شيء تبع شيئا فهو ردفه وإذا تتابع ‏شيء خلف شيء فهو التَرادف والجمع الرّدافى. ويُقال جاء القوم رُدافى أي بعضهم يتبع ‏بعضا». قال تعالى꞉«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ ‏الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ»[3]     ‏
من هذا التعريف يتَضح أنَ التَرادف يعني التَقارب في المعنى بين لفظين أو أكثر دون أنْ ‏تُصبح هذه الألفاظ شيئا واحدا. ‏
‏ وقد كانت مسالة التَرادف محلّ تنازع بين مدرستين꞉ الأولى تقول بالتّرادف. والثّانية ‏تقول بعدم التّرادف في اللّغة. وصدى هذه المعارك بادِ في الكتب اللّغويّة. وقد أشار إليها ‏الرّمّانيّ في كتابه الموسوم بـ «الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى»[4] ‏. وحجّة نُفاة للتّرادف أنّ ‏الشّيء له اسم واحد وبقيّة الأسماء هي مجرّد صفات تدور حول هذا الاسم. ولمّا كان أهل اللّغة ‏فريقين بإزاء قضيّة التّرادف، فمنهم القابل بها، ومنهم الرّافض لها، فإنّ مردّ هذه القضيّة يعود إلى الخلط بين ‏الاسم وصفاته. «رُوي عن أبي عليّ الفارسي لمّا كان في مجلس سيف الدّولة بحلب أنّ ابن خالويه قال: أحفظ ‏للسّيف خمسين اسما، فقال أبو عليّ أنّه لا يحفظ له إلاّ اسما واحدا وهو السّيف، فردّ ابن خالويه: فأين ‏المهنّد والصّارم وكذا وكذا؟ فقال أبو عليّ: هذه صفات، فاعتُبر من ذلك أنّه لا يفرّق بين الاسم والصّفة» [5].‏
والمهمّ أنّ الثّقافة التي سادت في الحضارة الإسلاميّة كانت معتمدة على القول بالتّرادف. ‏وهو السّبيل الأيسر بالنَسبة إلى الأذهان. فصِرتَ تجد للسّيف سبعين اسماً وللكلب كذلك ‏وللأسد مثل ذلك أو أكثر. وقس على ذلك ما بدا في المناظرات العديدة والمناظرة المذكورة ‏تمثَل مجرَد نموذج منها.‏
إنّ أهمّ ما يميّز الثّقافة القائمة على التّرادف هو عدم الدّقّة. وقلّة الضّبط وعدم الوقوف على ‏الفويْرقات المعنويّة بين الالفاظ، فساد التّعميم. واتّجه التّفكير إلى التّساهل في فهم الأمور بالرَغم ‏من التّباعد الصّوتي بين الألفاظ التي اعتُبرت مُترادفة. فصار الأب يعني الوالد. والأمّ تفيد ‏الوالدة. والابن يعني الولد. والقرية كالمدينة. والزّوج كالبعل. وجاء مثل أتى. والتّبذير يساوي ‏الإسراف. والقرآن والذّكر والفرقان والكتاب والمصحف كلّها مترادفات. وبصير مثل مبصر، ‏وخرج على مثل خرج لـِ. وأبصر مثل رأى، وألقى كرمى، والسّكّينة مثل مُدية والتَمام مثل ‏الكمال، وقميص المُلك كقميص كاللَباس، وغير ذلك كثير. فضاعت الدّقة التي عمد إليها ‏الخطاب القرآني إبرازا لمصدره الإلهي. ولقد تميّز الوحي برمزيّة خاصّةٍ بدت في ضرب ‏المثل وقد أشار الله تعالى في سورة العنكبوت إلى أنّ هذا الخطاب لايعقله إلاّ العالمون. في ‏قوله تعالى꞉«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ»‏[6] ‏ ‏
فالتّرادف الَذي يعني تقارب الدَلالة بين لفظين كما سلفت الإشارة إليه تحوّل بحكم ‏الممارسة الثّقافيّة المتساهلة إلى اعتبار اللّفظين متماثلين إلى حدّ التّطابق حتى وإنْ تباعدت ‏الأصوات وتغيّرت الألفاظ والمخارج. ومن أنصار القول بالتّرادف نذكر ابن جنّي القائل꞉«‏هذا فصل في العربيّة حسن كثير المنفعة، قويّ الدّلالة على شرف هذه اللّغة، وذلك أن تجد ‏للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كلّ اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى ‏صاحبه»‏[7]. وقد تأثّر الفقهاء والأصوليّون والمفسّرون بهذا الرّأي ووظّفوه في أعمالهم و‏اجتهاداتهم، ممّا تتسبّب في ضبابيّة الرّؤى واختلاط المعاني بعضها ببعض. ففات الوعي الدّيني الشّيء الكثير ‏من الدّلالات العميقة واللّطائف الطّريفة.‏
وفي الطّرف المضادّ، نجد طائفة كبيرة من رافضي التّرادف وعلى رأسها نذكر أبا ‏العبّاس أحمد بن يحيى ثعلب وأبا عليَ الفارسي صاحب المناظرة المشار إليها آنفا. والدَّليل ‏على صحّة رأي هذه الطّائفة هو أنّه كلّما تغيّر المبنى تغيّر المعنى. ونتيجة ذلك أنّ فعل قعد ‏يتضمّن معنى لا يوجد في جلس. وقام لا تعني وقف.‏
