قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة إبراهيم عليه السلام الحلقة الأولى
 موجز تاريخي
إبراهيم عليه السلام هو سليل السّاميّة التي يتقمّصها الصّهاينة اليوم ويستخدمونها بتعزير من قوى القهر في الأرض مقبرة لوأد حقوق الشّعوب والأمم بزعمهم أنّهم شعب الله المختار سلالة ساميّة فلا يجدون من يكذّب دعواهم أنّ إبراهيم السّامي ـ إبن سام إبن نوح ـ هو جدّ البشريّة جمعاء قاطبة فلا يفتخر به يهودي دون مسلم ولا عربي دون أعجمي. ذلك أنّ قوم نوح أهلكوا على بكرة أبيهم بالفيضان وما نجا معه عدا نفر قليل من أهل السّفينة. هذا إذا إعتبرنا أنّ الأصل العرقي أو السّلالة العنصريّة مفخرة ومنقبة ولكنّها ليست كذلك عند التّحقيق. 
الأرجح أنّ إبراهيم ولد بالعراق بل هو مؤكّد ( الأهواز أو بابل ) وكان أبوه نجّارا يصنع الأصنام ويبيعها. نشأ الطّفل ـ الفتى بالتّعبير القرآني ـ موحّدا بعقله وقبل ورود الوحي إليه، فكان مناضلا ضدّ عبادة الأصنام وإشتبك كما سنرى مع ملك العراق « نمرود» وإنتقل داخل العراق وإنتقل معه إبن أخيه لوط عليه السّلام وزوجه سارّة ثمّ رحل إلى حران بالشّام ثمّ إلى أرض الكنعانيّين ـ فلسطين ـ وأقام بنابلس ثمّ إلى مصر أين وهب ملكها سارّة بعد أن نجّاها الله من كيده جارية هي هاجر التي أهدتها زوجها إبراهيم، فولدت له إسماعيل وعمره يناهز التّسعين ثمّ رحل إلى مكّة ثمّ عاد لوحده دون زوجه وولده إلى فلسطين مرّة أخرى ثمّ وهبه الله ولدا آخر وهو إسحاق من سارّة وقد بلغ المائة وينسب إلى إبراهيم أحد أبنائه هو مدين الذي أستوطن مدين ثم أرسل إليهم شعيب عليه السّلام ولمّا بلغ المائة الثّانية إلاّ عقدا ونيف توفّاه الله في مدينة الخليل ودفن هناك وقد أخبر عنه خاتم الأنبياء محمد عليه الصّلاة والسّلام أنّه إختتن بقدوم وهو يناهز الثّمانين.
إبراهيم في القرآن الكريم
هو أكثر الأنبياء ذكرا بعد موسى عليهما السّلام إذ ذكر إبراهم 69 مرّة وسمّيت سورة بإسمه هي سورة إبراهيم وذكر في 26 سورة من سور القرآن الكريم وفي مواضع مختلفة تتجاوز ذلك بكثير. حاز إبراهيم في القرآن الكريم أكثر مناقب الأنبياء فهو خليل الرّحمان سبحانه «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا»(1) وهو الذي جعله الله للنّاس إماما «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» (2) وهو صاحب الملّة المتّبعة كما يرد كثيرا في القرآن الكريم حتّى إنّ محمدا عليه الصّلاة والسّلام أوحي إليه أن يتبع «مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا»(3) وهو المصطفى «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(4) وهو الذي أسبغ عليه أرقى صفات التّقوى واليقين فهو « إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ» (5) وهو مضيف الملائكة «وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ» (6) وهو أمّة «قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا» (7). وصفة الحنيفيّة هذه نسبت إليه مرّات كثيرات وهي تعني الميلان عن الشّرك الذي ضرب بأطنابه في تلك الأيام حتّى لكأنّه أصبح أصلا والحنيف عنهم ـ المائل ـ هو المؤمن الموحّد. وهو الشّاكر لأنعم الله سبحانه وهو صدّيق نبيّ ومعلوم أنّه رسول من أولي العزم الخمسة المذكورين في القرآن الكريم بصيغة التقدير والرفعة بما أخذ منهم من ميثاق غليظ وهو أبو المسلمين والموحدين في كل زمان ومكان «مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ»(8) وهو من أولي الأيدي والأبصار كما ورد مع نفر من الأنبياء الآخرين كناية عن القوّة والعقل والخير والحكمة وهو الأسوة الحسنة للنّاس أجمعين من بعده وهو المهاجر من العراق إلى فلسطين ثمّ إلى مصر ثمّ إلى نجد حيث بنى الكعبة ورفع قواعدها مع ولده إسماعيل وهو من أُوتي أجر الدّنيا إلى جانب أجر الأخرة وهو الذي وفّى كما أخبر عنه ربّه وفاء جعله قمينا بالمدح الإلهي وهو صاحب المقام في الكعبة المشرفة وهو كما سنرى بطل قصّة التّوحيد في القرآن الكريم وقائد مناسك الحجّ في البشريّة جمعاء قاطبة والحجّ هو رمز التّوحيد لمن يفقه فلسفة الحجّ طوافا وتلبية وغير ذلك وهو من تربّع على عرش التّضحية والطّاعة واليقين الذي ما بعده يقين وذلك في قصّة ولده إسماعيل الذّبيح عليهم السّلام جميعا وإلى غير ذلك ممّا أضفي عليه وأسبغ وممّا سيمرّ معنا بحوله سبحانه في جولات من قصّة هذا الرّجل الذي كفي فخرا أنّه اتخذه الله سبحانه خليلا ولك أن تتصوّر خلّة الرّحمان سبحانه كما سنرى من صور الحكمة والحيلة المحمودة والدّهاء المرغوب بما حباه به الله ما يجعل الإتساء به نعمة تفوق كلّ نعمة ناهيك أنّ محمدا عليه السّلام وهو الخاتم أمر بإتباعه.
