الأولى

بقلم
فيصل العش
لبيك اللهم لبيك
 تمهيد
شرّع الله سبحانه وتعالى جملة من العبادات وجعل بعضها أركانا وأعمدة لدين التّوحيد، كالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ. ولم يكن عزّ وجلّ ليشرّع تلك العبادات إلاّ لحِكمةٍ ومصلحةٍ، لأنه جَلَّ جَلالُه حكيمٌ عالِمٌ بمصالح العباد، والحكيم لا يصدُر منه إلاّ ما يكون فيه مصلحةٌ وفائدةٌ للإنسان في دنياه قبل آخرته. ولكل عبادة بُعد فلسفي يربط الدّين بجوانب الدّنيا المختلفة من أجل إصلاحها، فجميع غايات العبادات أن تؤثّر إيجابيّا في الإنسان فتسمو به وتجدّد روحه وكيانه وتحقّق له الإنسجام مع ذاته وترفع من مكانته وتخلق فيه شحنات إيجابيّة تساعده على مقاومة الصّعوبات والإحساس بالأمان والقوّة، فتتوفّر بذلك شروط النّجاح في تحقيق غاية خلقه وهي «الاستخلاف». والله لا يناله شيء من تلك العبادات سوى التّقوى. يقول تعالى: «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ»[1] فكلّ العبادات ليست هدفا فى حدّ ذاتها وإنّما هي وسائل لتحقيق هدف أعظم هو التّقوى. والتّقوى ليست حالة عاطفيّة مجرّدة ومريحة تتّبع خطّاعمودياً فحسب (العلاقة بين الانسان والله تعالى) بمعزل عن الفعل البشري على الأرض، يلجأ إليها الإنسان للهروب من هموم الحياة، بل التقوى هي نقطة الالتقاء بين العبادات والمعاملات، وبذلك تمتد التقوى إلى كلّ جوانب الحياة الاجتماعية. إنّها على حدّ تعبير الشهيد علي شريعتي «لا تتجلى في الإسلام على شكل انزواء وتجرّد من الحياة وبعد عن المادّة وإغفال للدّنيا وعدم الوعي بما يدور من حولنا، بل إنّ روح الفرد تصل إلى الله عن طريق مسار الطبيعة الماديّة والمجتمع والحياة الواقعيّة للنّاس وعن طريق المرور بمصير الآخرين»[2] 
الغاية إذا من عبادة الله هي التقوى «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»[3] وتتجسّد في عمل صالح يشمل المناسك كما يشمل تعمير الأرض وخدمة البشريّة وتحقيق العدل في المجتمع بالابتعاد عن الظلم والفجور والبغي والفساد والإسراف باعتبارها نقيضا للتّقوى. 
الحج... من زاوية غير فقهية
الحجّ أحد أبرز العبادات وأحد أعظم الشّعائر الدّينية الجماعيّة التي شرّعها الله وهي أهمّ منسك سنوي بروزنامة المسلمين، إذ يتوافد على مدينة مكّة كلّ عام أكثر من مليوني مسلم من مختلف أرجاء الأرض لأداء مناسك الحجّ. ويحتفل في مشارق الأرض ومغاربها باقي المسلمين الذين لم يسعفهم الحظّ ليكونوا ضمن وفود الحجيج بقدوم الموسم وترنو قلوبهم بشغف إلى الأراضي المقدسة وهم يتابعون عبر شاشات التلفاز مراحل تأدية إخوانهم مناسكهم، آملين أن يكونوا من زوار الكعبة في المستقبل.
