حوار الحضارات

بقلم
عدلاني بن ثابت
معرفة الآخر ومحاورته ضرورة للتأثير والتأثر مناظرات أحمد ديدات نموذجا (1/3)
 مقدّمة
يختصُ علم مقارنة الأديان بالوقوف على حقيقة المعتقدات الدّينية والتّعرف على مدى صحّتها وما تشابه منها ومواطن الخلاف بينها، وباعتبارنا نفتقد رصيدا معرفيّا وعلميًّا مقبولا لا يعتدُّ به في علم الأديان يساعدنا على تطوير وتحسين علاقتنا بالآخر المختلف عنا دينيًا وثقافياً ولغويّا ويفتح أعيننا على قيم الحوار والتسامح والتفاهم فلاخلاف أنّ فكرة حوار الأديان قديمة قدم الأديان نفسها وذلك بسبب حاجة الأفراد والجماعات الى حوار من هذا القبيل تفاديا لشن الحروب الدينية وأملا في إشاعة الأمن والتعايش والاستقرار. وقد قدّمت الحضارة العربيّة الإسلاميّة في العصور الماضية نماذج من هذا الحوار تجسدت في الجدل الإسلامي المسيحي والجدل الإسلامي اليهودي وفي المناظرات الدينية وفي الكتب الكثيرة التي يمكن أن ندرجها الآن ضمن ما يعرف في العصر الحديث بعلم مقارنة الأديان. وستظل الأندلس الإسلامية خير مثال للتلاقح الثقافي والتّسامح الدّيني وحوار الحضارات. غير أنّ الجديد في حوار الأديان حاليا هو أنّه لم يعد وسيلة لتدبير الاختلاف داخل أمّة واحدة مثلما كان الأمر في الماضي بل أضحى أسلوبا للتّواصل بين الأديان المختلفة في العالم بأسره. فحوار الأديان كوجه بارز من أوجه العلاقات الدّولية وكمطلب غربي عربي ملح يجسّد الرّؤية المستقبليّة للعلاقة بين الثّقافات المختلفة فقد مرّ بعدة محطات لعلّ أبرزها وأكثرها أهمّية هو قيام فرنسا سنة 1937 بإرسال ممثّلين عن الكنيسة الى علماء الأزهر للتّحاور معهم بخصوص إمكانيّة توحيد الدّيانات الثّلاث. ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الرّاهن نٌظمت العشرات من المؤتمرات سواء في الوطن العربي أو العالم الإسلامي أو الغربي، لعلّ أهمّها انعقاد مؤتمر حقوق الأقلّيات الدّينية بالعالم الإسلامي بمرّاكش،المغرب بتاريخ 26،25 و27 جانفي 2016، والمؤتمر الثاني عشر لحوار الأديان بمدينة الدوحة بقطر أيام 16_17 فيفري 2016 تحت شعار «الأمن الرّوحي والفكري في ضوء التعاليم الدينية» وكلّ هذه المؤتمرات هي محاولات جادّة لخدمة مشروع حوار الأديان وإمكانات إيجاد عيش يحترم فيه الكلُ الكلَ.