أبرز مشاهد الخليل في الحياة
يحتاج العقل جرعة من التّدبر والمكث حتّى يستوعب هذا المقام الأعظم ـ مقام الخلّة ـ الذي حبا الله به إبراهيم. أن يكون نبيّا ورسولا وصدّيقا وحتّى كليما فهو مفهوم. أمّا أن يرتقي إلى مرتبة الخلّة ( خلة الرّحمان) فهو أمر لا أظنّ أنّ من يتدبّره يستوعبه بسرعة. السّؤال هو : ما الذي فعله إبراهيم حتّى يرتقي إلى هذا المرقى الأعظم؟ أظنّ أنّه لمّا تقحّم عقبات كبرى عظمى لا يتقحمها بفلاح غيره إلاّ قليلا جدّا رفع إلى هذا المقام الأعظم. ومن تلك العقبات التي نأتي عليها إن شاء الله تعالى في جولاتنا مع هذه القصّة القرآنية الكبرى ( قصّة الخليل) محطّة ذبح إبنه إسماعيل عليه السّلام بيده وفي إثر رؤية مناميّة وهو وحيده وقد بلغ معه السّعي وقد بلغ الرّجل من الكبر عتيّا، إذ لم يتردّد طرفة عين. 
عندما يسوق الخطباء والأئمة هذا الكلام ينتابني شعور أنّ هناك خللا يحول دوننا ودون إستيعاب هذا المشهد. إمّا خلل يغشى المتحدّث فيرويه كمن يروي قصّة رجل ذبح عصفورا عزيزا عليه أو ضحّى بكبش أقرن ألين وإمّا خلل يغشى أجهزة الإستقبال فينا كمن يستقبل قصّة رجل شهم بدّد بيديه ماله أو نثره على الأرض. لا أظنّ أنّ النّاس إلى يوم النّاس ـ إلاّ قليلا ـ يستوعبون حقّ الإستيعاب كيف يذبح رجل فلذة كبده اليتيمة في مثل تلك الظّروف التي توحي كلّها بأنّ الإقدام على عمل مثل هذا جنون ما بعده جنون. 
نتلهى نحن اليوم عن ذلك بالتّضحية بكبش أقرن ألين مرّة كلّ عام بمناسبة عيد الأضحى ثم نتفاخر بأنّ تلك الأضحية كلّفت هذا كذا مالا والآخر كذا حالا. ومن تلك العقبات التي تقحّمها إبراهيم فتبوأ بها مرقى الخلة تضحيته بأبيه لمّا تبين له أنّه عدو لله وتبرّؤه منه وهو موقف ليس يسيرا ولا سهلا كذلك إذ أنّ أدنى ما يجلبه ذلك على أمثال هؤلاء الأبطال هو نقمة النّاس وتعييرهم له في مجتمعات تقوم على الولاء القبلي وننبسط إن شاء الله في الحوار الدّائر بين الفتى الخليل وأبيه لنشهد بالصّوت والصّورة أن مقام الخلّة ليس هو مرقى يطأه كلّ من هب ودبّ. 
ومن تلك المحطات التي أنزلته مقام الخلّة كذلك ذكاء هذا الفتى الوقّاد إذ لا يبالي بالكذب كما أخبر عنه آخر أحفاده نبوّة أي محمد عليه الصّلاة والسّلام (9). وهو الذّكاء الذي ورثه عنه كثير من عقبه من الأنبياء منهم يوسف صاحب الملحمة الذّكية كما مرّ بنا في القصّة الفارطة من هذه السّلسلة ومنهم سليمان مع بلقيس. هنا تبين لي أن هؤلاء الأشبال الذين أداروا المعركة بسلاح الذّكاء ورماح العقل دهاء ومكرا ومراودات قيميّة ليسوا عدا بذرات لاقحة من هذا الجدّ الخليل الذي ـ كما سنرى في معركة الأصنام إن شاء الله وغيرها ـ أدار المقاومة بالذّكاء وبسلاح العقل وهو سلاح الإنسان ولكن إبتلينا بغلمان يديرون المعركة بسلاح العضلات كأنّهم من طينة العجماوات والبكماوات. 
