إقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
السلطة المحلية كيفية التّدبير ونوعية الموارد
 حين أتفكر في الكون الذي ننتمي اليه كبشر لا أرى في خلق السّماوات من تفاوت ولا أرى في تصميم الأرض من رواسٍ (جمع راسية وهي الثّوابت في الأرض من الجبال) وأنهارٍ وسبلٍ الاّ تدبيرا محكما لتوفير شروط استمرار حياة الإنسان من استقرار وماء وإمكانية الحركة.
وحين أتفكر في إختلاف اللّيل والنّهار، أدرك أنّ تدبيرا ما أريد لحياة الإنسان لعلّه يتراوح ما بين إعمال العقل ذكرا والعمل شكرا.
وحين أتدبّر آيات القرآن الحكيم، تُفتح أقفال قلبي وأجد نفسي أنفتح على عالميّ الغيب والشّهادة، فتراني مشدودا للتّدبير الإلهي لحياة الإنسان والموارد المتاحة له والذي تعكسه تلك الآيات.
وأنا أتفكّر في ذلك العالم المنظور وأتدبّر ذلك المقروء، راودني سؤال عن كيفيّة تدبير الشأن المحلّي خاصّة وأنّنا نخوض ولأول مرّة تجربة السّلطة المحلّية. وبعد أن تناولت في العدد السابق تمويل الجماعات المحليّة، وجدت نفسي مدفوعا لتعميق المعرفة بماهية السّلطة المحلّية وأدوارها وكيفية تدبير الشّأن المحلّي وكذلك للوقوف عند تنوّع الموارد المتاحة لديها وعدم اقتصارها على الموارد الماليّة ولأختم بكيفية التّصرف في إيرادات هذه السّلطة ومسالك نفقاتها.
I- كيفية تدبير الشّأن المحلّي
I- 1 ماهية السّلطة المحلّية ودورها
تتحدّد ماهية السّلطة المحلّية على المستوى المعرفي والعملي بكونها صاحبة كلّ من القدرة المعرفيّة على صناعة القرارات محلّيا والمهارة العمليّة في الإنجاز وذلك بهدف حسن إدارة الشّأن المحلّي يوميّا وتحقيق التنمية المحليّة على المدى المتوسّط والبعيد أي استراتيجيّا.
ويظهر نجاح هذه السّلطة من عدمه في حسن إنجاز ما هو منتظر منها يوميّا سواء على مستوى الخدمات الادارية في المكاتب أو على مستوى درجة النّظام والنّظافة والناحية الجماليّة في الفضاءات العامّة من أسواق ومساحات ومنتزهات وأنهج وشوارع وأحياء سكنيّة ومركّبات اقتصاديّة وإداريّة وما شابه.
امّا استراتيجيا، فيتحدّد مستوى نجاح السّلطة المحلّية من خلال ما يبرز للعيان من مظاهر تغيرات جوهريّة تشمل نوعيّة حياة متساكني المنطقة وتطلّعاتهم ونمط علاقاتهم الاجتماعيّة ونوعيّة الأخلاق السّائدة بينهم والقيم المشاعة بينهم وما يتحقّق من تغيرات جوهريّة تشمل هياكل المنطقة الاقتصاديّة والاداريّة وكذلك الاجتماعيّة والبيئية وبناها ّ.
إنّ نجاح الأداء البلدي يكمن في حسن صناعة القرارات المحليّة من طرف المجلس البلدي سواء الظرفيّة منها أو بعيدة المدى، ولن يتحقّق ذلك دون توفّر عوامل ثلاث:
(1) استراتيجيّة يشترك أهل المنطقة البلديّة في بلورتها بما هي رؤية واضحة تتضمّن أهدافا قابلة للقيس تقود العمل البلدي وتشمل أبعاد رفاه الإنسان البيئية والاقتصادية والاجتماعية ورسالة إنسانية يعمل الجميع على القيام بها حتى يدخل الجميع في السّلم ويشعر كلّ فرد بالطّمأنينة إلاّ من أبى وقيما تُشاع بين أفراد المنطقة البلديّة بأسرها من علم وأمانة وعمل. 