والجدير بالملاحظة هو أنّ هذه القضيّة وإن تبدو بسيطة عند البعض فإنّها في حقيقة ‏أمرها مسألة فيصليّة في الحركة الفكريّة النّاهضة بالأساس على المفاصل اللّغويّة. فالقول ‏بالتّرادف يشدّ اللّغة إلى الدّوران حول ذاتها لترسّخ ثباتها في التّاريخ. وأمّا انعدام التّرادف في ‏الجهاز اللّغوي فإنّه يحيل على صيرورة دائمة وعلى تغيّر في الكينونة. فلربّما ظنّ البعض أنّ ‏المعطى اللّغوي معطى جامد وثابت، والحال أنّ الأجسام المادّية والكتل نفسها ليست ثابتة و‏لا جامدة في الطّبيعة. فمن باب أولى أنْ يتميّز المعطى اللّغوي بالحيويّة نظرا لارتباطه ‏بالإنسان ارتباطا حيويّا. فالمعطى الواحد يهب في وقت محدّد معنى ويهب معنى آخر ودلالة ‏أخرى بمجرّد التّغيّر في الإطار الزّماني والمكاني. « فاللّغة ليست محض وسيط اتّصال ‏محايد، بقدر ما تعكس نظام تفكير كامن خلف الألفاظ و شبكة العلاقات التي تقوم بينها»‏ ‏[8]. و‏المهمّ في كلّ ذلك أنّ هذا النّظام الذي تعكسه اللَغة ليس نظاما ثابتا ولا جامدا.وهو ما يُذكّر ‏بقولة «فارديناند دي سوسير» المتمثَلة في: «إنّ الإنسان الّذي يزعم تكوين لغة ثابتة تامّة ينبغي على الأجيال ‏اللاّحقة أن تقبلها كما هي، هو أشبه بالدّجاجة الّتي احتضنت بيضة بطّة»‏[9] .ثمّ إنّ علاقة العقل ‏التَجسيدي باللّغة ليست كعلاقة العقل التَجريدي بها. فبعض الصّفات عند أصحاب العقل الأوَل ‏تتمحّض بحكم العادة اللّغويّة إلى أسماء. وقد أشار إبراهيم أنيس إلى هذه العمليّة في قوله: «هناك صفات تفتقد عنصر الوصفيَة مع مرور الزَمن و تصبح اسماء لا يلحظ الكاتب أو ‏الشّاعر ما كانت عليه، فيؤدي هذا إلى التَرادف» ‏[10]‏. وهكذا اختلطت الأسماء بالنَعوت والتبست الذّوات بالصّفات .‏
وما من شكّ في أنّ اللّغة الإلهيّة لغة تتميّز بالدّقة الخارقة، وإن التَزمت بقواعد اللّسان. و‏إعجازها إنّما يكمن في هذا التّزاوج بين الالتزام بمجريات الألسن من جهة واختراق هذه ‏المجريات بالحمولة المعرفيّة الجديدة. ومن هذا المنطلق ترسم الفوارق بين أساليب الشّعر و‏أدواته وأساليب القرآن وآليّاته. والمهمّ أنّ خطورة هذه المسألة تتجلّى في ارتباط اللّغة ‏بالتّفكير ارتباطا و ثيقا. فمن لا تستقيم لغته لا يستقيم تفكيره. أو قل يكون تَفكير المرء مطبوعا ‏بالطّابع الذي ترسمه اللّغة المستعملة بما تمليه من مبادئ ورؤى. واللّافت في كُتب التّفسير ‏أنّها ولجت إلى عوالم النّص القرآني بأدوات رُسمت في حقيقة أمرها لفهم النّصوص الشّعريَة. ‏فاختلطت الأمور لأنّ طبيعة النّصيْن ليست من جنس واحد. وهو ما يُحيل على العطب ‏المنهجي المُوالي.‏
‎ الهوامش: ‏
[1] سورة  ص 38 ، الآية 29‏
[2] سورة محمد ،47 الآية 24‏
[3] سورة الأنفال 8 ، الآية 9 ، ،  د ت، ابن منظور،  لسان العرب ، مجلد 9 ، دار إحياء التَراث العربي،  بيروت لبنان مادَة « ردف» ، ص ص ‏‏114 115‏
[4] ابو الحسن علي بن عيسى الرَماني،  الألفاظ المترادفة꞉ المتقاربة المعنى، تحقيق  و دراسة فتح الله صالح علي المصري ، دار الوفاء ‏للطباعة و النشر و التوزيع، دمياط، مصر، ط3 ،سنة 1992 ‏
[5] جلال الدّين السّيوطي، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، تحقيق محمّد أحمد جاد المولى وآخرون، طبع عيسى الحلبي، القاهرة، ج1، ص 405.‏
[6] العنكبوت 29، الآية 43‏
[7] ابن جني الخصائص ج 2  تحقيق محمَد عليَ النَجار المكتبة العلميَة القاهرة القاهرة سنة  و بالتَحديد بابا في  تلاقي المعاني على اختلاف ‏الأصول و المباني 1952 ص 113‏
[8] علي مبروك، نصوص حول القرآن ꞉في السَعي وراء القرآن الحيَ، المركز الثَقافي العربي،  الدار البيضاء، المغرب، ط 1 ،سنة 2015، ص ‏ص 13 14‏
[9] انظر جاك ، داريدا الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمّد علال سيناصر، دار توبقال للنّشر، ط2، 2000، ص ‏‏116.‏
[10] ابراهيم أنيس، في اللَهجات العربيَة، مكتبة الانجلو المصريَة، القاهرة، 2003، ص 158‏