كان حلمي ولا يزال أن أحجّ البيت، لكنّني لحدّ الآن لم أتقدّم بطلب ترسيمي ضمن قائمة الانتظار لأنّني أرفض أن أكون رقما ضمن مجموعة الحجيج التي تحدّدها الدّولة ويقودها مرشد دينيّ يلبّي فنكرّر بعده ما قال، نقلّده في كلّ صغيرة وكبيرة وكأنّنا أفراد فرقة كشفيّة حطّت رحالها في مخيّم صيفي قصير. كان حلمي ولا يزال أن أحجّ كما أريد أن أحجّ. ولأنّ هذا الحلم مازال لم يتحقّق ومازلت ضمن الذين «لايستطيعون إليه سبيلا» فقد رأيت أن أكتب بمناسبة قدوم موسم الحج مقالا أخطّ فيه بعضا من أفكاري حول هذه العبادة وأقف فيه على مجموعة من مقاصدها الكبرى التي لا أرى أنّها بصدد التحقّق على أرض الواقع نتيجة تحوّله عند الأغلبيّة إلى تقليد اجتماعي ومجموعة من شعائر وطقوس مجرّدة ينفّذها الحاجّ  ثمّ يعود إلى موطنه. إنّها محاولة لتقديم الحجّ بصورة أكثر إيجابيّة، عبر البحث عن تفسير حقيقة هذه العبادة والكشف عن حكمتها وعن دورها في تشكيل شخصيّة المسلم ومساعدة الأمّة على الخروج ممّا هي فيه من غمّة. 
لهذا لن يكون حديثي في هذا المقال عن فرائض الحجّ ومبطلاته، ولا عن أركانه ومستحبّاته، ولن أتعرّض إلى عدد الجمرات وحجمها ولن أصف كيفيّة الهرولة بين الصّفا والمروة، أهي مشي سريع أم جري بطيء،فهذا أمر من اختصاص السّادة الفقهاء وقد توسّعوا فيه إلى درجة أنّ الحاج أصبح في حاجة إلى دروس خصوصيّة لفترة طويلة قبل السّفر وإلى حصص تطبيقيّة [4] حتّى لا يقع في المحظور على رأي السّادة الفقهاء فيبطل حجّه ولا يعود بالتالي إلى أهله كما ولدته أمّه مغفورا له، فيخيب مسعاه.
الحجّ حركة ومسؤوليّة
رحلة الحج رحلة مليئة بالحركة والمسؤولية، هي ليست طقوسا تؤدّيها من دون أن تفهم معانيها، إنّها حركة  مستمرّة مصحوبة بتأمّل ينتهي بصاحبه إلى التحرّر من القيود المادّية للحياة الدنيا، ويمكّنه من استعادة وعيه بذاته ليعود بعد ذلك من جديد إلى معترك الحياة أقوى وأكثر إصرارا على النجاح في مهامه الاستخلافيّة.
إنّ أهمّ ما يجلب الانتباه في الحجّ هو التحرّك الدّائم فيه، فمنذ أن يستعدّ الإنسان لآداء فريضة الحجّ يكون في حالة حركة، ومنذ أن يبدأ مناسكه لا يستطيع التوقف ولا ينبغي عليه التوقف، فهو ينتقل من الميقات إلى الطّواف إلى السّعي وهكذا. هذا التحرك الدائم هو تجسيد لتحرّك إبراهيم وهاجر، الأول في طريق محاربة «عبادة الأوثان» وإحياء التّوحيد والثاّنية في سعيها للبحث عن مصدر الحياة (الماء) لمقاومة ظمإ إبنها إسماعيل. الإثنان يتحرّكان كأنّهما ضدّ التيّار ولكنّ إيمانهما بالله لا تشوبه شائبة لذلك كان الانتصار  حليفهما.  فابراهيم أقام بناء الكعبة رمز التّوحيد في واد غير ذي زرع وكان إيمانه بالله كبيرا. قام بالعمل على أحسن وجه وبنى الكعبة ثمّ توجّه إلى الله بالسّؤال:«رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»[5] فاستجاب الله لندائه «وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»[6].
