المجتمع الصالح

بقلم
إبراهيم والعيز
الماء في القرآن الكريم، وسبل المحافظة عليه
 لقد حظي الماء في القرآن الكريم باهتمام كبير؛ فقد ورد الحديث عنه في تسع وخمسين آية من آيات الذّكر الحكيم، مشيرة إلى أهمّيته وطهارته وفائدته، باعتباره نعمة الله الكبرى التي أنعم بها على مخلوقاته كلّها.
فما هي أهمّية الماء في القرآن الكريم؟ وما هي أهمّ الحلول القرآنيّة لعلاج مشكلة ندرة الماء وقلّته؟هذان السّؤالان أجيب عنهما بإذن الله في المحورين التّاليين:
المحور الأول: عظمة الماء في القرآن الكريم.
إنّ النّظر في موضوع الماء في القرآن الكريم يجعلنا ندرك أنّ الماء أعظم وأهمّ نعمة منحها الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته فضلا منه ورحمة، وأنّ الماء كذلك مخلوق حمّال بالبراهين الدّالة على عظمة خالقه وقدرته المطلقة.
وممّا يدلّ على عظمة الماء وأهمّيته لتحقيق النّعيم في الحياة الدّنيا وفي الحياة الآخرة انطلاقا من آيات القرآن الكريم، أذكر:
-أ- الماء أجلّ نعمة أنعم الله بها على رسوله الكريم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في الدّار الآخرة، حيث قال سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»(1)، والكوثر نهر في الجنّة ماؤه أشدّ بياضا من اللّبن وأحلى من العسل.
-ب- الماء أعظم عطاء ينعم به المؤمنون يوم القيامة، وهو في الوقت ذاته أعظم حرمان يقاسيه الكافرون في ذلك اليوم الموعود. قال الحقّ تعالى: «وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ» (2) .
-ج- الماء يمتدّ مفهومه في القرآن الكريم للدّلالة على توحيد الله وإثبات الألوهيّة له سبحانه؛ فإنزال الماء من السّماء وإخراجه من الأرض في شكل عيون وآبار وأودية وأنهار بيد الخالق وحده، كما قال سبحانه: «أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُون»(3)، وقال كذلك: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ» (4) ، وإنزال الماء من السّماء بقدر معلوم وفي وقت معلوم وعلى مكان معلوم من اختصاص الله سبحانه وحده القائل في كتابه: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ»(5)، وإنزال الغيث من السّماء وإحياء الأرض الميّتة به بإخراج النّبات ومختلف الزّروع والثّمار منها برهان قويّ على البعث والنّشور بعد الموت. قال العليّ الأعلى سبحانه: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6).
-د- الماء كما ذكر كتاب الله آية من آيات الله في الكون، يرى المتأمّل فيها إعجاز الله وقدرته وإبداعه في خلقه، فهو العنصر الأوّل لحياة الإنسان والحيوان والنّبات، وبفقده تموت وتذبل هذه الكائنات. قال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» (7) .
-هـ- الماء جند من جنود الله عزّ وجلّ، جعله القاهر فوق عباده عذابا وهلاكا لأمم سابقة كذّبت الأنبياء والرّسل واستحبّ أهلها العمى على الهدى؛ فقد غدا الماء طوفانا عمّ الأرض وعلا قمم الجبال، ولم ينج من عذابه إلاّ نوح وأصحاب السّفينة. قال تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ *فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِر* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ*وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ»(8)، كما أصبح الماء سيلا جارفا مدمّرا لسبأ وأهلها الذين كانوا في نعمة عظيمة تجلّت في وفرة الماء، وتنوّع الزّروع والثّمار، وسعة الرّزق، لكنّهم أعرضوا عن الهدى فكفروا بالنّعم وعصوا الخالق، فتحوّلت نعمة الماء إلى نقمة، وذلك قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ»(9).
والملاحظ أنّ البشريّة في الزّمن المعاصر لما أهدرت هذه الثّروة الغالية وأفسدتها، ولم تحمد الله عليها، عاقبها ربّها على كفرها جزاء وفاقا، وذلك بظهور مشكلتين اثنتين؛ 
-أ- مشكلة التّلوث الذي طال ضرره الأخضر واليابس، والأحياء والأشياء بما في ذلك ثروة الماء. 
-ب- مشكلة انعدام الماء أو شحّه بحيث غدت مشكلة الماء في مقدمة المشكلات العالمية المعاصرة، ويتوقّع أن تكون محور صراع الأجيال القادمة.