(2) تجاوز معيقات عمل المجالس البلديّة من تنازع بين مكوّناتها حتّى لا تفشل وتذهب ريحها ومن ضعف كفاءة بعضها أو استقالة مواطنيها نظرا لموروث ضعف الثّقة أو انعدامها من المواطنين تجاه المسؤولين البلديّين وكذلك من ضعف الموارد المالية. يتطلّب هذا التجاوز إرساء ثقافة التّعاون على الصّالح المشترك العام وتجذير عوامل الثّقة وتنشيط الحياة الاقتصاديّة توفيرا للموارد المالية.
(3) حسن التّنسيق بين مكونات الفضاء البلدي محلّيا وبين البلديات المجاورة جهويّا وبينها وبين السّلط المركزيّة وطنيا بما يساهم في دفع عمليّة التّنمية المستدامة.
ومن البديهي أن حسن إنجاز مهمّات السّلطة المحلّية ظرفيّا واستراتيجيّا يتطلّب تنفيذ قراراتها وحسن المتابعة بالإضافة إلى المراقبة والمحاسبة.
ويهدف عمل السّلطة المحلّية الى توفير شروط الحياة الكريمة لمتساكني المنطقة من خلال توسيع خيارات المواطن وذلك عبر تعزيز حقوقه وحرياته وإمكاناته وفرصه، كل ذلك لتمكينه من حياة مديدة وصحيّة ومبدعة يعكسها طول عمر ذلك المواطن وسعة معرفته ومستوى عيش لائق به كإنسان مكرّم كما استقر عليه رأي المنتظم الأممي وعكسته كثير من التّقارير الدولية(1)
I- 2 مبدأ التّدبير الحر
إنّ توفير شروط الحياة الكريمة سابقة الذكر لمتساكني المنطقة البلديّة تقوم على مبدأ أساسي يقطع مع وصاية المركز في تدبير الشّأن المحلّي ضمن مسار اللاّمركزية ويُعلي من شأن العقل المحلّي الجمعي التّشاركي المبدع في عملية التّدبير تلك والتي سمّاها الدّستور الثاني للجمهورية التونسيّة مبدأ التّدبير الحرّ حيث جاء فيه «تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الادارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدا التّدبير الحر»(2) ويستوجب اتقان التّدبير الحرّ للشّأن المحلّي مثلا أعلى يُحتذى به ويُهتدي بهديه وهل غير صاحب القدرة الذي يُدَبِّر الأمر في الأرض وفي السّماء ليلَ نهار مثلا وهاديا؟
لذلك وللنّجاح في تدبير الشّأن المحلّي، كما هو الحال في الشّأن الجهوي والوطني، أرى أنّ من الحكمة  تدبّر كلام صاحب القدرة في مجال توفير شروط حياة يسيرة تُلَبّى فيها حاجات الإنسان الأساسية من حركة وطاقة وبُعدِ نظر كقوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»(3) ونوما ونشاطا اقتصاديّا بقوله «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا»(4) أو قوله متحدّثا عن الإنسان محور الوجود والمكرّم سلفا والمعني بالتّدبير الحرّ والذي يشترط نجاحه جعل الانسان محوره وتحقيق كرامته في سياقه التّاريخي هدفه « أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(5)  داعيا إياه الى اقتحام العقبة  التي تحول دون كرامة الإنسان من عبودية الجهل والهوى ومن حرمان في الأيام العصيبة، أيام ارتفاع تكلفة الحياة من صحّة وغذاء وتعليم ونقل وسكن وأيام ضعف المقدرة الشّرائية أو انعدامها «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ» (6) للقول بأهمّية الايمان بصاحب القدرة وبمن حمل أمانة تعمير الأرض وما يعنيه ذلك الايمان من ثقة فيه وتعويل عليه وبأهمّية الصّبر على مواجهة العقبات وإشاعة ثقافة المرحمة ورسم سياساتها واتخاذها نهجا للعلاقات «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ » (7) 