وأنت أيها الحاجّ تطوف بالكعبة تذكّر أنّ إبراهيم تفانى في عمله وأتقنه ثمّ دعى الله فأبرّه، وأنت بطوافك ذاك وأنت ترفع صوتك بالتّلبية عاهد ربّك بأن تتفانى في عملك مهما كان مجاله ولن تتقاعس بعد ذلك أبدا. وأنت تسعى بين الصّفا والمروة تذكّر أنّ هاجر كانت تفعل ذلك بتسليم إلى الله وطاعة. لم تكتف بالجلوس للدّعاء أوالنّواح مسلوبة الإرادة رغم تلك العوامل التي تدفع لليأس بل سعت جاهدة- بالرّغم من يقينها بأنّ الله لن يخذلها - تبحث عن قطرة ماء لولدها في أرض صحراويّة جدباء، حتّى إذا ما بذلت جهدها واستنزفت طاقاتها فجّر الله الماء بين يدي إسماعيل جزاءً لها وتكرمة لسعيها. وأنت تسعى بين الصّفا والمروة تذكّر أنّ حال بلادك الاقتصادية لن يتحسن أبدًا بمعونات دول تدّعي صداقتها، أو بالاقتراض المستمر من صندوق النقد الدّولي،وإنّما بالعمل والسّعي المتواصلين واعلم أنّ ثروات بلدك وموارده هي تحت أقدام أبناء شعبك كما بئر زمزم تماما، تذكّر ذلك جيّدا وعاهد ربّك أن لا تكون كأغلب المسلمين اليوم يريدون نصرا من الله من دون سعي ولا تعب، يريدون من الله أن ينتصر لهم من أعدائهم ويحرّر بيت المقدس ونسوا قول الله سبحانه «وقل اعملوا...».
الإحرام ...بالقلب قبل اللّباس    
يبدأ الحجّ بالإحرام . إنّها نقطة البداية، يقوم الحاج بالاغتسال ثمّ يضع ثيابه كلّها ليرتدي ملابس الإحرام، مجرّد نسيج أبيض. لا أدري لماذا يربطون لون اللّباس بلون الكفن،وإن كان المعنى مقبولا، ولا يربطونه بلون القلب كيف يجب أن يكون. إنّك باغتسالك عبّرت عن طهارة بدنك، فهل طهّرت قلبك؟ 
إنّ الإحرام ليس تغيير الثّياب فحسب، فلا يكون الإحرام إحراما إلاّ بتطهير القلب من الشّرور. إنّه اجتماع  الحُرُمات الثلاث : القلب المؤمن الخاشع (الحرم الإيماني) والبيت الحرام (الحرم المكاني) والشّهر الحرام (الحرم الزماني) . يقول الله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» [7] 
الإحرام إذا أن تجعل قلبك في لون لباسك الأبيض البسيط الذي يشبه لباس الآخرين. هل سألت نفسك عن الحكمة من خلع ملابسك وارتداء قطعة قماش بيضاء مثل الجميع؟ الدكتور علي شريعتي يجيبك فيقول:«لأنّ ثياب الإنسان تكسوه من الخارج مادّيا كما تكسوه الشّخصية من الخارج معنويّا، فملابسنا هي التي تعبّر عن أنماط حياتنا، وتميّزنا وتحدّد طبقتنا ووجهة تفكيرنا، وهي التي تقيم الفواصل والحدود بين النّاس، ممّا يسبب الفرقة بينهم في معظم الأحوال، وأكثر من ذلك فإنّ الملابس تجعل مفهوم «الأنا» يقتحم، وليس مفهوم «النّحن»، كلمة «أنا» -في الملبس- تأتي في سياق يعبر عن «عنصري» أو «طبقتي الاجتماعية» أو «عشيرتي» أو «مكانتي» أو «أسرتي» أو «مقدرتي» ولا تعبّر عن معنى «أنا» باعتباري إنسانا (...) «كل واحد يفني ذاته ويأخذ شكلا جديدا، هو شكل الإنسان كما خلقه الله، كلّ «أنا» تموت في أرض الميعاد لتنشأ «نحن»» [8]. الجميع هنا سواسية أمام الله، لهم منزلة واحدة هي منزلة العبوديّة لله . كأن الله يناديهم في ذلك الموقف على اختلاف أعراقهم وخلفياتهم ولغاتهم ومنازلهم الاجتماعيّة: «لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»[9] فيجيب الجميع بتلبية التّوحيد لله « لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»،هو نداء لله وحده لا لمذهب أو قبيلة أو دولة أو جماعة ...او.. .
