مدارس إسلامية

بقلم
يوسف لوكيلي
التصوف والعمل الاجتماعي
 لقد ترسّخ في ذهن الكثيرين أنّ الّصوفية هي مواجهة لتعقيدات المجتمع بالانسحاب منه والانفصال عن  الواقع، أو تجاوزه من خلال صناعة عالم افتراضيّ مغرق في الرّوحانيات، كمحاولة لتعويض العجز عن مواجهة العالم المادّي وإشكالاته المتزايدة. بل إنّ هناك من يجعل من التّصوف وكلّ الأمور الروحيّة شأنا خاصّا لا علاقة له لا بالمجتمع ولا بالشّأن العام. وهنا يجد سؤال علاقة العمل الاجتماعي بالصّوفية مشروعيّته،خاصّة إذا علمنا  أنّ العمل الاجتماعي – كما يدلّ عليه اسمه – فعل في الواقع وممارسة في الشّأن العام. إنّ البحث في علاقة التّصوف بالعمل الاجتماعي يقتضي تحديد مفهوم كلّ من المصطلحين .
أولا : التحديد المفاهيمي .
1. التّصوف :
في اللّغة : تشتق كلمة التّصوّف من فعل (صوَّف) أي جعله صوفيّا، و(تصوّف) صار صوفيّا، أي تخلق بأخلاق الصّوفية. والصّوفية فئة من المتعبّدين، وأحدهم الصّوفي (1). أمّا في الاصطلاح فقد تعدّدت التّعريفات واختلفت ولكنّي سأقتصر على ما يفي بالغرض منها، فقد عرّفه البغدادي بقوله: «التّصوف مبني على خصال: التّمسك بالفقر والافتقار، والتّحقق بالبذل، وترك الغرض والاختيار»(2) وعرفه ابن عجيبة رحمه الله بقوله: «التصوّف: هو علم يعرف به كيفيّة السّلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرّذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوّله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة»(3) 
والملاحظ في هذا التعريف ثلاثة أشياء أنّ التّصوف علم وعمل وتزكية للباطن .
2. مفهوم العمل الاجتماعي :
عرّف عبدالله العلي النعيم العمل الاجتماعي بقوله:«ونحن نقصد بالعمل الاجتماعي التّطوعي ذلك النّشاط الاجتماعي والاقتصادي الذي يقوم به الأفراد أو الممثّلون في الهيئات والمؤسّسات والتّجمعات الأهليّة ذات النّفع العام، دون عائد مادّي مباشر للقائمين عليه، وذلك بهدف التّقليل من حجم المشكلات والإسهام في حلّها، سواء أكان ذلك بالمال أو الجهد». (4) وعرف بأنّه «تضامن أبناء المجتمع، وتساندهم  فيما بينهم سواء أكانوا أفرادا أو جماعات، أو حكّاما أو محكومين على اتخاذ مواقف إيجابيّة كرعاية الأيتام ،ونشر العلم ...وغير ذلك بدافع من شعور وجداني عميق ...»(5) وهكذا يظهر أنّ العمل الاجتماعي هو سلوك تطوّعي لفرد أو جماعة يهدف إلى إصلاح المجتمع وبناء التآلف بين أفراده وجماعاته بدافع من قيم ثقافيّة ووجدانيّة عميقة  
 ثانيا :علاقة التّصوف بالعمل الاجتماعي:
من خلال  مفهوم التّصوف والعمل الاجتماعي يظهر أنّ التّصوف علم وتزكية موجّهة للسّلوك، وأنّ العمل الاجتماعي سلوك تطوّعي محتاج إلى علم يوجّهه وتزكية تنمّيه. وهنا تظهر حاجة كلّ منهما للآخر :
(أ)  حاجة العمل الاجتماعي للتصوف :
