شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
إبن منظور صاحب لسان العرب
 ضيف هذه الحلقة من شخصيات الإصلاح هو من المفاخر الخالدة في التراث العربي الإسلامي، وهو من أفضل علماء عصره في المعارف الكونية والفقه واللّغة. هو أديب ومؤرّخ وعالم في الفقه الإسلامي واللغة العربية وهو قاض، عارف بالنحو والتاريخ والكتابة، وكان مليح الإنشاء له نظم ونثر، وقد تفرّد بالعوالي. إنّه صاحب لسان العرب «إبن منظور».
 هو القاضي جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن عليّ بن أحمد، الأنصاري الرويفعي الأفريقي المصري المعروف بابن منظور،ويعود نسبه إلى الصحابي رويفع بن ثابت الأنصاري الذي شهد معركة خيبر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعيّنه معاوية بن أبي سفيان واليا على طرابلس سنة 46 للهجرة، إلا أن جلَّ من ترجموا لابن منظور قد توقفوا عند جده السابع منظور وإليه نسب وعرف في الأدب العربي والإسلامي. ولد في شهر المحرم من عام 630 هـ/ 1232م، لكنّ المؤرخين اختلفوا بشأن مكان ولادته، فمنهم من رأى أنه ولد بقفصة بالجنوب الغربي للبلاد التونسية ومنهم من رآى أنه ولد في القاهرة ومنهم من رأى أنه ولد بطرابلس الغرب، إلا أن الثابت أنه نشأ بمصر. عرف بالذكاء والنجابة وقدرته على الحفظ بسرعة مع حبّه الكبير للعلم منذ الصّغر فقد جذبته الحركة العلمية التي امتلأ بها بيت أبيه، فأمضى سنوات عمره في تلقي دروس العلم والتّحصيل والتردّد على حلقات العلماء وكان يظهر ميلا كبيرا إلى اللّغة العربيّة. تتلمذ على يد مشاهير علماء الفقه واللّغة والنّحو والأدب والتّاريخ والكتابة كعبد الرحمن بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم، ويوسف المخيلي، وأبي الحسن علي بن المقير البغدادي، والعالم الصابوني. 
أجمع المؤرخون على علو كعبه في الإنشاء نظماً ونثراً، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه، وكان أديباً كبيراً إلى جانب كونه محدثاً فقيهاً، له بيان قويّ وأسلوب بليغ، يشفّ عن ثقافة لغويّة متمكّنة وبصر بالعربيّة وفنونها، وأهلته كفاءته للعمل مدّة طويلة بديوان الإنشاء بالقاهرة وقد أتاح له عمله هذا الاطّلاع على عدد كبير من الكتب العربية القيّمة وتلخيصها، فقد قال عنه الصفدي «أنّه ترك بخطّه خمسمائة مجلّد، ولا أعرف في كتب الأدب شيئاً إلاّ وقد اختصره، ولم يزل يكتب إلى أن أضرّ وعمي في آخر عمره رحمه الله تعالى»» وكان «لا يملّ من ذلك ولا يكلّ» كما قال عنه المحدِّث ابن حجر. ومن بين أهمّ مؤلفاته ومختصراته نذكر «مختار الأغاني الكبير»، ويقع في اثني عشر جزءاً و«مختصر زهر الآداب للحصري»، و«مختصر يتيمة الدهر للثعالبي» و«لطائف الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة» وقد اختصر فيه ذخيرة ابن بسام و«مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر» ويقع في ثلاثين مجلداً، و«مختصر تاريخ بغداد للسمعاني» و«مختصر كتاب الحيوان للجاحظ» و«مختصر أخبار المذاكرة والمحاضرة للتنوخي»، و«نثار الأزهار في اللّيل والنّهار في الأدب» و«أخبار أبي نواس» و«صفوة الصفوة» و«مفردات ابن البيطار» و«فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولى الألباب»، و«تهذيب الخواص من درّة الغواص للحريري».
ولورعه وتفقهه وسعة أفقه أسند إليه منصب القضاء في طرابلس. وشهد له معاصروه بالسّبق والتقدّم، وروى عنه السّبكي والذهبي، وقد حدث بمصر ودمشق وتتلمذ على ابن منظور الكثيرون منهم علم الدين البرزالي وتقيّ الدين السّبكي والشمس الذّهبي وابنه قطب الدين.
ومن أشهر أعماله وأكبرها كتابه «لسان العرب»، الذي طير شهرته في الآفاق فهو عمدة في علم اللغة وأشمل معاجم العربية، حيث جمع فيه أمّهَات كتب اللّغة، ونهج فيه نهجاً جديداً، باعتماد التّرتيب الهجائي للحروف، بانياً أبوابه على الحرف الأخير من الكلمة، وأوّل أبوابه ما ينتهي بالهمزة.
ويُعدّ لسان العرب أكثر المعاجم العربيّة موسوعيّة وشمولا، ومرجعا يعول عليه في أوساط علماء لغة الضّاد، إذ يقع في عشرين جزءاً كبيراً، ويتّسم بغزارة المادّة وبلغ عدد المواد اللّغوية فيه ثمانين ألف مادّة، واستشهد فيه بكثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبوية الشّريفة وأبيات الشّعر، التي وصلت إلى قرابة اثنين وثلاثين ألف بيت، موزّعة بين مختلف عصور الرّواية الشّعرية. كما حرص فيه على تفسير الحروف المقطّعة في أوّل سور القرآن الكريم، وأورد ألقاب حروف المعجم وطبائعها وخواصها، وآراء اللّغويين والنّحويين وغير ذلك من الأخبار والآثار، ممّا يعكس كثيراً من مظاهر حياة اللّغة العربيّة وحياة المجتمع العربي، على نحو يجعله مفيداً لا في المجال المعجمي اللّغوي فقط، بل وفي مجالات علمية أخرى كثيرة.
وقد أسس ابن منظور معجمه على خمسة معاجم سابقة هي «تهذيب اللغة» للأزهري و«المحكم» لابن سيده و»الصحاح» للجوهري و»حاشية الصحاح» لابن بري «والنهاية في غريب الحديث» لعز الدين بن الأثير. ولم يقلّل ابن منظور في تقديمه للسان العرب من جهود من سبقوه، وبيّن أن غرضه من وضع معجم لسان العرب هو إعادة الفهرسة وإعادة الإنتاج بطابع علمي سلس يسهل على الدّارس الوصول إلى غايته.يقول في تقديمه للسان العرب «وليس في هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم (...) وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيها من النّص، فليتقيد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة». 
تأثّر ابن منظور بالواقع السياسي والاجتماعي لعصره، وهو ما دفعه إلى وضع مصنّفاته وعلى رأسها لسان العرب، فقد شهد اندحار الصليبيين وخروجهم نهائياً من بلاد الشّام ومصر بعد أن عاثوا فيها فساداً، وشهد كذلك انحسار الغزو المغولي الذي اجتاح البلاد الاسلاميّة في موجة عاتية من القتل والتّدمير. يقول ابن منظور: «فجمعت هذا الكتاب (لسان العرب) في زمن، أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته، كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون، وسميته لسان العرب».
ظلّ ابن منظور مواصلا رحلته في التأليف والكتابة والاختصار حتّى أصيب  بالعمى في آخر عمره، ولقي ربه بعد حياة علمية حافلة بمصر في شعبان سنة 711 هـ الموافق لـ 1311 م عن عمر يناهز 79 عاما.