إنّ اتقان التّدبير الالهي المُتَجَلّي في دقّة سير المجرّات والنّجوم والكواكب وفي إبداع شروط الحياة في البراري والبحار والأنهار وفي اتقان الخلق تدفع للإيمان بصاحب القدرة ثقة في كلامه وهديه المتضمّن في قرآنه وحسن تدبّره تلمُّسا لحسن  التّدبير الحرّ لشأننا المحلّي حتّى نحقق ذواتنا وانسانيتنا «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (8) وكما ساعد اكتشاف القوانين الفيزيائيّة وتلك النّاظمة للحياة البرّية والبحريّة وفي السّماء الإنسانَ لما وصل اليه في كثير من أنحاء العالم من آفاق جديدة للحركة والمعرفة والصّحة والرخاء، لا بدّ من مزيد بذل الجهد علميّا لاكتشاف سنن الله الاجتماعيّة وقوانينه الضّامنة لحسن التّدبير لشأننا على درب ابن خلدون الذي أعلنها هاديا «الظّلم مؤذن بخراب العمران» (9) واعتبر أنّ «لا عزّ للرّجال الاّ بالرّجال ولا قوام للرّجال الاّ بالمال ولا سبيل الى المال الّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة الاّ بالعدل» (10) 
II- موارد السلطة المحلية
من خلال ما ذكره ابن خلدون نلاحظ خطأ من يعتبر موارد السّلطة المحليّة موارد ماليّة فقط، فتلك الموارد أكثر وأشمل وذات منابع بشريّة وقيميّة وماليّة ونضيف لها موارد طبيعيّة.
 فالموارد البشريّة خالقة للثّروة عبر النّشاط الاقتصادي والقيم ضامنة لاستمرار العمران أما الموارد الماليّة فلا تعدو أن تكون اداة تقييم وتبادل للسّلع والخدمات تلبية للحاجات البشريّة والموارد الطبيعيّة والتي اضفناها لما ذكره ابن خلدون إن هي الاّ ما سخرّها الخالق للإنسان بعطائها الدّائم له وبما أحسن اتخاذها موضوعا لنشاطه الاقتصادي.
 وحين أصبح المال محور العمليّة الاقتصاديّة نموّا أو تنمية، تعقدت حياة البشر وأفرزت إقصاء ماليّا واقتصاديّا لما لا يقلّ عن ثلثي البشريّة رافقه إقصاء اجتماعيّ عكسته مظاهر الفقر والحرمان وانتشار الأمراض والاوبئة وإقصاء سياسيّ ممّا جعل السّلطة حكرا على لوبيّات المال والأعمال لتبقى علاقاتها خادمة للتّفاوت ومانعة لتمكين المحرومين والمقصيّين والمهمّشين ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا.
وقد اهتدت البشريّة أخيرا الى اتخاذ الإنسان محورا للعمليّة التّنموية في سياق ما اراه كدحا لهذا الإنسان نحو الكمال بما هو نتيجة لمسار من المعاناة كان هو أكبر ضحاياه خاصّة حين ابتعدت البشريّة عن اعتبار الإنسان الغاية الثّابتة والأصيلة للنّشاط الاقتصادي والتّنموي عموما وما شكّله ذلك من ضلال عما اعتبره الوحي الكريم محورا للوجود وكذلك حين تعلّقت همّة البشريّة بالمال الذي لا يعدو أن يكون الاّ أداة حقيقتها متبدّلة ومتغيّرة.
فنجاح العمل البلدي لن يرى النّور مالم يكن محوره الإنسان وغايته حفظ كرامته وسلطته ومؤشرات ذلك كلّ من القرارات التي يتّخذها المجلس البلدي والسّياسات التي يختارها والبرامج والمشاريع التي ينجزها.
وفي ما يخص الموارد الماليّة لا بد أن نميّز في البداية بين التّمويل المحلّي والماليّة المحلّية، فإن كان التّمويل المحلّي كلّ الموارد الماليّة المتاحة والتي يمكن توفيرها من مصادر مختلفة لتمويل نشاط السّلطة المحلّية وهو عامل أساسي لتقوية قدرتها على التّسيير وتحقيق التّنمية، فإنّ الماليّة المحلّية هي معيار ومؤشر فاعل على مدى تلك القدرة ومدى فاعليتها وكفاءتها دون أن نغفل عن تأثّر تلك الماليّة بقانون الماليّة.
وتنقسم الموارد المالية الى موارد ذاتيّة وعموميّة واخرى في شكل مساعدات وقروض تكون وجوبا لتمويل ميزانيّة التّنمية والاستثمارات وليس للتّصرف والتّسيير.
