خواطر

بقلم
علي عبيد
كلمات حقّ أريد بها باطل...
 لمّا رفع الخوارج في وجه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه شعار «لا حكم إلاّ لله» وأفتوا بتكفيره وتكفير معاوية بن أبي سفيان وطلبوا منه إعلان توبته لكي لا يعلنوا عليه الحرب، لم يعاملهم بالمثل ولم يعلن الحرب عليهم  بل بذل كلّ جهده لمحاورتهم وإقناعهم بوجاهة مختلف مواقفه السّياسية التي اتخذها منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفّان وتولّيه الخلافة، كما لم ينكر عليهم الاحتكام للقرآن الكريم وخاصّة تركيزهم على العبارة القرآنيّة «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(1) ورفعهم شعار «لاحكم إلاّ لله» تعبيراعن رفضهم للمفاوضات التي انطلق  في إجرائها مع معاوية بن أبي سفيان باعتبارها احتكاما لغير الله.
لم يعلن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عداوته للخوارج وقرّر أن لا يبدأ بحربهم إلاّ إذا أعلنوا عليه الحرب واستعدّوا لها ولم يعلن رفضه لفكرة الحاكميّة لله التي اعتمدوا عليها لتبرير خروجهم عن طاعته بل ثمّنها واعتبرها كلمة حقّ غير أنهم وظّفوها لتبرير مواقفهم الخاطئة التي جعلتهم يخرجون عن طاعة الإمام ويتورّطون في معاداته ومحاربته رغم نصحه لهم ومحاولاته المتكرّرة لإقناعهم ولم يهدأ لهم بال حتّى قام أحدهم باغتياله وهو يستعدّ لآداء صلاة الفجر بمسجد الكوفة.
ورغم نجاح الخوارج في قتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنّهم لم ينجحوا في قتل المبادئ التي كرّس الإمام حياته للدّفاع عنها وترسيخها في نفوس أبناء المجتمع المسلم. فبعد قتل الإمام عليّ مباشرة توافق كلّ من الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب والحاكم الأمويّ معاوية بن أبي سفيان على حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم وعدم تكفير أي طائفة منهم إمتثالا لأمر الله تعالى: « وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (2) ولأنّ الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب سيّد شباب أهل الجنّة (3) كان مقسطا، ساعيا إلى إرضاء الله ونيل محبّته فقد كان حريصا على حقن دماء الصحابة والتابعين الذين يشكّلون كلّ عناصر جيشه وكلّ عناصر جيش معاوية بن أبي سفيان وآثر أجر الآخرة على الدّنيا وعبّر عن رفضه مواصلة القتال وبالتالي عبّر عن استعداده للتنازل عن الإمارة التي تحصّل عليها بعد موت والده. فكيف يحرص عليها ولا يمكن الظفر بها والاستئثار بالأمر دون معاوية إلاّ إذا أريقت الدّماء من الجانبين أنهارا. لقد اختار الإمام الحسن التوافق مع معاوية لأنّه كان رافضا إراقة دماء المسلمين حتّى ولو بمقدار محجم. 
فلمّا أرسل له معاوية بن أبي سفيان يطلب منه عقد الصّلح وحقن دماء المسلمين، أجابه بأنّه أحرص منه على ذلك لكنّه انتظر مبادرته - أي معاوية- مادام معاوية  كان أحرص منه على تولّي الأمر وقيادة المسلمين مجتمعين. وأعلمه في جوابه أنّه لو تأخّرت رسالته له لبادر بنفسه إلى مراسلة معاوية في أمر الصّلح وحقن دماء المسلمين. وهكذا تحقّقت نبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عندما أخبر أصحابه أنّ ابنه الحسن سيّدا وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين(4) ولم يقل الرّسول أنّ طائفة منهما كافرة وخارجة عن الدّين مثلما اعتقد الخوارج الذين كفّروا الإمام علي لأنّه لم يحكم بكفر معاوية، فأين فهم هؤلاء الخوارج المنحرف من الفهم العميق للإمام علي المعتمد على الهدى القرآني الكريم والهدي النبوي الشّريف؟
وإذا كان الخوارج عاجزين عن فهم مواقف الإمام علي، فإنّ الإمام الحسن والإمام الحسين ومن معهم من الصحابة والتابعين كانوا على بصيرة وعلى مستوى عال من التّربية سمح لهم أن يقودوا الأمّة نحو الصّلح والتّوافق وحقن دماء المسلمين ونيل وسام الشّرف في الدّنيا والآخرة، كيف لا وقد تخرّجوا من أعظم مدرسة في التّاريخ ألا وهي مدرسة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده مدرسة تلميذه علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.  