بالرّغم من أنّ العمل التّطوعي والاجتماعي أصبح ثقافة واسعة الانتشار في عالمنا المعاصر، بل أنّه في كثير من البلدان  تحوّل إلى مؤسّسات قائمة بذاتها تتفوّق أحيانا حتّى على مؤسّسات الدّولة في معالجة كثير من الإشكالات الاجتماعية، ولكن نظرة متعمّقة تجد أنّ العمل الاجتماعي رغم تقدّمه وانتشاره ومأسسته لم يستطع أن يحدث أثرا عميقا في بنيات المجتمعات المعاصرة، خاصّة بعد تعقّد العلاقات الاجتماعيّة وتزايد النّزاعات المادّية بل والتّأصيل لها فلسفيا…
ولعلّ من أبرز نتائج هذه النّزعة، تنامي روح الفردانيّة والأنانيّة في المجتمع، واعتبار المصلحة الخاصّة وتحقيق الربح الذاتي المرجع الوحيد الذي يحكم العلاقات الاجتماعية، « فالإنسان المعاصر  –حسب تعبير جون لوك - هو الصورة التاريخية للمستثمر الصغير الذي لا يحتاج إلى غيره في أثناء الإنتاج بقدر ما يحتاج إليه أثناء التبادل البضاعي» (6). إن اختصار العلاقات الإنسانية  في الجانب  ألمصلحي  فقط  نتج عنه الكثير من الإختلالات الاجتماعية كتزايد الفوارق الاجتماعية و،تنامي الحقد الطبقي وارتفاع وتيرة الجريمة ...
ولا يمكن للعمل الاجتماعي أن تكون له القدرة على مجابهة هذه التحديات والإشكالات إلا إذا كان مستندا إلى  مرجعية تربوية  متينة تؤصله في النفوس، وتوجهه الوجهة الصحيحة التي تجعله أكثر قدرة على التأثير بشكل أعمق في بنية المجتمع .
وهنا تظهر الحاجة إلى التّصوف بمعناه الحقيقي، ذلك التّصوف الذي يسعى إلى « إعادة بناء الإنسان، وربطه بمولاه فى كل فكر، وقول، وعمل، ونيّة، وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامة» (7) 
فنحتاج إلى الصوفية بداية كعلم نظري يمكن أن يواجه الفلسفات المادّية ليؤسّس لمرجعيّة بديلة – أو بالأحرى أصيلة - مرجعيّة مؤطّرة وموجّهة لسلوك الفرد في المجتمع، ومن جهة أخرى نحتاج إليه كآلية تربوية تغرس في نفس الإنسان الخير والعطاء والإيثار ..
وهنا تظهر علاقة التّصوف بالعمل الاجتماعي، فالتّصوف هو الإطار المرجعي الذي يمكنه أن يعطي للعمل الاجتماعي معنا عميقا في النّفوس يجعله أكثر فاعليّة وأبعد ما يكون عن  المصالح المادّية الضّيقة  التي تفسد الجانب التّطوعي فيه وتزيحه عن هدفه الحقيقي .
فالمصلحة الخاصّة والرّغبة الأنانيّة في الرّبح لا يمكن أبدا أن تكون مرجعا محفّزا للعمل الخيري، فالبرغم من  أنّ بعض الاقتصاديّين اللّيبراليين  من أمثال  «برنار دي مندفيل» يعتبر أنّ «الخير العام والمصلحة العامّة  ليسا إلاّ إكليل النّزاع  الفردي من أجل الحياة ...باختصار حبّ الذّات هو منشئ المجتمع المدني.» (8) 
والمقصود هنا أنّ العمل الاجتماعي والمصلحة الاجتماعية محكومة بتحقيق المصلحة الشّخصيّة ، فالإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعيّة يحقّق بذلك مصلحة شخصيّة أيضا، باعتباره فردا من هذا المجتمع الذي يخدمه. فعندما يساعد فقيرا ما مثلا، فإنّه يؤهله للاندماج في المجتمع ممّا سينعكس إيجابا على المجتمع وبالتالي على هذا الشخص، وعندما ينقذ حياة شخص ما فإنّه يفيد نفسه أيضا على اعتبار حياة هذا الشّخص تقوم بتقديم خدمة للمجتمع. وهكذا يظهر أنّ المصلحة الشّخصيّة والجانب النّفعي كافيان لتأمين المصالح الاجتماعية، مادام الأمر في الأخير يرجع إلى المصلحة الخاصّة والفرديّة.
