في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
التلوث الأكاديمي
 البيئة الأكاديمية وتأصيل المعرفة 
يعدّ البحثَ العلميَّ محاولة لاكتشاف المعرفة والتّنقيب عنها وتطويرها وفحصها وتحقيقها بتقصٍّ دقيق ونقدٍ عميق ثمَّ عرضها عرضاً مكتملاً بذكاءٍ وإدراكٍ لتسيرَ في ركب الحضارة العالميَّة، وتسهم فيها إسهاماً حيّاً شاملاً [1]، لكنّ السّؤال الذي يطرح نفسه دائما: ما الذي دفع الإنسان أصلا للبحث؟ لا أشكّ لحظة أنّ قصّة البحث العلمي تبدأ من الشّعور بالمعاناة ومن ثمّ محاولة التّغلب عليها. وقد تكون قد بدأت بالمعاناة الجسديّة لتأمين مسكن بعد الهبوط من الجنّة، يحفظه من الحيوانات المفترسة ومن السّباع والهوام إذا ما غلبه النّوم، ولتأمين طعامه وشرابه إذا ما عضّه الجوع والعطش، ولتأمينه من الخوف من المجهول المحيط به من الجهات كلّها، حتّى أنّ شُربَ الإنسان للخمر كان للقضاء على جزء من المجهول المخيف، فيلغي له عقله فترة من الزّمن، فيصير كالحجرلا يشعر بالخوف من شيء.  ومن الأسباب التي دفعت الإنسان للبحث الرغبة في تأمين المظلوم وأخذ حقّه من الظالم، فليس الإنسان جسدا فحسب يبحث عن تأمين جسده هو وينسى الأخلاق التي يبنى منها الجسد الاجتماعي. وليس الرّفاه ضدّ المعاناة، فقد يكون الإنسان مرفّها وبداخله معاناة لا يعلم مداها إلاّ الله. 
هذه المعاناة  لزمت بني البشر منذ آدم فور نزوله إلى الأرض، ومن يخل منها يخل من صفة عظيمة من أصدق صفات الإنسان «الحرث والهمّة» فأصدق الأسماء «حارث» و«همّام» كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخلو إنسان من همّ بداخله علا أو هبط ثم حرث يقوم به تلبية لذلك الهمّ الدّاخلي، لذلك صاغ المتنبي ذاك المعنى في بيت رائع: 
أفاضِلُ النّاسِ أغراضٌ لَذا الزّمَنِ         يَخلُو مِنَ الهَمّ أخلاهم من الفِطَنِ
 لذلك أرى أنّ من أوجب واجبات النّهضة هو بناء فرد لديه شعور بوجود مشاكل (مجهول) يبحث لها عن حلول (معرفة)، ومن ثمّ يقدّم منتجا «مادّيا أو معنويّا» جيّدا. 
هذا الفرد وبصورة طبيعيّة جدّا سوف يتّحد مع أفراد آخرين يقدّمون منتجات جيّدة مثله ليمثّل بعدا جديدا ونقلة نوعيّة من المنتجات الفرديّة إلى المنتجات المجتمعيّة التي تحتاجها المجتمعات الحديثة بعد التّعقيد. وعندما تعقّدت التّركيبات الاجتماعية عانى الإنسان من معتقدات غيره، تمثّلت هذه المعاناة في الحروب الشّاملة مثل الحرب العالمية الأولي والثانية.
وقد كانت  المعاناة الضّخمة من هاتين الحربين السّبب الرّئيس في دفع البحث العلمي الجادّ جدّا في اتجاه تطوير وابتكار أساليب متقدّمة في فنون الحرب والتّسليح، فأنشئت عام 1915 هيئة البحث العلمي والصناعة في بريطانيا، كما أنشئ المجلس القومي للـبحوث فـي أمـريكا عـام 1916. 