ونحن المسلمين أمامنا سنّة ربانية ثابتة، وفي قلوبنا راسخة، وهي أنّ البلاء الذي تصاب به الأمم والنّقم التي تحلّ بها، إنّما هي بسبب الذّنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان نفسه. قال الله تعالى مؤكّدا هذه الحقيقة: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (10) .
ومن أبرز الذّنوب المنتشرة في وقتنا وزماننا؛ الإسراف بكلّ مظاهره وتجلياته، ومن بينه؛ الإسراف في استعمال الماء في البيوت وفي غسيل العربات وفي ريّ الحدائق وفي المؤسّسات، بل وحتّى في المساجد.
والإسراف عموما عادة لقوم لا يرجون لله وقارا، ولا يحترمون نعم الله عزّ وجل، وهو تصرّف منهي عنه شرعا بنصّ القرآن الكريم. قال تعالى:«وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» (11)  ، وبين القرآن الكريم أنّ العبد يحرم بسبب الإسراف والتّبذير محبة الله عزّ وجلّ. قال سبحانه: «وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (12) .
المحور الثّاني: الحلول القرآنية لعلاج مشكلة ندرة الماء وقلته.
إنّ من أبرز الحلول التي اقترحها القرآن الكريم لعلاج مشكلة ندرة الماء وقلّته التي أصبحت شبحا مهدّدا لحياة المجتمعات المعاصرة:
-أ- هجر الذّنوب والمعاصي، فالله سبحانه وتعالى له خزائن كلّ شيء ورحمته سبحانه وتعالى واسعة تسع كلّ شيء، غير أنّ أقداره عزّ وجل سبقت أنّ الخزائن تفتح والبركات تنزل بالتّوبة والتّقوى لا بفعل السّوء والفحشاء، كما قال سبحانه وتعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(13)، وقال أيضا: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ»(14).
-ب- الإقبال على الاستغفار، لأنّ الاستغفار دليل النّدم على الخطأ، وحجّة ظاهرة على توبة المذنب وإنابته إلى الله خالقه، ولذلك كان سببا في استحقاق رحمة الله بنزول الغيث ومطر الرّحمة. قال تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا»(15).
-ج- شكر نعمة الماء بالمحافظة عليه وعدم الإسراف فيه، فلقد كانت المدينة المنوّرة زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والوحي ينزل عليه، ذات مياه وزروع وحدائق، ومع هذا كان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يغتسل بصاع ويتوضّأ بمد(16)، ولا يسرف في استعمال الماء حتّى في العبادة،  فلقد سأله أعرابي عن طريقة الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا، ثم قال؛ «هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء -أو تعدّى أو ظلم-»(17).
وانطلاقا من هذه التّوجيهات القرآنيّة والنّبويّة يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في المحافظة على هذه الثّروة، بترشيد استهلاكها وحسن استغلالها، ويعلموا أنّ ذلك عبادة يتقرّب بها إلى واهب النّعم سبحانه وتعالى، وفي ذات الآن يلزمهم أن يراجعوا أنفسهم وأن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى ربّهم، وأن يقلعوا عن المنكرات والمعاصي في الظّاهر والباطن، عسى الله أن يرحمهم ويفتح لهم من بركات السّماء، وينزل عليهم الغيث النّافع الذي به يحيي الله الأرض بعد موتها، وتطيب النّفوس ويكثر الخير. قال الله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ»(18).
الهوامش
(1) سورة الكوثر- الأية 1. 
(2) سورة الأعراف- الأية 50. 
(3) سورة الواقعة الأيتان 68-69. 
(4) سورة الملك- الأية 30. 
(5) سورة المؤمنون- الأية 18. 
(6) سورة فصلت- الأية 39. 
(7)  سورة الأنبياء- الأية 30. 
(8)  سورة القمر من الآية 9 إلى الآية 14. 
(9)  سورة سبأ من الآية 15 إلى الآية 17. 
(10) سورة الأنفال- الأية 53. 
(11) سورة الإسراءالأيتان 26-27. 
(12) سورة الأعراف- الأية 31.
(13) سورة الأعراف- الأية 96. 
(14) سورة الحجر- الأية 21. 
(15) سورة نوح- من الآية 10 إلى الآية 12.
(16)  سنن ابن ماجه. حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه؛ محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به؛ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.كتاب الطهارة وسننها-باب ما جاء في مقدار الماء للوضوء والغسل من الجنابة. رقم؛ 267. طبعة دون تاريخ. مكتبة المعارف للنشر والتوزيع-الرياض. ص/ 64.
(17) سنن ابن ماجه. كتاب الطهارة وسننها-باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه. رقم؛ 422. ص/ 90. 
(18) سورة الأعراف - الأية 156