غير أن هذه النظرية – كما عبر محمد باقر الصدر « أقرب إلى الخيال منه إلى الاستدلال. فتصوّر بنفسك أن المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الأمّة، إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة، على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكانت الدّولة توفّر للفرد حرّياته وتقدّسه بغير تحفّظ ولا تحديد، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟! وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعيّة بالفرد كافيا لتوجيه الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخلقية ؟!.مع أنّ كثيرا من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، وإذا اتفق أن كان فيها شيء من النّفع باعتباره فردا من المجتمع فكثيرا ما يزاحم هذا النفع الضئيل، الذي لا يدركه الإنسان إلا في نظرة تحليلية، بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية، تجد في الحرّيات ضمانا لتحقيقهاّ، فيطيح الفرد في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي»(9)  
باختصار فإنّ أي قانون وضعي أو أيّ فلسفة مادّية لا تصلح أن تكون مرجعا موجّها ودافعا للعمل الاجتماعي، فما الدافع لكي يضحي الإنسان بمصلحته الخاصّة من أجل الآخرين في غياب الدّين والأخلاق؟
ثم إنّ القوانين والفلسفات  الوضعيّة  محدودة زمانا ومكانا ومرتبطة بالوجود المادّي والاجتماعي  للإنسان، أو الوجود الواقعي المحسوس – حسب تعبير ابن عجيبة – غير أنّ العمل الاجتماعي والعمل الخيري عموما سابق في وجوده، ومرتبط بالوجود الرّوحي والفطري للإنسان الذي عبّر عنه  ابن عجيبة بقوله « أنه سابق على الكون ..فهو أول الكون ومنتهاه» (10)  
بل إنّ العمل الاجتماعي سابق في وجوده حتّى للشريعة باعتبارها مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن  مجموعة من القوانين المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة، فالعمل الاجتماعي والخيري ليس مجرد استجابة لأمر الهي والتزام بواجب شرعي بل هو استجابة لدوافع فطريّة مغروسة في الإنسان وهذا ما عبرت عنه  تلك الكلمات العظيمة التي طمأنت بها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها النّبي صلّى الله عليه وسلّم عقب أول لقاء له مع ملك الوحي بقولها: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ»(11) فذكّرته بمجموعة من الأفعال الخيريّة والاجتماعية التي كان يقوم بها النّبي صلى الله عليه وسلم  قبل نزول الوحي والتّكليفات الشّرعية، فعرفت بفطرتها أنّ فعل الخير أمر مستحسن، وأن فاعل الخير لا يمكن أن يلقى إلا خيرا. وفي الحقيقة فإنّ هذا الموقف يعكس الوعي الفطري بأنّ عمل الخير مستحسن وأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان، هذا الوعي الفطري هو الذي سيؤكّده الوحي بقوله تعالى:«هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» (12).