 ومن هذا المنطلق اخترنا رجلا مسلما جسّد هذه القيّم وقام بتحوير في أدب الرّدود، فطوّر المنهج من التّقليدي المقتصر على الحديث عن الآخر الى الحديث والتّحاور والتّناظر معه في عقر داره، فقد اشتهر «ديدات» في أنحاء كثيرة من العالم بالمناظرات حتّى أصبحت ديدنه، فالمناظرة كما عرفها عبد الرّحمان حسن  «هي المحاورة بين فريقين حول موضوع لكلّ منهما وجهة نظر فيه تخالف وجهة الطّرف الأخر»(2)، فهي أسلوب اعتمد عليه «ديدات» في الرّدّ على النّصارى في الفضاء الأوروبي. وقد اقتبس الرّجل هذا المنهج حسب كلامه من القرآن الذي يدعو الى المحاورة ويطالب أتباعه بذلك في كلّ الأوقات والأحايين سواء أكان الأمر بين المسلمين أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم من أتباع الدّيانات الأخرى وذلك لأهمّية المحاورة من حيث أنّها ذات بعد إنساني لا تستقيم حياة النّاس في غيابها. ومن أمثلة ذلك ما جاء في القرآن من أمر بدعوة النّصارى الى التّحاور مع المسلمين بحثا عن الصّواب والحقيقة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (3)
ينطلق ديدات في مشروعه الذي أعلن عنه وهو محاورة ومناظرة النّصارى من النّص القرآني إذ صرّح، مستدلاّ بعدّة شواهد من القرآن، بكون هذا النّص يدعونا دعوة صريحة الى ضرورة الحوار مع الآخر والاعتراف به بغية الوصول الى الحقّ. وسنعمل في هذا القسم الأوّل على تأصيل مفهوم الاعتراف بالآخر من خلال النّص الدّيني الإسلامي الذي انطلق منه «ديدات» إذ يقول في هذا الصدد:«إنّ ديننا الإسلامي يدعونا ويحثّنا على أن نكون دعاة وأن نجادل المشركين وأهل الكتاب بالتي هي أحسن،قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (4) 
(1) الاسلام ونظرته للأخر
(أ) الايمان بوحدة أصل الأديان السّماوية
من الأصول الثّابتة في الإسلام الإيمان بأصل وحدة الأديان السّماوية التي أنزلها الله منذ فجر تاريخ البشر على وجه المعمورة وكلّف الأنبياء بتبليغها والدّعوة إليها. قال تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (5) فالإيمان بجميع الأنبياء من مستلزمات العقيدة الإسلاميّة ولن يكون المسلم مسلماً إذا لم يؤمن بالأنبياء جميعاً. ولاشكّ أنّ هذا الإيمان يشكّل أساساً لتعامله مع الآخرين من أهل الكتاب، قال تعالى: «قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون»(6) فأصل الإيمان برسالات الأنبياء السّابقين في صورتها الحقيقيّة البعيدة عن التّحريف والتّبديل يشكّل نقطة الانطلاق لدى المسلم في نظرته للآخر غير المسلم من أهل الكتاب وغيرهم والتّحاور معهم.
ومن يحاور أتباع الأديان السّماوية يجب أن يضع هذا الأصل نصب عينيه، فالأديان السّماوية في أصولها الصّحيحة ودعوتها إلى الإيمان بمبادئ الحقّ والخير والعدل واحدة، وكان الاختلاف في التّفاصيل والجزئيّات الفرعيّة التي اقتضتها مراعاة تطوّر البشريّة وتقدّمها العقلي والحضاري. قال تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ» (7). 
وبناء على هذا الأصل يضبط الحوار من بدايته وتتحدّد علاقة المسلم بشكل عام والمسلم المحاور بشكل خاصّ بغيره في نقطتين:
أولاً: إنّه يقرّ بما صحّ نزوله على الأنبياء السّابقين بمعنى أنّها في الأصل من عند الله، قال تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَان» (8).  وهاتان الآيتان تقرّران وحدة أصل الدّين ووحدة الحقّ الذي اشتملت عليه الكتب المنزلة من عند الله كالتوراة والإنجيل قبل أن تعبث بهما أيدي التّحريف والتّبديل، ولذلك أنزل الله تعالى القرآن «بِالْحَقِّ» «مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» أي للتوراة والإنجيل، وهذه الكتب الإلهيّة القرآن والتوراة والإنجيل غايتها واحدة وهي هداية النّاس: «هُدًى لِّلنَّاسِ». وهذا الكتاب الأخير أي القرآن هو «الْفُرْقَانَ» بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة السّابقة والباطل المتمثّل في الانحرافات والشّبهات التي ألحقت بتلك الكتب بفعل الشّهوات والشّبهات وعبث أيدي التّحريف والتّبديل.
ثانياً: ضرورة إقامة الدّين الحقّ ونبذ الافتراق من خلال تصحيح التّحريفات الحاصلة في الكتب السّماوية السّابقة وذلك من خلال عرض محتويات تلك الكتب على أسس ومبادئ الأديان المتّفق عليها من الحقّ والتّوحيد والخير والعدل والأخلاق والتي جاءت في القرآن الكريم في أوضح وأدقّ صورها. وهو – أعني القرآن – قيّم ومهيمن على الكتب السّابقة. ولاشك أن إدراك أصل وحدة الأديان السّماوية من قبل المتحاورين والشّعور بارتكاز تلك الأديان على المبادئ المشتركة عامل مؤثّر إيجابيّ على سير الحوار منذ البداية حيث أنّ الجميع ينطلقون من أرضيّة مشتركة توفّر لهم قدراً كبيراً من الشّعور بالتّفاهم والتفهّم.