الطواف...  حركة مستمرّة نحو الله
الطواف هو حركة دائريّة حول الكعبة، ذلك المكعّب البسيط الذي أعاد بناءه إبراهيمُ بعد أن أرشده الله إليه وأذن له في بنائه، «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود» [10] هو بيت الله لكنك لن تجد الله هناك فقط، إنّه في كلّ مكان وهو أقرب إليك من حبل الوريد. يقول علي شريعتي : « لا تحسب أنّ الكعبة بناء فارغ، إنّها هنا لها وظيفة العلامة والدّليل والمرشد، فهي ليست نقطة النّهاية وإنّما هي هنا لتدلك على الاتجاه...إنّها الزّاوية التي إليها تركن والمعلم الذي يدلّك على الطّريق ... إنك هناك تبدأ حركة أبديّة نحو الله لا نحو الكعبة» [11]
 هل سألت نفسك لماذا الطواف في حركة دائريّة؟ لأنّ الحركة نحو الله حركة أبديّة لا نهاية لها، لو كان خطّا مستقيما لكان هناك بداية ونهاية معروفتان لكنّ الدّائرة خطّ مغلق ليس له بداية محدّدة ولا نهاية معروفة. أنت تحدّد البداية،عندما تقرّر رفض جميع أنواع الشّرك ولو كانت خفيّة وترتبط بالله عزّ وجلّ «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»[12] والله سبحانه يقرّر النّهاية، عندما يحين أجلك لتبدأ بعد ذلك رحلة جديدة مع الله في عالم غير عالم الدّنيا.
 الطّواف يعلّمك أنّه عليك أن لا تتوقّف عن الحركة (تفكير وعمل) مادام في النّفس رمق وأنّ حركتك يجب أن تكون دائما مع الله وفي سبيل الله. وأن تكون مع النّاس وبين النّاس ومن أجل خدمة النّاس ما دام النّاس عيال الله [13]  .  
القصد في واد... والواقع في واد آخر
كثيرا ما نسمع ونقرأ أنّ الحج مؤتمر وتجمّع عالمي سنوي كبير يجمع ملايين المسلمين من القارات الخمس على أرض واحدة، لأداء شعائر موحّدة، وهو رمز لوحدة هذه الأمّة، وتأكيد على أنّها لا يفرق بين أفرادها لون ولا طبقيّة ولا عصبيّة. 
يجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول هذا البيت العتيق، يتصافحون ويتشاورون ويتحابّون، خلعوا اللّباس الذي يفرّقهم ويميّز بينهم ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، وصفاء الظاهر مع صفاء الباطن. إنّها لحظات رائعة تلك التي يتحرّكون فيها جميعاً من منى ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة وقد اتحدوا في المكان والزّمان واللّباس والوجهة. هكذا يفترض أن يكون الحجّ. وهكذا ينبغي أن يكون. 
من المفترض أن يُستغلّ هذا التجمّع الكبير ليكون موعدا سنويّا لتبادل الأفكار ومناقشة واقع الأمّة فتقام على هامشه ملتقيات تجمع العلماء والمفكّرين وتعرض نتائج بحوثهم بشكل أو بآخر على عامّة حجّاج بيت الله من أجل خلق رأي عام يشمل العالم الاسلامي كلّه من شأنه أن يدفع نحو توجيه السّفينة في الاتجاه الصّحيح نحو الوحدة السّياسية والاقتصاديّة، فما الذي يمنع مجتمعات تشترك في دين واحد وربّ واحد ولغة واحدة من تجسيد وحدة سياسيّة واقتصاديّة كما تجسّدت الوحدة في مناسك الحج.