هرم أبراهام ماسلو 
قدّم «أبراهام ماسلو» نظريّة فلسفيّة عن سلّم أولويّات الإنسان المختلفة لاشباع حاجاته، والتي في حالة عدم إشباعها يكون الإحباطً والتوتر والآلام النفسيّةً التي تعوق مسيرة التّقدم الإنساني، وقد رتّب هذه الاحتياجات في هرم يبدأ من القاعدة باتجاه القمّـــة كما يلي:
(1) الحاجات الفسيولوجيّة وتتمثّل في التّنفس، والطّعام، والماء، والجنس، والإخراج، والنّوم،.
(2) حاجات الأمان: بعد إشباع الإنسان للحاجات الفسيولوجيّة يبدأ في البحث عن حاجات الأمان التي تتمثل في: السّلامة الجسدّية بعيداً عن الاعتداء والعنف،الأمان في الوظيفة التي يشغلها الإنسان،الأمن النّفسي والمعنوي، الأمن داخل الأسرة،الأمن الصّحي وأمن الممتلكات الشّخصيّة ضدّ الحوادث والجرائم. 
(3) الحاجات الاجتماعيّة: بعد إشباع كلّ من الحاجات الفسيولوجيّة وحاجات الأمان تظهر لدى الشّخص رغبات في تحقيق الحاجات الاجتماعيّة المتمثّلة على سبيل المثال لا الحصر في العلاقات  العاطفيّة والحصول على الحبّ، العلاقات الأسريّة السّليمة، قدرة الشّخص على اكتساب الأصدقاء ورغبته في الانتماء إلى المجموعات الكبيرة كالجماعات الدينيةّ والفرق الرياضيّة والمنظمات المهنيّة.
(4) حاجات التقدير وتتمثّل في رغبة الشّخص في تحقيق الاحترام المتبادل مع الآخرين ممّا يكسبه الإحساس بالثّقة والقوّة. 
(5) حاجات تحقيق الذات وتتمثل في رغبة الشّخص في تحقيق المكانة الاجتماعيّة المرموقة والمنصب الرّفيع من خلال القدرة على ابتكار حلول للمشاكل العامّة. 
وقد تعرض هذا التّصور للنّقد من زاوية التّرتيب، فبعض الحاجات قد تتداخل مع أخرى وربّما تكتسب أو تفقد ترتيبها في الهرم، لكن تبقى هذه الحاجات بشكل عام مكتسبة لهذا الترتيب الجيد - حتّى وإن تعرّض للنّقد- خصوصا في المجتمعات المستقرّة. من بعض سمات هذه المجتمعات في البحث العلمي مثلا هي أن ترى باحثا منهمكا في تأليف كتاب لمدّة أكثر من عشر سنوات، يدقّق ويمحّص فيه كلّ شيء كالأسماء والمسمّيات والتّعريفات والإحصاءات والتّحليلات. 
أمّا في المجتمعات غير المستقرّة، فحدّث ولا حرج عن اختلاف سلم الأولويات وتداخل الحاجات،  فيصبح مثلا البحث العلمي الذي هو آداة الابتكار وفي قمّة الهرم لدى فئة ليست قليلة من الأكاديميين من حاجات الأمان الجسدي والتي هي في قاع الهرم. وبالتّالي تأتي بحوثهم باردة بل ميّتة لا روح فيها، بل ويحاولون في أحيان كثيرة سرقة الحياة لذواتهم وليس لأبحاثهم فقط، فتجدهم مثلا يفتخرون بأنّهم أصحاب «h-index» كبيرا وهو مقياس كمّي لمدى تأثير الباحث علي الخريطة العالميّة للبحث العلمي من خلال عدد إقتباسات الآخرين عنه. وبصرف النّظر عن كون هذا المعيار صحيحا أو معبرا عن المعني الذي وضع له أو أنّه غير ذلك، فإنّه يمثل خطوة جيّدة علي طريق قياس هذا المتغيّر الذي يصعب قياسه والذي لا أشك لحظة أنّه يحتاج  إلى تعديلات جوهريّة، شأنه شأن كل شيء علمي يبحث عن دقّة الحساب والقياس في عمليّة لاتنتهي إلاّ بنهاية الجنس البشري. 
