وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
تغيير النفوس جوهر إرادة الشعوب
 لن يستطيع المرء العيش في ظلّ أجواء ملوّثة بجراثيم الفساد، ولذلك قلنا أنّ الإنحطاط القيمي علّة النّكوص للجاهليّة وقد يؤدّي بالضّرورة إلى ثورة شبابيّة مثل ثورة موسى عليه السلام ضدّ الطّغيان السّياسي كطغيان فرعون (رمسيس الثّاني)، ولكن لا نستطيع الوصول للثّورة القويّة المبنيّة أساسا على الحرّية التّعاقديّة بين مختلف أطراف الثّورة ؛ سواء أكانوا تابعين لنظام قمعي أو شباب الثورة الطامحين للحرية الروحية والسياسية أي لا وساطة دينية ولا وصاية سياسية.
كل هذه المحاولات التي قمنا بها لتستأنف الأمّة دورها التاريخي، تذهب هباء إن لم نشر في معرض حديثنا إلى أهمية إحداث ثورة داخليّة في كلّ فرد من المجتمع الإنساني، ثورة تحقق وجوده كمستعمر للأرض بالقيم الكونيّة. فالوعي بضرورة القيام بهذه الثّورة إنّما هو متأتٍّ من عمق الوعي الانساني الهادف للنّقاء والإصلاح. 
النّاموس الطّبيعي الذي يتحكّم في تغيير حال المجتمع من حال إلى حال، يرتكز على أنّه لا يمكن أن يتغيّر قوم إلاّ حين إدراكهم المعرفي بضرورة التّغيير ثم يتبعون المعرفي بتطبيق عملي يثبت صحّة إدراكهم، فيسعون بذلك إلى التّغيير المادّي وهي علاقة الإنسان ككيان فيزيائي وإثبات وجوده ككيان ميتافيزيقي وهو جوهر ما نصّ عليه قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (1) .
تجسّد هذه الآية علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالسّياسة، وعلاقته بالتّاريخ، وعلاقته بالمجتمع ؛ فالإنسان -كما أكدته الدّراسات النّفسية المستحدثة- هو المسؤول الوحيد عن جميع تصرفاته ولا يمكن أن يتصرّف الإنسان من دون الاعتماد على إدراكه للواقع. أمّا عن علاقته بالسّياسة، فتتمثّل في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيفما تكونوا يولى عليكم» (2)
أما علاقة الإنسان بالتّاريخ، فهي دياليكتية. فالتاريخ سيرورة أحداث وقعت في الماضي واتخذت من الانسان وسيلة لضمان بقائها عبر التاريخ. فالإنسان حسب «هيجل» نتاج العقل المدبّر وهو حسب «سارتر»  فاعل في التاريخ. أما في القرآن، فهو كما توضّحه الآية 11 من سورة الرعد، كيان يتأثر بالتاريخ ويؤثر فيه بصفة متواترة.
نأتي إلى علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه، فقد أكّد ابن خلدون في مقدمته أنّ الانسان «مدني بطبعه» يحتاج إلى الآخر لتلبية حاجياته الأساسية، وهو ما يفرض عليه التّعامل معه بقيم عليا تؤدّي إلى المجتمع الفاضل الذي طمح إليه معظم الفلاسفة، أمّا في صورة تفشّي الفساد في مجتمع، فإنّ النّكوص للجاهلية هي النتيجة الوحيدة.
فإرادة الشّعوب إذا مقترنة بالأفراد، فإن كان مطمح الجميع قائما على الفضيلة، فإنّ الإرادة السّياسية والاجتماعيّة لن تؤدي إلاّ إلى قيام دولة الحريّة والكرامة والعدالة. أمّا إذا كانت أغلبية المجتمع ترى المنكر معروفا، فلا يمكن لإرادتها إلاّ أن تكون مفسدة في الأرض. 
وعلى هذا الأساس، نظّم الشّابي أبياته مستندا إلى إرادة الشّعب التي تمثّل جوهر التّكليف بالتعمير والاستخلاف. وقد أعاد صياغة مفهوم القضاء (حكمة الخلق) والقدر (أمر الخلق) لنقله من تحريفه الذي جعله تواكلا إلى حقيقته التي هي توكّل مصحوب بالنّظر اجتهادا والعمل جهادا وهو ما كرّسته صورة العصر. فيكون بذلك بيت إرادة الحياة « إذا الشّعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر» هو ذات المفهوم المنصوص عليه في قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». 