وإذا كان العمل الاجتماعي فطري في الإنسان فإن مرجعيته هي الفطرة التي قال عنها الله تعالى : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (13)
فأن الوجود الأول للإنسان هو وجود روحي  تتجسّد فيه الصمدانية الأزليّة لأنّ فيه ( أي الانسان) : الأوّلية والآخريّة، والظّاهرية والباطنيّة. فروحه أوّل الكون وتبقى بعد فنائه» (14)  
وهذه الرّوح الصّافية النّقية المليئة بقيم المعرفة والرّحمة والعطاء، قد تفقد هذه الخصائص الفطريّة- أو على الأقل شيء منها - بعد انشغالها بتدبير هذا الهيكل الطيني، غير أنّ الرّوح مع ذلك تحنّ إلى أصلها وتستطيع استرجاع ما فقدته عن طريق التّطهير والمجاهدة والتّزكية وهذا هو دور الصّوفية، أي تحفيز الجوانب الروحية والفطرية في الإنسان، ليحقّق الغاية من خلقه والمتجسّدة في قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (15)
والمقصود هنا مقام العبوديّة الاختياريّة والإراديّة لله تعالى وهذا هو المطلوب لا العبوديّة الاضطرارية ، لأنّ هذه الثّانية يشترك فيها المؤمن والكافر ،«فالشّرع جاء بالتعبّد- أي العبوديّة الاختياريّة – وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السّلام» (16) . وبهذا المعنى يتحرر الإنسان تدريجيا من العالم السفلي أو من  داع هواه « حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا» (17) 
ومتى رسخ هذا المعنى في قلب ونفس الإنسان حول أعماله وفي مقدّمتها العمل الاجتماعي من مجرّد سلوك عفوي تحرّكه الفطرة بين الفينة أو الأخرى ،أو مصلحة عابرة إلى عبادة  دائمة دافعها وقصدها واضح ومحدّد وهو رضا الله تعالى .
فيتحقّق بذلك المعنى الأصلي من العمل الاجتماعي ألا وهو التّطوع مصدقا لقوله تعالى : «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً» (18).
بل إنّ العمل الاجتماعي في هذه الحالة يتحوّل من تفضّل وعطاء إلى أخذ وإنماء فيتحوّل العطاء إلى آخذ، والآخذ إلى عطاء.  فقد كان الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه يقول لمن يسأله حاجته :«مرحبا بمن جاء يأخذ بزادنا إلى الآخرة».
إنّ هذا المعنى لا يدركه إلاّ من ترقى في المعرفة إلى أن لامست روحه نور الحقّ،فأدرك حقارة الدّنيا وما فيها، وبهذه الطّريقة يكون العمل الاجتماعي أكثر فاعليّة وإنتاجا لأنّه يتحوّل من  مجرد علاقة اجتماعية إلى تعامل مع الله تعالى من خلال الإحسان إلى خلقه  وهذا ما يجسده الحديث التالي «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة، يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا ربّ كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟، قال أما علمت أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنكّ لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنّك لو سقيته وجدت ذلك عندي» (19) 
ومن هنا يصبح العمل الاجتماعي طريقا إلى معرفة الله تعالى ، وهنا تظهر حاجة الصّوفية للعمل الاجتماعي. 
ب- حاجة الصّوفية إلى العمل الاجتماعي :
إنّ من أهم ما يقصد إليه التّصوف إصلاح القلوب، ولا يخفى ما للعمل الاجتماعي باعتباره عبادة من العبادات من الصّلة بالقلب على اعتبار أنّ أي عمل أو قول صادر عن جوارح الإنسان له علاقة بالقلب، فكما يقول الإمام الغزالي: «فمصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب، فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم، وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب»(20) فأنّها جميعها – أي الجوارح – خادمة للقلب ومسخّرة له، فهو المتصرّف فيها والموجّه لها، وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمرّدا ... وإنّما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزّاد لسفره الذي لأجله خلق، وهو السّفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه، ولأجله خلقت القلوب وإنّما مركبها البدن وزادها العلم. والعمل الصّالح هو الذي  يوصل القلب إلى الزاد ويمكّنه من التّزود منه .
وهكذا فإنّ العمل الاجتماعي لا يصدر إلاّ عن قلب مليء بحبّ الخير وقيم التّضحية والتّعاون ... فالأمر يحتاج إلى مجاهدة وصبر،وتنمية الرّوح الأخلاقيّة ونزعات الخير في نفس المرء، وغرس هذه الأخلاق والصّفات لا يتمّ إلاّ عن طريق العبادات والأعمال الصّالحة التي تسهّل عملية الاعتياد على السّلوك الأخلاقي، فتزكية الّنفس مقصدها فلاح النّفس « وفلاحها لا يكون إلاّ بالإعمال الصّالحة» (21).
