كلمات

بقلم
عبداللطيف العلوي
لها العتبى حتّى ترضى!
 عندما أتحدّث عن فضل أمّي عليّ، فأنا لا أقصد أبدا أنّها حملتني تسعة أشهر وكابدت ما كابدت من آلام الوضع، لا فضل للوالدين بمجرّد الإنجاب، لأنّهما يشتركان في ذلك مع كلّ الكائنات الأخرى، الّتي تفعل نفس الشّيء بشكل غريزيّ لأنّ دورة الحياة تستمرّ بشكل طبيعيّ لا فضل فيه لأحد، ولا أقصد كذلك أنّها أرضعتني وسهرت اللّيل ترعاني وحمتني حتّى صرت أميّز الأشياء، فذلك أيضا ما تفعله كلّ الكائنات الأخرى بشكل غريزيّ من أجل أن تستمرّ الحياة ، ولست أرى لها أو للأب فضلا في الإنفاق ولا حتّى في التّعليم والكساء...
عندما أتحدّث عن فضل أمّي عليّ، فأنا أقصد تلك اليد الممدودة دائما كي تضمّد الرّوح الجريحة وتجبر كسرها، أقصد تلك الّتي رفعتني يوم جئتها مهزوما خائفا، وآمنت بي يوم كفر بي الجميع، وفتحت لي ذراعيها يوم طردني كلّ العالم من رحمته ...
أقصد تلك الّتي ألفت الجوع كي تشبعنا، فلم تعد تعرفه ولا تشعر به، وألفت التّعب حتّى لم تعد تتعب أبدا، صارت آلة بشريّة لإنتاج السّعادة لكلّ من حولها لا تتوقّف أبدا عن الدّوران، وألفت الألم فما عاد يؤلمها ولا عادت تتوجّع أبدا... أقصد تلك الّتي كان يمكن أن تتعلّل بأشياء كثيرة، أن تتعلّل بالمرض والتّعب والفقر والخوف وكلّ شيء، كي لا تنتحر انتحارا كاملا في سبيلنا، لكنّها لم تفعل... 
أقصد تلك الّتي مازالت إلى اليوم تنازعني في حمل قفّة الخضر أو أيّ شيء ثقيل، لأنّها تعتقد فعلا أنّه ممنوع عليّ أن أشقى مادامت هي على قيد الحياة، وأنّها مخلوقة فقط كي تؤدّي تلك المهمّة المقدّسة بكلّ تفان وبلا تردّد ومهما كانت حالتها.
أقصد تلك الّتي حنت جبينها ذات يوم ومدّت يدها تتسوّل من الجيران والأقارب كي تدفع عنّي خطيّة النّظام البائد يوم رأت أبواب السّجن تفتح في وجهي من جديد...
أقصد تلك الّتي آذيتها صغيرا وطائشا وجرحتها وأوجعتها وأنا أتصوّر أنّها لم تخلق إلاّ لما تفعل، ومع ذلك كانت تسامحني دائما قبل أن أعتذر وتقابلني بابتسامتها الّتي تقول لي دائما: ليس للأمّ ذاكرة تحفظ السّوء، حتّى وإن أوجعتها...
ليس للوالدين أيّ فضل بالإنجاب، أو الإكساء أو الإطعام... لكنّ الفضل كلّه في ذلك الظّلّ الّذي يسندك طول حياتك ويمنعك أن تقع ويرفعك إذا وقعت... 
ولها العتبى حتّى ترضى!