بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
في الإكراه على الديمقراطية
 يثير المرور من معارضة الديمقراطية والتّحذير من تبعاتها إلى الإشادة بها وتعداد فضائلها على الحياة المدنيّة الفرديّة والجماعيّة الكثير من التّساؤلات حول هذا المنقلب. ذلك أنّ التّحول من مناهضة النّظام الديمقراطي إلى مساندته وتبنّيه ينشئ لدينا انطباعا يقضي بأنّ القبول بالانخراط في العمليّة السّياسيّة والاحتكام إلى قواعد اللّعبة الدّيمقراطية لم يكن استجابة لتحوّلات فكريّة جذريّة بل كان في الواقع ضربا من الإكراه أو الخضوع للضّرورة المرّة. والسّبب ببساطة هو أنّ التّخلي عن مناهضة الدّيمقراطية لم يكن بمقتضى مراجعة للفكر السّياسي الشّمولي أو انزياح عنه. ومن ثمّ فإنّ السّؤال الذي لا مناص لنا من طرحه هو هل يمكن للدّيمقراطيّة أن تولد من رحم الشّموليّة.[1] أي هل يمكن لتيارات سياسيّة شموليّة أن تساهم في بناء مشروع سياسي ديمقراطي وأن تحافظ فيه على شروط التّعايش والتّداول السّلمي على السّلطة؟ ولكن هل تبقى حينئذ تلك التّيارات السّياسيّة موسومة بالشّموليّة بعد انخراطها في اللّعبة الدّيمقراطية والتزامها بقواعدها وفي مقدمتها التّداول السّلمي على السّلطة؟ وإذا سلّمنا بهذا الإمكان فكيف لنا أن نتأوّل المرور في الحياة السّياسية من النّظم الشّمولية إلى النّظم الدّيمقراطيّة؟ هل يتعلّق الأمر بتولّد الدّيمقراطيّة من صلب الشّموليّة أم بتحوّل النّظم الشّموليّة الصّارمة إلى نظم ليّنة وناعمة بماعون ديمقراطي؟ وهل يمثّل القبول بقواعد اللّعبة الدّيمقراطيّة موقفا مبدئيّا يعكس تحوّلا جذريّا عن الفكر السّياسي الشّمولي أم هو مجرّد تكتيك سياسي لترويض الخصم والاستعداد لاستبعاده من السّاحة السّياسية؟ أليس غريبا أن يبقى الدّيمقراطي حالما بالاستبداد ومبرّرا له كلّما تعلّق الأمر بتجربة فيها إقصاء لخصمه السّياسي؟
درج العقل الفلسفي السّياسي على إقامة تقابل مطلق بين النّظم الشّموليّة والنّظم الدّيمقراطيّة، بين نظم الحكم الفردي المطلق القائمة على الجمع بين السّلطات التّشريعيّة والقضائيّة والتّنفيذيّة وعلى التّأبيد والاستمراريّة في الحكم مدى الحياة ونظم الحكم الجمهوري القائمة على الفصل بين السّلطات والتّدوال السّلمي على السّلطة بصورة دوريّة يضبطها الدّستور. بين نظم تصادر الحريّات الفرديّة والجماعيّة بحجّة الحفاظ على النّظام والأمن، ونظم تجعل من الحرّية شرطا لطاعة النّظام وتأمين الممتلكات والأنفس. وإذا كانت الفلسفات السّياسيّة قد سلكت دروبا تشريعيّة شتّى في تبرير الحاجة إلى تنظيم الحياة المدنيّة وتدبير شؤونها، فإنّ استشرافها لآليات التّحول من نظام إلى آخر بدا باهتا. بل لعلّ بعضها انتهى إلى المفاضلة بين النّظم السّياسيّة ببحث أوجه التّناسب بينها وبين الخصائص الاقتصاديّة للمجتمعات كما هو الحال لدى «جون جاك روسو» في كتابه في العقد الاجتماعي حيث اعتبر النّظام الدّيمقرطي هو النّظام الأنسب للمجتمعات الفقيرة بحجّة أنّه لا يفرض على المواطنين ضرائب مجحفة.