وبذلك يتبيّن أنّ هناك علاقة جدليّة بين القلب والعمل الاجتماعي، بمعنى أنّه لكي يتحقّق المقصد من العمل الاجتماعي لابدّ من قلب مليء بقيم الخير والعطاء. ولنصل إلى قلب خيّر ومعطاء، لابدّ من العمل الصالح ومنه العمل الاجتماعي ، فكما قال الغزالي « فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منها  تتركّب الأدوية لأمراض القلوب» (22)   .
والعمل الاجتماعي يهدف إلى تحرير الإنسان من مجموعة من الشّهوات والأغلال التي تأسر النّفس وتمنعها من رؤية نور الحقيقة، وتكون عقبة للفاعليّة في المجتمع. وعلى رأس هذه الأغلال الأنانيّة وحبّ المال والكبر وغيرها ... وطريق ذلك اكتساب الأخلاق الحميدة المناقضة لهذه الرذائلّ، وهنا يأتي دور العمل الاجتماعي باعتباره نوع من المران الذي يحمل النّفس على الاتصاف بهذه الأخلاق الحميدة (23) . 
 يقول في ذلك الإمام الغزالي «اكتساب هذه الأخلاق –يقصد الأخلاق الحميدة – بالمجاهدة والرّياضة وأعني به حمل النّفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلّف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلّفا مجاهدا نفسه فيه حتّى يصير ذلك طبعا له ويتيسّر عليه فيصير به جوّادا...وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذه الطريقة. وغايته أن يصير الفعل الصّادر منه لذيذا فالسّخي هو الذي يستلذّ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة» (24) .     
كم هو جميل كلام الغزالي وفيه وصف دقيق للمقصد التّربوي للعمل الاجتماعي، فهو ليس فقط التّحرير من آفات النفس، ولكن أيضا ببعث روح الفاعليّة والجدّ في المسلم، ذلك أنّه ينقل مفهوم العطاء من مجرّد عمل عابر إلى فعل تستلذّه النّفس ، ممّا يدفعها إلى التّجرّد من أنانيتها وتعلّقها بالمال، فيصبح كلّ فرد من المجتمع يعيش لغيره متحرّرا من عبوديته  لنفسه...
فالحرّية –في الإسلام -لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد فذلك ما يتّفق مع طبيعة شهوته ولا يتّفق مع طبائع الوجود كما ركب عليه، ولكنّها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنّه مكلّف به وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين . وإيمان الإنسان بأنه مكلّف هو أول خطوة في حريته .
وهكذا، فليس من الصدفة أن يكون الإحسان مشتركا لفظيّا بين التّصوف والعمل الاجتماعي ، فالإحسان هو «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (25) وقد فسّر  ابن حجر العسقلاني العبارة بقوله «يغلب عليه مشاهدة الحقّ بقلبه حتّى كأنّه يراه بعينه» (26) وهذا هو مجال التّصوف، ويطلق أيضا على ( عمل الخير)  وهذا هو مجال العمل الاجتماعي، وهذا الاشتراك اللّفظي يشير بطريقة أو أخرى إلى أنّ الإحسان بمعناه  الأوّل أصل للثّاني، والثاني من ثمرات الأول .
 والزّوايا الصّوفية أعطت البرهان العملي على هذا الكلام، فهي لم تكُن فقط مكانا للتّعبد والتّنسك، والتّربية الرّوحية ،بل كانت أيضا مركزا اجتماعيّا بامتياز يأوي إليه الفقراء والمحتاجون والمساكين، فقد كانت تلبي حاجاتهم الرّوحية ولكن أيضا المادّية والاجتماعيّة ....