لكن عند التحقيق، تجد أنّ هناك باحثين كثيرين قد حققوا هذا القدر الكبير من هذا المقياس بالاحتيال والطّرق غير المشروعة من ناحية الأمانة العلميّة، إمّا بتوجيه الآخرين للاقتباس عنهم دون داع أو بوضع عشرات الاقتباسات الموهومة داخل أحد البحوث المتضمّنة أسماءهم مع آخرين، فيحقّقون ذاتهم بالكذب على نفوسهم وعلى الآخرين، ويكتسبون ألقابا علميّة وأنواطا لا تعبر عن محتواها الحقيقي، وحين يحصل نقاش معهم تجد الفراغ أكثر امتلاء منهم. بعضهم مثلا قد يصبح ممّن يمنح اللّقب العلمي «أستاذ مشارك وأستاذ – وهي من أعلي درجات السّلم الأكاديمي في معظم المؤسّسات التّعليمية والبحثية-» يمنح ذلك اللّقب لآخرين ثمّ هو لا يعرف (ولا أقول لا يجيد) أبجديّات الفنّ الذي يمنح اللّقب فيه ويصدق على بعضهم قول أبي الطيب: 
وإنّما نَحْنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ شَرٍّ على الحُرّ من سُقْمٍ على بدَنِ
حَوْلي بكُلّ مكانٍ مِنهُمُ خِلَق تُخطي إذا جِئتَ في استِفهامِها بمَنِ
ملكة جمال البحث العلمي 
تعقد مسابقات للبحث عن ملكة جمال كلّ عام، وهي مسابقات تبحث عن كمال هذا الجسد الأخرس، والتي ليس لها علاقة بالرّوح سوى علاقة الوجود داخله، أمّا علاقات التّفاعل بين الرّوح والجسد، فليس لها أيّ نصيب في مثل هذه المسابقات، وقريب من ذلك المعنى مسابقات كمال الأجسام عند الرّجال. وقد ساهمت جراحات التّجميل في إعادة نحت وزخرفة الجسد والذي ربّما يخفي وراءه أقذر وأخسّّ صفات الجنس البشري، ويحضرنا قول النّبي صلّى الله عليه وسلم: «رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه»[2].
وفي البحث العلمي، يأتي عدد من الباحثين الذين لا يحملون بداخلهم سوى همّ الحصول على لقب «ملكة جمال البحث العلمي»، فتجده يراكم الدّراسات المتناقضة بل والميّتة في هذه  المنطقة لتكبيرها، أو نقلها من منطقة إلى أخرى لنحت هذه وزخرفة تلك، متماهين تماما مع أولئك الذين لاهمّ لهم سوى التّكبير والتّصغير والنّحت في جغرافيا الجسد البشري الصّامت. هم بذلك يشوّهون المقاييس التي وضعت لتقيس مدى جودة البحث العلمي وتأثيره في الآخرين، فيكتب شكلا ما يمكن تسميته بحثا علميا[3]، عنوانا وملخّصا ومقدمة وجسما منحوتا ومزخرفا يخفي الجهل الرّهيب الكامن خلفه، ويشترون بالاستشهادات المزوّرة في أبحاثهم ثمنا قليلا.
وأهمّ ما في الموضوع هو قابليّة ذلك الكائن البارد للنّشر «بعد الموت» عبر سلسلة من الفساد العلمي غير الظّاهر والكامن ذاتيّا داخل باحثين كثيرين في بلدان ليس عندهم ترتيب –حتى ولو كان ترتيبا خاصّا بهم- بسلم أولويّاتهم وحاجاتهم ، تؤدّي هذه العمليّة بالطبع إلي مراكمة الثّروة المختلطة حلالها بحرامها من البحوث في السّير الذّاتيّة لهؤلاء وليحصدوا بذلك جوائز ومكافآت وألقابا وأنواطا يؤمّنون بها الجسد. 