(ب) الانطلاق من المشترك
يجمع الإيمان بوحدة أصل الأديان السّماوية أتباع هذه الأديان ويمكن أن يكون ذلك أساساَ لحوار جاد وهادف بينهم حيث يوفّر ذلك أرضيّة مشتركة للجميع للانطلاق. ومن هنا كان من أصول الحوار في القرآن الكريم أن يبدأ المحاور المسلم حواره مع غير المسلمين خاصّة أهل الكتاب منهم من النّقاط المشتركة التي عبّر عنها التّنزيل بـ « كلمة سواء» . قال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» (9) ولاشكّ أنّ تحديد النقاط المشتركة بين المتحاورين منذ البداية والبدء بها يساعد على تشخيص نقاط الخلاف وتحرير محلّ النّزاع ومن ثمّ محاولة معالجتها برويّة وتدرّج. كما أنّ العناية بالمشتركات يسهم في تقليل الفجوة بين طرفي الحوار أو أطرافها وتزيد من فرص التّلاقي والاتّفاق مع الطّرف الآخر. 
والكلمة السّواء التي ذكرها القرآن قد فُسّرت بأنّها ما لا يختلف فيه الرّسل والكتب، أي القرآن والتّوراة والإنجيل، ويفسّرها ما بعدها وهي عدم عبادة غير الله وعدم جعل الشّريك له وعدم اتّباع البشر كائناً من كانوا فيما أحدثوا من تحليل وتحريم. والجميع يقف أمام كلمة سواء على مستوى واحد فلا يعلو أحد على أحد ولا يتعبّد أحد أحداً، وهي كلمة عدل كما قال الطّبري «ولا يرفض الدّعوة إلى البدء من النّقاط المشتركة إلاّ من كان متعنّتا مفسدا لا يريد الرّجوع إلى الحقّ القوي» (10) 
إنّ هذه الآية تشكّل أساساً وأصلاً ثابتاً للحوار بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى، فهي تدعو الجميع، مسلمين ويهود ونصارى إلى الكلمة المتّفق عليها بين جميع الأنبياء والرّسل وليست مختصّة بأحد دون الآخر بل هي مشتركة بين الجميع وهذا الموقف في منتهى العدل والإنصاف في الحوار والجدال.
ولكن لسائل أن يسأل هل كان «ديدات» يريد الحوار لأجل الحوار عندما أصّل لمفهوم قبول الإسلام للآخر وضرورة التعامل معه أم أنّ لديدات رأيا آخرَ؟ وأيّ حوار وأيّ إعتراف بالآخر تحدّث عنه ديدات ؟ وهل الاعتراف به يعني الإقرار بما هو عليه ؟ أم هو مجرّد وسيلة لدعوته ؟
لديدات في هذه المسألة رؤية تكاد تكون مختلفة عن كثير من المسلمين الذين انبروا للدّعوة وللدّفاع والحوار باسم الإسلام في كلّ بقاع الأرض، فلئن كان يرى أنّ من هم على غير دين الإسلام على شفى جرف هار وهو موقف لايختلف فيه مع عامّة المسلمين، إلاّ أنّه يعتقد جازما أنّ الاعتراف بهم ومحاورتهم والاطّلاع عليهم حضارة وتاريخا ودينا وحتى العيش معهم ضرورة لابدّ منها. ولكن الإشكال الأهمّ حسب ديدات هو التّهم الموجّهة للإسلام من قبل الآخر المختلف دينيّا.
 الهوامش
(1) الكتابان هما «مناظرة العصر بين ديدات وأنيس شروش» وكتاب «هذه حياتي سيرتي ومسيرتي» 
(2) عبد الرحمان حسن حبنّكه الميداني،»ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة»،دار القلم للطباعة والنّشر والتوزيع،دمشق،ط4،1993،ص:37 
(3) سورة آل عمران - الآية 64  
(4)  محمد عبد القادر الفقي ،حوار ساخن مع داعيّة العصر ص 125  
(5) سورة البقرة - الآية 285  
(6) سورة البقرة - الآية 136  
(7) سورة الشورى - الآية 17  
(8) سورة آل عمران - الآية 3  
(9) سورة آل عمران - الآية 64  
(10) تفسير الطبري ـج3،ص 73