وإذا كان الخطاب الفلسفي السّياسي شحيحا في بيان شروط الانتقال من نظام سياسي شمولي إلى نظام سياسي ديمقراطي أو العكس، فذلك لحداثة الحدث السّياسي وتأخّر عرضه على طائلة التّحليل والنّقد من جهة واستغراق العقل الفلسفي السّياسي في التّشريع لما ينبغي أن يكون عليه نظام الحكم ومتابعة نقد حدثان الممارسة السّياسية من جهة ثانية. في المقابل تكشف لنا الوقائع التاريخيّة تجارب عدّة من التّحولات السّياسيّة في اتجاهات متباينة لعلّ أهمّها الانتقال من النّظم الملكيّة إلى النّظم الجمهوريّة والانتقال من النّظم الملكيّة إلى النّظم الدّيكتاتوريّة والانتقال من نظم ديكتاتوريّة إلى نظم ديمقراطيّة. وفي جميع هذه الاتجاهات يبدو النّظام الشّمولي مهيأ للتّغيير واحتمالات إعادة الهيكلة في كلّ الاتجاهات. والسّؤال الذي يفرض نفسه في هذا المستوى من النّظر هو كيف لعقل سياسي غير ديمقراطي أن يساهم في إرساء نظام حكم ديمقراطي؟ وما الذي يجعل نظاما ديمقراطيّا يستحيل إلى نظام شمولي استبدادي.
ليست الدّيمقراطيّة في رأينا نظام حكم مكتمل المعالم، ففي الواقع توجد عدّة ديمقراطيّات تفرق عن بعضها البعض بالمناخات السّياسية والثّقافية التي تنشأ داخلها والتّأثيرات التي تحيط بها (العادات والتّقاليد، القبلية، العائلات، اللّوبيات، الأولوية الجنسيّة، النّظم الاقتصادية،...) [2] وتتغذّى منها. وهي فروقات تبدو بيّنة حين نقارن مثلا بين التّجربة الدّيمقراطية الأمريكيّة والتّجربة الدّيمقراطيّة الهنديّة وما يحكم كلتيهما من أعراف في التّداول على السّلطة وفي الإجراءات التّنظيمية التي يتمّ بها قبل الانتخابات وبعدها. وحين نتأمّل كيفيّة تصير النّظم غير الدّيمقراطية نظما ديمقراطيّة نلاحظ وجود ثابتة في كلّ التّجارب الديمقراطية وهي قيام توازن قوى سياسيّة يستحيل على أيّ منها أن تستفرد بالحكم وتقصي كلّ القوى الأخرى من المشهد السّياسي. وهذا يعني أن عجز الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة أو الطّبقة الحاكمة أو... على المحافظة على الإمكانات التي تهيّأت لها طيلة ممارستها للحكم المطلق مقابل تصاعد القوى المعارضة هو السّبب المباشر في إرغام الجميع على القبول بقواعد اللّعبة الدّيمقراطية واستبدال الرّغبة في الاستحواذ على السّلطة بالرّغبة في المشاركة في ممارستها. ومن هنا يأتي التّوافق السّياسي بديلا عن الإقصاء والاستبعاد في الواقع دون أن يقضي عليه في البنية الذّهنية بل يحوّله إلى ضرب من اللاّشعور السّياسي. وهذا يعني أنّ الدّيمقراطية ليست تجميعا للقوى الغالبة بل هي تجميع للقوى المغلوبة على أمرها والتي لا يكون الغالب بينها أكثر من مغلوب يتوهّم الغلبة على من هم أشدّ مغلوبيّة منه. لذلك لا نستغرب في هذا النظام الديمقراطي الاضطراري أن تبحث القوى المتنافسة عن سبل الاستقواء التي تكفل لها مقاما مريحا في المشهد السّياسي وقد يكون ذلك باللّجوء إلى التّمويل الأجنبي أو توظيف المنظّمات الفاعلة واستثمار إشعاعها في إرباك الوضع السّياسي أو في العمل على ضمان استقراراه. لذلك ليس غريبا أن يمتدح هذا الدّيمقراطي المغلوب على أمره الانقلابات العسكريّة التي تزيح خصمه الإيديولوجي من الحكم أو أن ينتصر في مواقفه لنظام استبدادي يشاركه الأرضيّة الإيديولوجيّة. [3] 
في هذا المناخ الغائم لا تبدو مفردات التّعايش والتّوافق والشّراكة ومشتقاتها تعبيرا عن إرادة حرّة أو اختيار واع لما ينبغي أن تكون عليه ملامح الحياة المدنيّة والسّياسية، بل هي نتاج ضرورة تاريخيّة تقضي بحتميّة تنازل الأفراد - ليس عن بعض حقوقهم وحسب بل - عن أهوائهم الأنانيّة وعمّا هو غريزي فيهم ( النّزعة العدوانيّة والرّغبة في ممارسة السّلطة على الغير ) لأنّ النّظام الدّيمقراطي لا يتأسّس إلاّ على العدول عن تلك الأهواء والغرائز التي تتغذّى منها الأفكار الشموليّة والكليانيّة وهم لا يتمّ إلاّ بالتّواجه والتّصادم بينها للحدّ من التّناقضات التي تخترقها. 