وقد أضاف الشابي نتيجتين عمليتين لتحقيق الإرادة ؛ نتيجة طبيعيّة (انجلاء اللّيل) ونتيجة مادّية (كسر القيد)، فالقضاء والقدر بما هو مفهوم غامض يعبّر عن حكمة الله الغيبية في خلقه يمكن للإنسان الذي هو من مخلوقات الله أن يتحكّم في سير التّاريخ لأنّه مخيّر في تصرّفاته وسلوكه، فيكون «جوهر مطالب الشّباب الثوريين ضدّ منظومة الفساد راجعا إلى فهم تاريخي للشورى مناسب للمرحلة التي بلغها الوعي الإسلامي في رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس أي في التّاريخ بعد أن عانت الأمّة من الاستلاب النّاتج عن الفتنة والانتباه إلى ما يتهدّدها من فتنة صغرى تلغي دور المرجعيّة بصراع التّأصيل والتّحديث الزائفين». (3)
لعل دور النّخب الفكريّة والعلميّة التي تتعامل مع الواقع بالتّنظير والتّجريد يكمن في تحديد أولويّات حاجات الوطن في المجالات المختلفة بما يسمح للعامّي الذي يتعامل مع الواقع بالملموس والمحسوس أن يدرك أنّ نخبه في علاقة مترابطة معه وأنّ تلك النّخب لها المرجعيّة الفكريّة والهوياتيّة نفسها مع عامّة الشّعب وأنّهم –أعني النّخب- يعيشون بمقتضى الفكر السّائد قبل الثّورة القائم على الفكر الإقصائي. فالنّخب أضحت في صراع وجودي « إما فكري أو لا».
 مثال ذلك أنّ النّخب الفكريّة العربيّة المعاصرة ولكونها درست في الغرب وانبهرت بالثّقافة الغربيّة أصبحت تنظّر للثقافة الغربيّة في بلدانها ممّا أدّى إلى وجود صراع مرجعي في علاقة بين النّخب والعامّة ولذلك نجد في كثير من الأحيان تذمّر عامّة الشّعب التّونسي - على سبيل المثال - من نخبه الفكريّة والسّياسية إلى حدّ القول بأنّ هؤلاء لا يمثلّون الأغلبيّة السّاحقة بل يمثّلون قلّة قليلة من الشّعب وأنّه من المستحيل الشّعور بالانتماء الوجداني والفكري لهؤلاء. 
ومن يقول أنّ الثّورة التّونسية قامت من دون فكر سابق ينظر إلى التجربة التّونسية فهو مخطئ لسببين؛ الأول أنّ الثّورة قامت على قيم ذات عمق فكري متأصّل في الشّعب (العدالة الاجتماعية، الكرامة، الحرّية) والثّاني أنّ الثّورة قد أتت متأخّرة عن نخبها بنحو نصف قرن من الزّمن، فالحركة الإصلاحية قبيل الاستقلال تعتبر تنظيرا للثّورة ومدّها بالأفكار من قبل عديد المفكّرين والعلماء أمثال الطّاهر الحداد والطّاهر بن عاشور وغيرهما الكثير.
وكما أوضحنا فإنّ تغيير النّفوس يمثّل جوهر إرادة الشّعوب المنتفضة ضدّ القمع والاستعمار الرّوحي والسّياسي وأنّ كلّ ثورة قائمة على القوّة التّعاقدية مع جميع الأطراف هي السّبب والشّرط في استئناف الأمّة دورها التّاريخي واستعادة حضارتها المنكوبة صحوتها ونهضتها في المجالات الحيويّة. 
الهوامش
(1) سورة الرعد - الآية 11 
(2) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، ورواه البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا ً- وقد ضعفه الحافظ ابن حجر العسقلاني والشيخ الألباني
(3) الإيمان، ثورتا الحرية الروحية والسياسية لأبي يعرب المرزوقي
 https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com