اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
تمويل الجماعات المحلّية تحدٍّ وفُرص
 مقدّمة
شغل موضوع تمويل الجماعات المحلّية بال المشرّع التّونسي وعكسته فصول الدستور الجديد للبلاد – جانفي 2014 - ضمن بابه السّابع بعنوان «السّلطة المحلّية» وعدّة فصول أخرى من مجلّة الجماعات المحلّية المصادق عليها بتاريخ 26 أفريل 2018. كما شغل بالي كاقتصادي منذ انطلاق مسار الانتخابات البلديّة الأخيرة.
 واليوم وقد تمّ تنصيب المجالس البلديّة المنتخبة المكلّفة حسب الفصل 133 من الدّستور بإدارة تلك الجماعات بات من الضّروري عرض ما توصّل اليه هذا الانشغال لمعرفة مصادر الموارد الماليّة للجماعات المحلّية وكيفية تنميتها؟ على أن نتناول في مقال ثان لاحقا إن شاء الله موضوع نفقات هذه الجماعات.
(1) تمويل الجماعات المحلية حسب المشرع
نصّ الفصل 131 من الدّستور على قيام السّلطة المحلّية على أساس اللاّمركزيّة واعتبر في فصله 135 أنّ «للجماعات المحلّية موارد ذاتيّة وموارد محالة اليها من السّلطة المركزية..» وأنّ «كلّ إحداث لصلاحيّات أو نقل لها من السّلطة المركزيّة الى الجماعات المحلّية يكون مقترنا بما يناسبه من موارد» ليختم بالقول «يتمّ تحديد النّظام المالي للجماعات المحلّية بمقتضى القانون».
وفي الفصل 136 يواصل المشرّع تناول الموضوع بالقول «تتكفّل السّلطة المركزيّة بتوفير موارد إضافيّة للجماعات المحلّية» مسوّقا ذلك بـ«تكريسا لمبدا التّضامن وباعتماد آليّة التّسوية والتّعديل» ليختم بالقول «تعمل السّلطة المركزيّة على بلوغ التكافؤ بين الموارد والأعباء المحلّية».
وحين نقرأ تلك الفصول نستنتج أنّ التّمويل الذّاتي لم يحض بالقدر الذي حُضي به التّمويل المركزي ممّا يجعل الغموض يحوم حول جدّية القول بـ «الاستقلاليّة الإداريّة والماليّة» للجماعات المحلّية وإدارة «المصالح المحلّية وفقا لمبدا التّدبير الحرّ» حسب الفصل 132 من ذات الدّستور.
الى أن نصل الى الفصل – 140 – من الدّستور الذي غاب فيه ذكر اعتماد الجماعات المحلّية على آليات التّشاركية في تمويلها والاكتفاء بذكر «إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التّنمية والتّهيئة التّرابية ومتابعة تنفيذها..»
وبالرّجوع الى مجلة الجماعات المحلّية نجد أنّ المشرّع استدرك بالقول بـ «تكفّل الدّولة تدريجيّا وبواسطة قوانين الماليّة والقوانين الجبائيّة والقوانين المتعلّقة بالأملاك بجعل الموارد الذّاتية تمثّل النّصيب الأهم لموارد كلّ جماعة محلّية وتلتزم السّلطة المركزيّة بمساعدة الجماعات المحلّية على بلوغ التّكافؤ بين الموارد والأعباء (الفصل 127)
ولبلوع ذات الهدف جاء في أحكام المجلّة المشتركة أن السّلطة المركزيّة « تعمل على تعزيز الموارد الذّاتية للجماعات المحلّية». كما جاء أنّه «يُمكن إبرام اتفاقيات بين السّلطة المركزيّة والجماعات المحلّية لتدعيم الموارد الماليّة والبشريّة لتلك الجماعات» مُسوقا ذلك بالقول «بما من شأنه أن يدعّم استقلاليتها الإدارية والماليّة»
(2) تمويل الجماعات المحلّية: تحدٍّ وطني ومحلّي
يُشكّل تمويل الجماعات المحلّية تحدّ وطني ومحلي في آن واحد وممّا يزيد من حدّة هذا التّحدي ما وضعه المشرّع على كاهل السّلطة المركزيّة من دور في تمويل هذه الجماعات والحال أنّها لم تقدر على توفير النّفقات بالحجم الذي يحقّق أقدارا من التّنمية على المستوى الوطني.
إنّ تمويل الجماعات المحلّية تحدّ وطني فرضه شحّ الموارد على المستوى المركزي نتيجة ضعف محرّكات الاقتصاد الوطني الثّلاث (الاستهلاك والاستثمار والتّصدير) نظرا لعوامل عديدة أهمّها:
- بطء نسق النّشاط الاقتصادي وما أنتجه من ضعف نسبة النّمو.
- عجز الموازنات الثلاثة (ميزانيّة الدّولة – الميزان التّجاري – ميزان الدّفوعات )
- ارتفاع نسبة التّضخم وما تعنيه من مزيد تراجع للمقدرة الشّرائية للمستهلك وما ينتج عنه من عدم توفّر ما ينفقه مشاركة منه في التّنمية.