وهذا يعني أنّ النّظام الدّيمقراطي ليس بديلا عن النّظام الشّمولي أو الكلياني بل هو تعليق له طالما بقي توازن القوى السّياسية قائما. وهذا يعنى أنّ الارتداد عن الدّيمقراطية ليس أمرا مستحيلا بل قد يكون ثمرة لآلية ديمقراطيّة [4]. ومن المفارقات التي تخترق علاقة الدّيمقراطية بالاستبداد هو أن نجد العسكري حريصا على العودة إلى الحكم المدني وأن نجد المدني في المقابل حريصا على الاستنجاد بالعسكر في مواجهة خصومه.
هكذا نجدنا اليوم أمام تجارب ديمقراطيّة نجحت إلى حدّ كبير في ترويض التّيارات السّياسية الشّمولية وأرغمتها على الانخراط في اجرائيّات الممارسة السّياسية التي تتيحها وأخرى ما تزال تبحث عن توازن القوى الضّامن للحيلولة دون العودة للاستبداد. وتبدو البلاد العربيّة أقرب إلى الصّنف الثّاني بالرّغم من سلبيّة المؤشّرات الرّاهنة في عدد من مناطقها. وهي في تقديرنا مؤشّرات لا تقضي على كلّ مقادير التّفاؤل بمستقبل هذه المنطقة من العالم وحظّها من الدّيمقراطية السّياسية والاجتماعيّة. فقد مرّت بعض مناطق العالم بظروف أشدّ عسرا وهي اليوم تقطع أشواطا متقدّمة في تنظيم الحياة السّياسية تنظيما ديمقراطيّا يقطع مع تقاليد الانقلابات العسكريّة والحروب الأهليّة والقبليّة ومع مختلف أشكال التّطهير العرقي التي تخلّلتها. ولعلّ ما يبهر في هذه التّجارب هو سرعة التّحولات التي تشهدها في مختلف مستويات استكمال البناء الدّيمقراطي[5]  بالرّغم من محدودية مواردها الطّبيعيّة. 
وإذا سلّمنا بحتميّة السّير الوئيد في اتجاه إرساء النّظم الدّيمقراطيّة في العالم فهل يعني هذا أنّ حلم الدّولة الأمة قد تلاشى وانتهى إلى غير رجعة؟ وهل يعني هذا أنّ النّظام الدّيمقراطي قادر على انتزاع القناعات الإيديولوجيّة وتطهير حملتها من آثارها؟ لكن إلى أيّ مدى يمكن للملاحظ الموضوعي أن يسلّم بأنّ أفكار دولة الخلافة الرّاشدة ودولة ديكتاتوريّة البروليتاريا ودولة القوميّة العربيّة قد طواها النّسيان وفقدت آخر ما كان لها من بريق ثوري لدى أصحابها؟ هل يمكن للواقع الموضوعي أن يغالب الميول الذّاتية ويضع حدا للأحلام التي تغذّيها؟   
الهوامش
[1] يفضل بعض المفكرين الحفاظ على حرفية العبارة الفرنسية Totalitaire باستعمال مصطلح توتاليتاري ويفضل آخرون تعريبها بالشمولية فيما يخير البعض مصطلح الكليانية. ونحن هنا نرجح أن مصطلح شمولي يفي بالحاجة الدلالية في وصف نظام الحكم المطلق.
[2] يشير برغسون في كتابه منبعا الأخلاق والدين إلى أن البشرية لم تصل إلى الديمقراطية الحقيقية إلا مؤخرا مشددا على أن الديمقراطيات القديمة كانت ديمقراطيات زائفة.
[3] كان وزير الداخلية الفرنسية الأسبق فيليب سوغان قد امتدح الانقلاب العسكري في الجزائر في بداية التسعينات على أول تجربة ديمقراطية وضعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في سدة الحكم بقوله: يجب أن نضحي بالديمقراطية من أجل الديمقراطية. وهو تصريح لا يختلف كثيرا عما رفع من شعارات في الساحة السياسية التونسية منذ الثمانينات ومنها لا ديمقراطية مع أعداء الديمقراطية. 
[4] المرور إلى الديكتاتورية عبر الانتخابات كما هو الحال في التجربة النازية في ألمانيا أو المرور إلى الرئاسة مدى الحياة عبر الاستفتاء.
[5] مثلما هو الحال في رواندا وليبيريا وغيرها من البلاد الإفريقية التي كانت ساحة للفوضى والعنف والانقلابات.