تأملات

بقلم
محمد الصالح ضاوي
من أسرار الدراما في القرآن (2/2)
 نواصل عرض بعض أسرار الدّراما في القرآن، والتي نبسطها لأوّل مرّة في تاريخ ثقافتنا الإسلاميّة.
العرض الملغى:
في القرآن الكريم، عمل فرجوي مكتمل العناصر الدّرامية، لكنّه لم يعرض، حيث ألغي في آخر لحظة. وكان من المتوقّع أن يكون له أثر تراجيديّ هائل. قال الله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1) 
والآية تتحدّث عن قصّة المباهلة بين الرّسول الأكرم ووفد نصارى نجران، «ومضمونها أنّه دعاهم إلى المباهلة، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي إلى الميعاد، وأنّهم كفّوا عن ذلك، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية، وأخبرهم أحبارهم أنّهم إن باهلوا عذّبوا، وأخبر هو صلّى الله عليه وسلم أنّهم إن باهلوا عذّبوا، وفي ترك النّصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحّة نبوته» (2).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء العاقب والسّيد صاحبا نجران، قال: وأرادا أن يلاعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فقال أحدهما لصاحبه: «لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيّا فلاعننا، لا نفلح نحن ولا عقبنا أبدا، فأتياه فقالا: لا نلاعنك، ولكنّا نعطيك ما سألت..» (3).
فالمباهلة، هي الملاعنة، وهي تقع بين فريقين أو شخصين، يدعوان بالوبال على الظّالم منهما، وخروج خاصّة الرّسول: ابنته وبعلها والحسنين، أضفى على المشهد قدسيّة وجدّيّة لا نظير لها، وجعل المسألة غاية في الخطورة، ممّا جعل النّصارى يتراجعون عن العرض النّبوي، ويصالحونه على الجزية...
وعن ابن جريج قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد إلاّ أهلك الله الكاذبين» (4) .
فقد تفادى النصارى كارثة عظيمة بتجنبهم عرض الملاعنة مع الرسول وآله، وارتضوا دفع الجزية. وهكذا ألغي العرض في آخر لحظة، لكنه استعيد بشخصيات أخرى في مناسبات تاريخية لاحقة، حيث عرف عن بعض الصحابة ميلهم إلى هذه التقنية والشعيرة، مثل عبد الله بن العباس. 
العرض المستمرّ:
من العروض الطّريفة في القرآن الكريم: عرض ذي القرنين، الوارد ذكره في سورة الكهف، والذي حكى القرآن عنه جملة من أخبار أسفاره في الأرض... ومما جاء فيه:«حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» (5).
وقد تناول المفسّرون مسألة يأجوج ومأجوج بكثير من التّأويلات والخيالات، وتعدّدت الأقاويل، من ذلك: «وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيّام الرّبيع فلا يتركون شيئا أخضر إلاّ أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يلقون منهم قتلا وأذى شديدا. وعن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في صفتهم: لا يموت أحد منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلّهم قد حمل السّلاح. وقيل: هم على صنفين، طوال مفرطوالطّول، وقصار مفرطو القصر». (6)
ويبدو أنّ العرض الفرجوي لذي القرنين، يتكوّن من عدّة فصول، بقطع النّظر عن الطّبيعة العنصريّة ليأجوج ومأجوج: إنس أم جنّ، يمكن تقسيمها كالآتي:
الفصل الأول: وصول ذي القرنين إلى منطقة «ما بين السدّين» واكتشافه لقوم «لا يفقهون قولا» لانعزالهم عن المجتمع الإنساني منذ مدّة طويلة، وعدم فهمهم لأي لسان مخالف لهم.
الفصل الثاني: حوار بين ذي القرنين و«القوم» الذين ثبت أنّهم مسالمون، وطلبهم بناء سدّ يقيهم شرّ يأجوج ومأجوج.
الفصل الثالث: بناء ذي القرنين للسدّ بمساعدة القوم، باستعمال «زبر الحديد». ودون مقابل.
الفصل الرابع: تمكن يأجوج ومأجوج من اختراق السدّ وتحطيمه، في زمن مستقبلي لم يحن بعد. وهو الفصل الذي لم يعرض بعد... لذلك قلنا أنّ العرض لا يزال مستمرّا، في انتظار النّهاية...