وللتّمويل العمومي في المرحلة الأولى من مسار اللاّمركزية أهمية بالغة وذلك دعما لهذا المسار ذاته ولشرعيّة مراقبة آداء السّلطة المحلّية  وللحيلولة دون التّفاوت بين المناطق البلديّة بالإضافة إلى القضاء على ارتفاع معدل الضّرائب في المناطق المحرومة.
وقد وُضِعت معايير هيكليّة ومؤشّرات الحوكمة الرّشيدة لهذا التّمويل العمومي تمثلت الأولى في الثقل الدّيمغرافي ومعدّل البطالة والطّاقة الجبائيّة وطاقة التّداين ومساحة المجال التّرابي وشملت الثّانية درجة الشّفافية والتّمييز الايجابي ومؤشّر التّنمية سواء في أبعاده الاجتماعيّة والبيئيّة والاقتصاديّة أو في مؤشر إشباع الحاجات الأساسية ورفاه متساكني المنطقة البلدية. 
كما للتمويل الذاتي أهمّية قصوى نظرا لما يُمكّن من تحقيق درجات أعلى من الاستقلالية للسّلطة المحليّة إداريّا وماليّا والتي منحها الدستور لها في فصله 132 وللحيلولة دون التفاوت بين متساكني المنطقة البلدية الواحدة وكذلك لما يعكسه حجم هذا التمويل من قيمة للاقتصاد المحلي وللعلاقة الطردية بينه وبين درجة تحقيق التنمية المحلية.
III- ايرادات السلطة المحلية المالية ونفقاتها
تتضمن ميزانية السّلطة المحلّية تقديرات ايراداتها ونفقاتها السّنوية الخاصّة بالتّسيير والتّجهيز والاستثمار وهي في جوهرها المنهاج الحقيقي لتحقيق احتياجات ورغبات المواطنين ويعتبر المصادقة عليها أمرا بالإذن تمكن الإدارة المحلّية من الاضطلاع بمهامها. وبالاعتماد على الفصل 149 الى الفصل 155 من مجلة الجماعات المحلية المصادق عليها في 26 أفريل 2018 نجد أنّ لهذه الميزانية عنوانين، الأول يُعنى بتسيير الجماعات المحلية والثاني بإنجاز مخطط التنمية وامثلة التهيئة.
وفي العنوان الأول تخصّص الايرادات المتأتّية أساسا من كلّ من الآداء على العقارات والأنشطة والرّسوم مقابل إسداء خدمات ومداخيل أشغال واستعمال أملاك الجماعة المحلّية وتحويلات الدّولة للتّسيير الى نفقات التأجير العمومي ووسائل المصالح وكذلك نفقات التّدخّل العمومي وسداد فوائد الدّين...
أما العنوان الثاني للميزانية، فيشمل إيراداته منح التّجهيز ومدخرات وموارد مختلفة وكذلك موارد الاقتراض الدّاخلي والخارجي وتوظف تلك الايرادات لنفقات كلّ من الاستثمار والتّنمية وسداد أصل الدّين...
تلك بعض ممّا وفقني الله اليه ايمانا منّي بالأهمّية القصوى لوضوح الرّؤية «أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (11) وإسهاما منّي في إنجاح العمل البلدي من خلال تلمّس معالم الطّريقة التي ما إن استقمنا عليها الاّ وعمّ الرّخاء بيننا «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا»(12).
الهوامش
(1) التقارير السنوية لكل من برنامج الامم المتحدة الانمائي والبنك الدولي منذ سنة 2000.
(2) الفصل 132 من دستور الجمهورية التونسية جانفي 2014.
(3) سورة الملك - الآية 15
(4)  سورة النبأ - الآيتان 10 و11
(5) سورة البلد - الآيات 8 و9 و10
(6) سورة البلد - من الآية 11 إلى الآية 16
(7)  سورة البلد - الآية 17
(8) سورة محمد - الآية 24
(9) مقدمة ابن خلدون(1332-1406) ص 228
(10) نفس المصدر - ص 229
(11) سورة الملك - الآية 22
(12) سورة الجنّ - الآية 16