فهاهو الدّكتور خلاف حسن يصف الزّوايا بقوله :«... كانت في كثير من الأحيان مأوى للعابرين أبناء السّبيل وأصحاب العاهات، الذين يجدون فيها الطّعام واللّباس وممّا يساق إليها من الصّدقات» (27) 
وهاهي على سبيل المثال الزّاوية الدّلائية بنواحي خنيفرة بالمغرب حبس عليها مؤسّسها محمد بن سعيد ألدلائي كثيرا من الدّور والدّكاكين وسائر المرافق الضّرورية وحبسها على الطّلبة والمساكين (27).  
الهوامش
(1) انظر: المنجد في اللغة والأعلام، دار الشرق، بيروت، لبنان، الطبعة 38، سنة 2000م، ص441.
(2) أحمد أمين, ظهر الإسلام، المجلد 2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 5، 1969م، ص152-153.
(3) معراج التشوف إلى حقائق التصوف لأحمد بن عجيبة الحسني مركز الثرات الثقافي المغربي بدون طبعة، ص4.
(4)  العمل الاجتماعي التطوعي مع التركيز عل العمل التطوعي في المملكة العربية السعودية، عبد الله العلي النعيم، مكتبة فهد الوطنية الرياض 1426هـ/2005م.ص 19.
(5) التكافل الإجتماعي في الإسلام ، أحمد عبده عوض،شركة ألفا للنشر والانتاج الفني القاهرة مصر، الطبعة الأولى 1429هـ/2008م ص18،17.
(6) المرجع السابق
(7) منتدى لأحباب الله ورسوله المحبين والصوفية ومواضيع تهم الصوفية ومكتبة صوفية ( رسالة للسيد أحمد العطار) http://saydatar.ahlamontada.com/t29-topic.
(8) الموسوعة العربية لعلم الاجتماع ، نخبة من علماء العرب في علم الاجتماع طبعة 2010، الدار العربية للكتاب طرابلس،لبيا ص733.
(9) فلسفتنا ، محمد باقر الصدر ، الطبعة الخامسة عشرة 1410هـ/1989م.دار التعارف للمطبوعات بيروت لبنان .ص19،20.
(10) الفتوحات الالهية في شرح المباحث الأصلية ، القاهرة ، مطبعة عيسى البابي الحلبي ، 1331هـ،ج2ص268.
(11) اخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبير باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ج6 ص 2561،دارابن كثير سنة النشر 1414ه/1993م.         
(12) سورة الرحمان - الآية 60
(13) سورة الروم - الآية 30
(14)  الفتوحات الالهية في شرح المباحث الأصلية ج2 ص216-217.
(15) سورة الذاريات - الآية 56
(16) الموافقات في أصول الشريعة ، لأبي إسحاق الشاطبي ، طبعة 2003 م ، المكتبة التوفيقية .ج1ص45.
(17) الموافقات ، 2/144.
(18) سورة الإنسان - الآية 9
(19)  «صحيح مسلم» للامام مسلم القشيري النيسابوري ، دار إحياء الكب العربية،  كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض رقم الحديث 2569  ج8 ص 13.
(20) إحياء علوم الدين ،أبو حامد الغزالي ، الطبعة الأولى ( 1406هـ/1986م).دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان  ج1 ص 31.
(21) إحياء علوم الدين . ج 3 ص 418.
(22) إحياء علوم الدين ، ج 4ص79.
(23) علال الفاسي ، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ، الطبعة الثانية ماي 1979م. مطبعة الرسالة .ص 244.
(24) إحياء علوم الدين .ج 3 ص 63.
(25)  صحيح البخاري  كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة،ج1ص28.
(26) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ، دار البيان للتراث، سنة النشر: 1407هـ / 1986م. ج1 ص 146.
(27) أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني ، د خلاف حسان . سجلا المحكمة الشرعية في بيروت ، الدار الجامعية ط 1988م. 
(28) الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي ، لمحمد حجي ، ط 2 ، مطبعة النجاح الجديدة 1409هـ/1974م.ص74.