القصد من هذا الحشد وبتلك الكيفيّة هو أن يعلم النّاس أن ما يجمعهم أهمّ بكثير ممّا يفرّقهم وأنّ الصّلاح والفلاح لا يتمّ إلاّ عبر نزع كلّ النعرات الطّائفية والعرقيّة والمذهبيّة والقوميّة، لأن الاجتماع والاتفاق سبيل إلى القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق إلى الضعف والهزيمة، وما ارتفعت أمّة من الأمم وعلت رايتها إلاّ بالوحدة والتّلاحم بين مكوّناتها. يقول الله تعالى: «... وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» [14]، هكذا يفترض أن يكون الحجّ. وهكذا ينبغي أن يكون. ولكن هل فعلا هذا ما يحدث في الحجّ؟
 الواقع غير ذلك، حتّى أثناء موسم الحجّ نفسه، فقد تحوّل إلى ساحة صراع سياسي حيث يُمنع مواطنين من دول مختلفة من الدّخول إلى مكّة للقيام بمناسكهم ويُحاصر البعض الآخر خوفا من استغلالهم ذلك التجمّع الضّخم للدّعاية السّياسيّة لأنظمة بعينها [15] فيما يُنصح آخرون بعدم مغادرة مخيّماتهم وينهون عن الاختلاط بنمط معيّن من الحجّاج. وتغيب الملتقيات والحوارات فيعود الحجّاج إلى بلدانهم ولا أثر يذكر للملتقى العالمي الذي حضروه في مواقفهم وآرائهم، ليواصل الجميع عيش واقع التفرقة والنزاعات. 
في رمي الجمرات... 
سلوك شيطاني لرجم الشيطان!!!
إنَّ الحاجَّ حين يجمع حصيّاتٍ صغيرة، ويرمي بها في موضع معيَّن، فإنه يجب أن يستحضر أنَّ هذا الفعل ليس عبثًا، وليس خاليًا من الحكمة والأسباب، كما يجب أن يعلم أنّه لا يخلو من رمزيّة، فأنت برمي الحصيَّات لا ترمي الشّيطان بذاته لأنّ الشّيطان في كلّ مكان ولكنّك تعلن انحيازك إلى ملَّة ابراهيم حنيفًا، وتقف معه في خندق واحدٍ؛ لتعلن عداوتك للشيطان وأعوانه وجنوده من الإنس والجّان على حدّ سواء وهي تعبير بالقلب واللّسان واليد عن اعتماد قوله تعالى «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً» [16] شعارا ومنهجا في الحياة.
رمي الجمرات هو رجم لشياطين الإنس والجنّ معا، وهو في جوهره عهد مع الله أن لا يكون رامي الجمرات معينا بالمساندة أو بالصّمت لشياطين الإنس من طغاة ومتكبّرين ومن قوى التكبّر العالميّة التي تكيد لأمّتنا ليلا نهارا لتستنزف ثرواتها وتحافظ على هيمنتها عليها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً بما يحقّق مصالحها، ويكرّس واقع التخلّف والتبعيّة الذي تعيشه مجتمعاتنا، شياطين الإنس الذين يبثون فينا الفتنة والتّناحر والانقسام حتّى لا نجد للوحدة سبيلا.
رمي الجمرات هو «وعي» قبل أن يكون «حركة» وهو «عهد» قبل أن يكون «شعيرة» تنفّذ مهما كانت النتائج حتّى وإن كانت جلب الضّرر لحجّاج آخرين. وأنت تستعدّ لرمي جمراتك، تذكّر أن من واجبك احترام بقيّة الحجّاج وتجنّب إيذائهم، واحرص على ألّا يكون سلوكك شيطانيّا في رجمك للشيطان. أليس سلوكا شيطانيّا أن يتقدّم بعضهم لرمي الجمرات بانفعال شديد وغيظ وحنق وقوّة واندفاع كأنهم جمال هائجة، فتجدهم يؤذون النّاس إيذاء عظيما، حتى كأنّ النّاس أمامهم حشرات فلا يبالون بهم، ولا يسألون عن ضعيفهم، ؟ أليس سلوكا شيطانيّا أن يغيب الاحترام بين الحجّاج وتحضر القسوة والتشنّج؟ أليس من عمل الشيطان أن تروّع جموع الحجّاج وتُصدّ عن آداء مناسكها لفسح المجال لصاحب السلطان ليحوّل المناسك إلى مراسم؟ أليس من عمل الشيطان أن يموت النّاس وهم يتزاحمون لرمي الجمرات؟ [17] 
الخاتمة
 مراسم الحجّ  إشارات ورموز وعلامات، فمن قام بها بلا نيّة أي من دون أن يعرف جوهرها ويستحضر مقصدها، فسيغادر مكّة من دون أن يغيّر في شخصيته شيئا سوى أنه يعود إلى بلده برتبة «حاج». في الحجّ أعمالك لا طائل من ورائها بلا نيّة، فالذي يضع جبهته على الأرض دون أن يعي معنى السجود فهو لا يعدو أن يكون ماسا للتراب بجسده، والذي لا يدري جوهر الحج يعود من مكّة بحقيبة ملأى بالهدايا وعقل فارغ.