ليس الهدف من هذا السرد التاريخي إبراز ميل إلى التشيّع أو معاداة لمعاوية بن أبي سفيان، بل تنبيه إلى أمر نأمل أن يرشدنا إلى الإجابة عن سؤال «لماذا تخلّف مسلمو هذا العصر وفشلوا حضاريّا؟»
نعيش اليوم تعسّفا في فهم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وإعراضا عن مبادئ شريعته الغرّاء وإصرارا على التّنكّر للحقّ وإفراطا في الانزعاج من مصطلحات ومفاهيم قرآنيّة مثل «الخلافة» و«الجهاد» و«الشريعة» و«حدود الله»، في حين أنّ جيل الصحابة قد أحسن استغلال هذه المصطلحات وجعل منها شعارات لبناء حضارة عظيمة مَلأت الأرض عدلا بعد أن مُلِئت جورا فأشرق نور الإسلام بفضلها ومُحِي ظلام الجاهليّة.إنّ عبارات مثل (الخلافة، الشريعة،الجهاد، حدود الله...) كلمات حقّ اعتمد عليها جيل الصّحابة لنشر رسالة الحقّ وصنعوا بفضل حسن فهمهم لها حضارة الإسلام ومجده. أمّا في عصرنا الحاضر، فقد انقلبت المفاهيم وأصبحت نفس العبارات والمصطلحات تستعمل لتشويه صورة الإسلام والتّنفير منه. فقد اعتمدتها بعض الجماعات المتطرّفة كالدواعش وغيرهم من الغلاة ورفعوها كشعارات لتبرير جرائمهم البشعة وضلالهم فكانت «كلمات حقّ وأريد بها باطل» وكأنّ التاريخ يعيد نفسه لنجد أنفسنا أمام «خوارج» جدد ولكن لا «علي» لهم. 
احتكر  هؤلاء المارقون مبادئ ديننا وركائز حضارتنا لتبرير حماقاتهم، فشوّهوها وحشوا مصطلحات تقوم عليها فلسفة الإسلام بمفاهيم خاطئة وباطلة فدمّروها، واستغلّ أعداء الأمّة من الدّاخل والخارج ذلك، فاعتمدوا على مختلف المنابر وخاصّة وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لإبراز تلك المضامين والتأويلات «الخوارجيّة» وسوّقوها. حتّى أن جزءا كبيرا من المثقفين المسلمين سمح لنفسه أن يصدر أحكاما خاطئة حول هذه المصطلحات، فيرفضها بمجرّد استعمالها من طرف خوارج العصر الحاضر.  
إنّ مجموع تلك المصطلحات والمفاهيم - كما ذكرنا سابقا - هي جزء من البناء الفكري للإسلام، فكيف لا نحاول أن نبيّن المفهوم الصّحيح لكلّ مصطلح من بين هذه المصطلحات ونطهّره من الشّوائب التي تعلّقت به من جرّاء اعتماده من طرف خوارج عصرنا ونبرز قيمته ودوره في بناء حضارتنا الإسلاميّة، حتّى نساهم في كشف أباطيل من يحرّفونها وتهافت آرائهم وزيف معتقداتهم، لعلّنا بذلك نقطع الطريق أمام من يسوّق أنّ الإسلام دين عنف وتخلّف وأنه معاد لحقوق الإنسان المتّفق عليها دوليّا، ولعلّنا أيضا نفتح طريقا لإعادة النّظر بعمق في بنائنا الفكري والفلسفي حتّى نكون في تناغم مع المقاصد العليا لديننا الحنيف.  
هذا ما سنحاول التطرّق إليه - إن شاء الله تعالى - في خواطر قادمة.
الهوامش
(1) سورة يوسف - الآية 40 
(2) سورة الحجرات - الآية 9 
(3) روى الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. 
(4) جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الفتن، الحديث عدد 6692
«حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا إسرائيل أبو موسى ولقيته بالكوفة وجاء إلى ابن شبرمة فقال أدخلني على عيسى فأعظه فكأن ابن شبرمة خاف عليه فلم يفعل قال حدثنا الحسن قال لما سار الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية بالكتائب قال عمرو بن العاص لمعاوية أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها قال معاوية من لذراري المسلمين فقال أنا فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة نلقاه فنقول له الصلح قال الحسن ولقد سمعت أبا بكرة قال بينا النّبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب جاء الحسن، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم ابني هذا سيد ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».