ومحطة أخرى أهّلت إبراهيم إلى مقام الخلّة الرّحمانيّة وهي محطة النّظر في الملكوت أي تدبّرا في الكتاب المنظور وهي رحلة هذا الرّجل الكبير ـ بطل التّوحيد في القصّة القرآنية بلا أيّ منازع ـ من الشكّ إلى اليقين كما ورد ذلك في سورة الأنعام ـ سورة التّوحيد الكبرى بتعبير معاصر ذكيّ ـ. هذا العقل العظيم الذي نحت الإيمان من النّظر والمقارنة ـ كما سيقع تفصيل ذلك بحوله سبحانه ـ وليس من التّقليد أو الببغاويّة القروديّة الواجفة .. هذا العقل الكبير الذي أدار المعركة مع الوثنيّة بسلاح الذّكاء الوقّاد وليس بسلاح العضلات .. هذا العقل السّليم الذي لم يهابْ بطش «النّمرود» فقاومه بالدّهاء الفكري وهزمه «إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ» (10).. هذا العقل الواسع الذي علّمنا أنّ الشّرك منه سياسي وأنّ التّوحيد منه سياسي وليس هو حبيس الأضرحة ومقامات (الأولياء) .. هذا العقل العميق الذي لا يبالي أن يلقى في النّار في سبيل إنقاذ البشريّة بإذن ربّه من دياجير الوثنيّة وسجون الصّنمية .. هذا العقل الواثق الذي لا يتزحزح ولا يتزلزل حتّى وهو في الطّريق إلى أخدود النّار يلتهمه فيحيله فحمة سوداء في طرفة عين، إذ يأتيه ملك الوحي جبريل عليه السّلام في تلك السّبيل ولا ينفصل عن النّار سوى بعشر معشار طرفة عين يعرض عليه مساعدة فلا يتردّد أن يقول له بفؤاد قدّ من الخلّة الرحمانية : إذا كان ذلك منك فلا… هذا العقل الذي لا يدع الأرض تستوطنه بل يستوطن هو الأرض مهاجرا من العراق إلى فلسطين ثم إلى مصر وعودة إلى نجد بحثا عن إنسان يحرّره بإذن ربّه من العبوديّة لغير ربّه سبحانه .. هذا العقل الذي جعله الله هو من يشرّع للبشرية من بعده جمعاء قاطبة عبادة الحجّ بمناسكها وحكمتها ومقصدها التّوحيدي الأعظم تلبية وطوافا وإحراما وسعيا ونحرا .. هذا العقل الذي حيّر العقول من بعده وهو يسأل ربّه السّؤال الذي نعدّه نحن اليوم هرطقة وزندقة وردّة وفساد عقيدة «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ» (11) وهو السّؤال الذي ظلّ نطفة حيّة تسري إلتقطها من بعده بقرون طويلة أحد أحفاده وهو موسى عليه السّلام «رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ» (12).. هذا العقل الذي علّمنا أنّ صراط التّحرّر يمرّ حتما عبر صراط السّؤال، فمن يسأل يُهد ومن يستنكف يضلّ … هذا العقل الذي أضفى على صاحبه جرعة من الرّحمة جعلته يجادل رسل الله ـ الملائكة ـ في عقاب قوم إبن أخيه لوط رأفة بهم وحلما .. هذا العقل الذي جمع بين فؤاد صارم وبين عاطفة مشبوبة جيّاشة .. هذا العقل متعدّد الأبعاد هو الذي بوّأ صاحبه لأن يرقى مراقي الخلّة الرّحمانية وهو المرقى الذي لم يتسلّقه أحد قبله ولا بعده. هذا العقل الكبير نتعلّم منه فقه الحياة قبل فقه الدّين في رحلتنا مع قصّته إن شاء الله تعالى.
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 125
(2) سورة البقرة - الآية 124
(3) سورة آل عمران - الآية 95
(4) سورة آل عمران - الآية 33
(5) سورة هود - الآية 75
(6) سورة الحجر - الآية 51
(7) سورة النحل - الآية 120
(8) سورة الحج - الآية 78
(9) سيرد الحديث وهو متفق عليه في أثناء المعالجة إن شاء الله
(10) سورة البقرة - الآية 258
(11) سورة البقرة - الآية 260
(12) سورة الأعراف - الآية 143