عليك أن تفهم الإشارات وليس فقط أن تقلّد الحركات...ذلك جوهر الحجّ...إذا فهمت الإشارات وعشت مناسك الحجّ كما ينبغي أن تكون فستعود بعد حجّتك إلى حياتك العادية وأنت إبراهيم الذي حارب الشرك وتخاصم مع النمرود وبنى البيت للنّاس لتكون مقرّ أمن وسلام، ستحارب الفساد بما تستطيع وستقف حجر عثرة في طريق المستكبرين وستعمل جاهدا من أجل النّاس وليس من أجلك أنت فقد طلّقت أنانيتك والتحمت بابراهيم الخليل وسلكت طريق محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. هكذا الحجّ أو لا يكون ..وهكذا أريد أن يكون حجّي إلى بيت الله الحرام إن كتب الله لي يوما أن أكون ضمن ضيوفه.   
الهوامش
[1] سورة الحج - الآية 37
[2] محمد نورالدين عبدالمنعم - جوانب من الثقافة الإيرانيّة 
[3] سورة المؤمنون - الآية 52
[4] عمدت وزارة الشؤون الدينيّة التونسية في العديد من المناسبات إلى بناء مجسم للكعبة لتدريب الحجاج والمعتمرين على المناسك.
[5] سورة إبراهيم - الآية 37
[6] سورة الحج - الآية 27
[7] سورة البقرة - الآية 197
[8] علي شريعتي، الحج الفريضة الخامسة، ترجمة عباس أمير زاده، دار الأمير للثقافة والعلوم،بيروت لبنان - الطبعة الثانية 2007- ص.ص 75-76
[9] سورة غافر - الآية 16
[10] سورة الحج - الآية 26
[11] علي شريعتي، المرجع السابق.ص 96
[12] سورة الأنعام - الآية 162
[13] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» رواه البزار والطبراني في معجمه، ومعنى «عيال الله» فقراء الله ; فالخلق كلهم فقراء الله تعالى، وهو الذي يعولهم
[14] سورة الأنفال - الآية 46
[15] نذكّر على سبيل المثال التضييقات التي يمارسها النظام السعودي على الحجّاج القطريين نتيجة الخلاف السياسي بين قطر والسعودية، كما فرضت الرياض مجموعة من القيود على حجاج اليمن في  محاولة للضغط على الحوثي وأنصار صالح، وتتقلص يومًا بعد يوم آمال اليمنيين في أداء فريضة الحج في هذا العام، في ظل رواج أخبارٍ عن دراسة السعودية مشروع قرار يقضي بمنع الحجاج اليمنيين من دخول أراضيها لأداء مناسك الحج، وفي العام الماضي أصدرت السلطات السعودية قرارًا يحظر على الفلسطينيين المقيمين بالدول العربية تأدية مناسك الحج والعمرة، إلا بجواز فلسطيني خاص تمنحه السلطة الفلسطينية وللسنة السادسة على التوالي سيكون السوريون المتواجدون في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد ممنوعين من أداء مناسك الحجّ (من طرف النّظام السّوري) كما تستمرّ العراقيل لمنع الإيرانيين من الحجّ.
[16] سورة فاطر - الآية 6
[17] ادّى التدافع في منى أثناء رمي الجمرات بحياة أكثر من  270 حاج (24 ماي 1994) ووفاة 118 حاج وإصابة أكثر من 180 آخرين (9 أفريل 1998) ووفاة 35 حاجا وإصابة عدد كبير بجروح طفيفة(5 مارس  2001) ولقي 14 حاجا حتفهم (11 فيفري 2003) ووفاة 251 حاج (1 فيفري 2004)  ثمّ وفاة 364 حاج (12 جانفي 2006) ووفاة 717 حاج وإصابة 863 آخرين(24 سبتمبر 2015).