- الرفع من نسبة الفائدة المديريّة من طرف البنك المركزي وما يمكن أن يؤدّيَ إليه هذا الارتفاع من انكماش للاستثمار وما يليه من ضعف أو انعدام للتّوظيف من جهة وكبح للتّصدير من جهة أخرى وما يتبعه من استمرار تراجع المحصول من العملة الصّعبة. 
فكيف يمكن للسّلطة المركزّية أن تقوم بإنجاز ما طلبه منها المشرّع من تمويل للجماعات المحلّية في ظلّ شحّ مواردها الذّاتية؟
لذلك، ما لم ينجح التّونسيّون في الاهتداء الى الطّريقة التي يستقيمون عليها والتي تمنحهم الموارد الضّرورية للتّنمية المحلّية، فستجد السّلطة نفسها أمام الاستمرار في خيار التّداين الخارجي ممّا يُنبّئ بمزيد تأزّم الوضع وتفاقمه رغم ما ترصده جهات دوليّة من منح لدعم الحكم المحلّي والذي يبقى محدودا جدّا كالمساندة الأخيرة التي أعلن عنها البنك الدولي يوم 18 جوان 2018 لتطبيق برنامج اللاّمركزية في تونس والبالغة 130 مليون دولار (345 مليون دينار) لمساعدة الحكومات المحلّية على تلبية احتياجات التّنمية لمجتمعاتها المحلّية(1) 
كما يُشكّل تمويل الجماعات المحلّية تحدّ محلّي نظرا لمشكلة المديونيّة المحلّية من جهة وضعف الموارد الذّاتية من جهة أخرى لكن والحمد لله ليس كلّ البلديّات تعاني من المديونيّة خاصّة حين نستحضر أن حجم ديون البلديّات في حدود 150 مليون دينار وراء 68 % منها 33 بلدية من مجموع البلديّات وأن 7 بلديات تعاني من مديونيّة هيكليّة تغطي 30 % من إجمالي الدّيون مقابل 92 بلديّة بلا دين من جملة 264 (2) 
(3) فرص تمويل الجماعات المحلّية
يُفسّر تراجع الموارد الذّاتية للبلديّات مشكلة مديونيتها وذلك جرّاء ضعف نسب الاستخلاص أو غياب الموارد الجبائيّة والاستثمارات المولّدة للموارد مقابل تنامي نفقات التّصرف بشكل مفرط والذي تجاوز في بعض البلديات 200 % من جملة الاعتمادات المرصودة لها حسب تصريحات مسؤوليين حكومييّن (3) 
 ورغم هذا التّراجع يبقى الاعتماد على التّمويل الذّاتي أساس العمل المحلّي وهو المورد الرّئيسي في خانة موارد الجماعات المحلّية وذلك لما يضمنه من استقلاليّة المحلّيات عن الحكومة المركزيّة إداريّا وماليّا ولما يضمنه من تدبير حرّ للشّأن المحلّي وذلك بهدف تحقيق التّنمية المحلّية بيئيّا واقتصاديّا واجتماعيّا ولكن هل توجد فرص حقيقية وواقعية لتوفير هذه الموارد؟
يمكن توفير التّمويل الذّاتي المحلّي من خلال اجراءات عديدة ومتنوّعة نذكر من بينها:
- منح البلديّات قروضا من دون فوائد أو ما يطلق عليه في قاموس الماليّة الإسلاميّة آلية «القرض الحسن» خاصّة وأنّ لدينا بنوكا تحقّق سنويّا فوائض ماليّة هامّة وذلك بهدف الاستثمار في مشاريع ذات مردوديّة ماليّة مع اختيار تلك التي تتساير وخصوصيّات المنطقة المحلّية الاقتصاديّة والتي تمكّن البلديّات من التّعافي تدريجيّا من مديونيتها وتوفّر للبقيّة موارد إضافيّة وفي نفس الوقت تساهم في إحداث حركيّة اقتصاديّة في المحلّيات وتوفّر بالتّالي منتوجات وخدمات إضافيّة وتمتصّ جزءا من البطالة المتفشّية وتمكّن آخرين من الكسب بما يجعلهم يساهمون في الإنفاق التّضامني في شكل صدقات أو زكاة وغيرها من النّفقات، كلّ حسب محرّكه الذّاتي.
- تفعيل عمليّات التّحصيل الضّريبي من متساكني المنطقة البلديّة من خلال عمليّة توعويّة واسعة النّطاق ومن خلال إرجاع الثّقة بينهم وبين المجلس البلدي. ولهذا المجلس دور حاسم في ذلك من خلال سياساته وقراراته ولكلّ أفراده ايضا من خلال سلوكهم ومعاملاتهم وما عرفه النّاس عنهم.