في هذا المقام تذكّرني عبارة «القابليّة للنّشر» بكلمة مالك بن نبي «القابليّة للاستعمار» لأجد بينهما تقابلا هو أنّ هؤلاء لديهم القابليّة للاستخراب العلمي، يخرّبون بيتنا العلمي بأيديهم وبأيدينا أحيانا من خلال عمليّات التّعاون الذي يبدأ بالنّيات الحسنة لكلمة تعاون، وكما يقولون «الطّريق إلى جهنم مفروش بالنّيّات الحسنة» أو «كم من مريد للخير لا يبلغه». في هذا الجوّ الخانق لا تستطيع أن تبقى نظيفا معافا من الآثار السّلبية لهذا التّلوث الأكاديمي، وقد أخبر النّبي صلى الله عليه وسلّم بحالة مشابهة في الأموال «لَيَأْتِيَنّ علَى النّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أحَدٌ إلاّ أكَلَ الرّبَا، فَإنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» [4]. 
كارثة في نهاية المطاف 
أختم مقالي هذا بتلخيص مشهد قصير من فيلم «كارثة في نهاية المطاف» يجسّد جزءًا يسيرا من واقعنا وإلاّ فالكارثة أكثر فداحة من هذا المشهد: كان روان أتكينسون «مستر بيـن» يعمل في المعرض الملكي الوطني للفنون في لندن، حيث كان الجهل هو أهمّ سماته الشّخصيّة والفكريّة، فكان عبئًا على المعرض والإدارة على حدٍّ سواء. فاضطرّ مجلس إدارة المعرض إلى أن يتّخذ قرارًا بفصله، لكن مدير الإدارة تدخّل لأسباب مجهولة لإيقاف تنفيذ هذا القرار، ولأنّ المجلس كان عازمًا على التّخلص منه بأي شكلٍ كان، فقد تمّ اقتراح إرساله لمعرض «لوس أنجلوس» في الولايات المتحدة الأمريكية باسم مستعار «د. بيـن». وما إن بلغ إدارة معرض «لوس أنجلوس» إرسال شخصيّة إليهم تحمل شهادة الدّكتوراه، حتّى غمر الابتهاج نفوسهم توقًا لمقابلته، حتّى إنّ أمين مجلس «لوس أنجلوس» ديفيد قرّر استضافته في بيته عند وصوله إجلالاً وتقديرًا لمكانته العلميّة والفكريّة، بدلاً من الإقامة في الفنادق. لكن وكما يحمل عنوان الفيلم من دلالة، من اللّقاء الأول، بدأت تتجلّى سلوكيّات وتصرّفات لا تتواءم مع شخص يفترض أن يمثّل الصّفوة الفكريّة في المجتمع اللّندني. فأخذت الشّكوك والارتياب تختلج نفس «ديفيد» وزملائه حول تصرفات «د.بيـن»، حيث أمسى عالة وكارثةً عليهم، وكذلك على عائلة «ديفيد»، حتّى إنّ زوجة «ديفيد» هجرت المنزل وتركته وحيدا مع «د.بيـن»؛ استياءً من سلوكياته التخريبيّة الجائحة [5].
أفيقوا رحمكم الله قبل أن تهجرنا قيم الاتقان وقبل أن ينتشر المخرّبون بيننا أكثر ممّا هم منتشرون. 
المراجع
[1]  Hillway, Tyrus. (1964), Lntroduction to Research, 2nd ed. Boston, Houghton Mifflin Company.
[2]  حديث شريف رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
[3] من مقدمة الدكتور عبد الوهاب المسيري «بتصرف» لكتاب اليهود أنثروبولوجيا للدكتور جمال حمدان، دار الهلال، مصر.
[4] حديث شريف رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] سامي سليمان السلمي، «قراءة للواقع المجهول في البيئة الأكاديمية»، صحيفة الوئام، صحيفة الحياة، رابط المقال:
 http://www.alhayat.com/article/836791/