عرض ممنوع من المشاركة فيه:
هذا عرض طريف، لأن طلب إنتاجه جاء من الله، على سبيل التحدّي والاختبار، فإن استجاب إليه المشركون، فلا يجب على الرّسول المشاركة فيه. قال الله تعالى في سورة الأنعام: «قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» (7).
ومعنى الآية:
«قُلْ لهم يا أكمل الرسل «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ» واحضروا أحباركم وعلماءكم «الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ» في كتابه هذا، أى ما ادعيتم تحريمه، «فَإِنْ شَهِدُوا» بعد ما حضروا افتراء على كتاب الله، «فَلا تَشْهَدْ» أنت يا أكمل الرسل :مَعَهُمْ» ولا تقبل شهادتهم «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» ونسبوا إليها ما هي خالية عنه ظلما وزورا، فأعرض عنهم ودع مكالمتهم ومجالستهم» (8) .
فالعرض: مجلس شهادة زور، منحرفة وخياليّة وواهمة، منافية للحقّ وللوحي، أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدم اتباعه وعدم المشاركة فيه، إلاّ كمتفرّج، شاهد عليهم، لا شاهد معهم. فموقف الرّفض الرّسالي من العرض، هو احتجاج على الكذب والزّور والبهتان والتّدليس والانحراف العلمي، الذي يتوقّع أن يقوم به أهل الشّرك.
فالعرض في أصله، مفترض، لم يتجاوز الفكرة الأساسيّة، ونصّه لم يكتمل، وهو لم يعرض أصلا، وإذا ما عرض، فإنّه كان سيواجه بالرّفض والاستهجان، ولن يلق القبول من الجمهور.  
أفيش/ يافطة/ لافتة/ إعلان العرض:
أهمّ عرض على الإطلاق في عرف المسلمين هو بعث الرّسول محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وحياته وسيرته عرض يحتوي مشاهدَ وفصولا، تعتبر مرجعا لأمته. ومن المعروف لدى الدّارسين لسيرته، أنّ الإعلان عن بعثه سبق مولده، فكلّ رسول كان يوصي بالإيمان به إذا ما بُعث. وقد سجّل القرآن هذا الإعلان في عدّة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأعراف: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (9) .
وقوله تعالى في سورة الصفّ: 
«وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ» (10).
وهذه الآيات إعلان أو يافطة أو أفيش لعرض محمّدي رسالي... وقد تكرّر على مرّ تاريخ الرّسل والأنبياء، مصداقا للميثاق الأول، في عالم الذرّ، عالم الملكوت، حيث يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (11).
هذه، في الأخير، بعض أسرار العروض والمشاهد الدرامية القرآنية، على سبيل الذكر لا الحصر... من أجل إثبات أنّ الآيات منتجة للعروض، في جدل مع القلب والعقل... ومع فعل القراءة والتّكرار والتّلاوة...
 الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 61
(2) بن حيان: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ): البحر المحيط في التفسير، تحقيق: صدقي محمد جميل، نشر: دار الفكر – بيروت، ط 1420 هـ، ج 3، ص 182. 
(3) عبد الجبار، صهيب: الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، ج 18 ص 162، الشاملة.
(4) الطبري، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر (المتوفى: 310هـ): جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، نشر: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ - 2000 م، ج 6، ص 482.
(5) سورة الكهف - من الآية 93 إلى الآية 98
(6) الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، جار الله (المتوفى: 538هـ): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، نشر: دار الكتاب العربي – بيروت، ط 3 - 1407 هـ، ج2، صص 746-747. 
(7) سورة الأنعام - الآية 150
(8) الشيخ علوان، نعمة الله بن محمود النخجواني، (المتوفى: 920هـ): الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية والحكم الفرقانية، نشر: دار ركابي للنشر - الغورية، مصر، ط 1، 1419 هـ - 1999 م، ج 1، ص 238. 
(9) سورة الأعراف - الآية 157
(10) سورة الأعراف - الآية 6
(11) سورة آل عمران - الآية 81