- تفعيل ما اعتبرته مجلّة الجماعات المحلّية موارد ذاتيّة في فصلها 128 وعدم التّهاون في كسبها لخزينة البلديّة والابتعاد عن كلّ ما من شأنه منع وصول تلك الموارد اليها أو المساعدة على ذلك وهذا يتطلّب استحضار قيم الإخلاص للمنطقة والوفاء لدماء الشّهداء (والتي لولاها لما تمّت انتخابات) والى حفظ الأمانة التي عهدها النّاخب لأعضاء المجالس البلديّة.
ولتنمية الموارد الماليّة المحليّة للجماعات المحلّية وجب مراعاة:
- تحقيق اللاّمركزية في الإنفاق وترشيد الإنفاق العام المحلّي.
- تطوير القدرات الفنّية والاقتصاديّة للمنطقة وللمشروعات وإعداد الدّراسات الفنّية الجيّدة.
- تهيئة المناخ المناسب للاستثمار.
- تشجيع وتنظيم الجهود الذّاتية الخاصّة بالأفراد ورجال الأعمال وإسناد بعض الخدمات إلى شركات خاصّة والتّنسيق بين المؤسّسات والبنوك المتخصّصة.
- الاهتمام بالسّياحة الشّاطئية وغيرها حسب الموقع الجغرافي للمنطقة البلديّة كمصدر للتّمويل الذاتي.
- تفعيل آليات المشاركة الشّعبية في المشروعات والوحدات المحلّية تمويلا وتخطيطا وبرمجة وإنجازا.
(4) استخلاصات 
بات الاعتماد على الذّات الوصفة المثاليّة لتوفير التّمويل اللاّزم للجماعات المحلّية وحتّى وإن بدا التّمويل الذّاتي الآن بعيد المنال إلاّ أنّه يظلّ هدفا وجب العمل على توفيره ولا يمكن أن يتحقّق ذلك الاعتماد دون معرفة الذّات والطّريقة التي على كل أفراد المنطقة الاستقامة عليها حتّى تُفتح لنا خيرات السّماء والأرض ونُسقى ماء غدقا.
إن معرفة الذّات تمرّ حتما من خلال معرفة القدرات الكامنة في كلّ فرد من أفراد المنطقة البلديّة الرّوحية منها والذّهنية والبدنيّة وكذلك قدراته الفرديّة والاجتماعيّة وايضا من خلال معرفة قدرات المنطقة الاقتصاديّة الفلاحيّة منها والصّناعية والخدماتيّة ( الماليّة والسّياحية وغيرها) وقدراتها الاجتماعيّة من مؤسّسات دينيّة وخيريّة وتعليميّة وصحّية وشبابيّة ورياضيّة وكذلك قدراتها البيئيّة.
أمّا الطّريقة فهي الايمان بالإنسان - معجزة الله الخالدة- إيمانا بقدارته منذ نعومة أظافره وطيلة عمره كلّ في مجاله وهي كذلك الإحسان للذّات وللمجتمع المحلّي عبر الإحسان في القول والعمل وفي السّلوك والمعاملات وفي التّفكير والتّخطيط وفي البرمجة والتنفيذ وفي المتابعة والتّطوير.
الإحسان في علاقة كلّ فرد أو مؤسّسة بالبيئة التي يحيا في إطارها ومكوّناتها حتّى لا يتسبّب في اختلال التّوازن البيئي وانتشار الأمراض أو الانحباس الحراري أو انحباس الغيث النّافع كماء غدقا. 
الإحسان في النّشاط الاقتصادي من قِبل كلّ فرد وكلّ مؤسّسة بما يخلق الثّروة غاية كلّ عمليّة اقتصاديّة وذلك عبر إتقان العمل وزيادة الإنتاج والرّفع من مستوى الإنتاجيّة.
الإحسان في علاقة الأفراد بالمال انفاقا بدون قتر ولا إسراف او تصرفا بدون تبذير او اكتناز...
الإحسان في علاقة الأفراد، بعضهم ببعض، في العملية الاقتصادية من خلال اعتماد أنماط من التّعاون والتّنافس في فعل ما يعود بالنّفع على الجميع كلّ حسب جهده ولكلّ حسب حاجته بعيدا عن الاستغلال أو الغش أو الاحتكار...
الإحسان في العلاقات الاجتماعية حتّى لا يبقى فقير في المنطقة البلديّة أو مريض دون علاج أو أرملة دون معيل أو شيخ مسنّ دون رعاية وحتّى لا يبقى شابّ عاطل عن العمل وحتّى ينجح أبناؤنا في مختلف مراحل تعليمهم وحتى لا يتيه البعض أو يلجأ إلى إلحاق الضّرر بذاته أو بمجتمعه وحتى لا تبقى فتاة عانس ولا شابّ أعزب و.....
أمامنا حلم كبير ينتظر التّحقيق، فهل من مجيب خاصّة وأن الوعد الإلهي تكرّر مرّتين والله لا يخلف وعده «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا...»(4) و«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...»(5) ؟
الهوامش
(1) موقع البنك الدّولي «www.banquemondiale.org»
(2) سنة التّصرف 2016 - حسب موقع «nawaat.org»
(3) المصدر السابق موقع «nawaat.org»
(4) سورة الجنّ - الآية 16
(5) سورة الأعراف - الآية 96