الأولى

بقلم
فيصل العش
كيف نعيد بناء صرح كرامتنا المهدورة؟
 تمهيد
انطلقنا في الجزء الأول من هذا المقال من فكرة مفادها أنّ نجاح عمليّة التّغيير التي نسعى إليها لانقاذ مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة من وحل الانحطاط والتبعيّة مرتبط أساسا بمدى توفّقنا في فهم شخصية الإنسان العربي وتحديد المكبّلات والمطبّات الذّاتية والموضوعيّة التي تمنعه من أن يكون فاعلا في عملية التغيير، ما دام هو المكون الرّئيس للأمّة وأنّ فهم هذه الشّخصيّة يمرّ عبر درس مبحث «الكرامة» ثمّ تطرّقنا إلى ماهيّة الكرامة لغة واصطلاحا وتعرّضنا بالتّحليل إلى خصائصها ومظاهرها ومعانيها في حياة الإنسان وواقعه المعيش ثمّ إلى الكرامة الإنسانيّة في المواثيق الدّولية والخطوات التي اتخذت على مستوى النّصوص القانونيّة لتلك المواثيق مبيّنين بأمثلة حيّة أنّ روح القوانين ونصوصها في واد وتطبيق ما جاء فيها في واد ثان. حيث أنّ الكرامة البشريّة مازالت تنتهك في كلّ وقت وحين بل ربّما ازداد حجم الانتهاكات بالرّغم من علويّة القانون الدّولي وتعدّد النّصوص التي توجب حفظ وصون كرامة الإنسان. وسنحاول في هذا الجزء الثاني أن نتطرّق إلى واقع كرامة الإنسان في العالم العربي الإسلامي ونبحث عن أسباب الانتهاكات الصّارخة التي شملتها ونتائجها على حال الأمّة مقدّمين بعض الحلول من خلال الحديث عن كيفيّة صون الكرامة الإنسانيّة. 
الكرامة في العالم العربي الإسلامي
لم تتردّد كلمة «الكرامة» على لسان شعب من الشّعوب كما تردّدت على ألسنة شعوبنا العربيّة الإسلاميّة سواء لدى عامّة النّاس أو لدى النّخب بمختلف مشاربها الفكريّة والسّياسية. كلمة يكرّرها السّياسيون في خطبهم الرّنانة حكّاما ومعارضين وهي عنصر أساسيّ ضمن برامجهم الانتخابيّة والدّعائيّة، وقد جعلها بعضهم عنوانا لتمرّدهم أو ثورتهم على ذوي السّلطان(1) وهناك من استعملها عنوانا لحربه ضدّ منافسيه من بني بلده، حرب لم يحفظ فيها كرامة ولا ذمّة (2) والكرامة مصطلح يتحدّث عنه خطباء المساجد في مواعظهم ومعتلو المنابر الإعلاميّة في برامجهم والأدباء في مقالاتهم وكتبهم والشعراء في قصائدهم خاصّة عندما يتعلّق الأمر بفلسطين وحرمة المسجد الأقصى.
يحدّثك الجميع عن كرامة الإنسان العربي وكرامة الأمّة وكرامة الوطن وكرامة الدّين وكرامة الشّعب، لكنّ سرعان ما تكتشف أن أغلب ما كنت تسمعه لا يتجاوز حدّ الشعارات الجوفاء أو ربّما هو كلام المحرومين من تلك الكرامة. فالمجتمع العربي الإسلامي يعاني منذ مدّة طويلة نقصا فادحا في احترام الذّات البشريّة والاعتراف بها ومن انتهاك للكرامة الإنسانيّة شمل الفقراء والمحتاجين كما شمل المثقفين والعلماء والسّياسيين. ولم تكن الثّورات العربيّة الأخيرة إلاّ تعبيرا صارخا عن المسّ من كرامة الإنسان العربي، فالشّعور بالمهانة والغربة في الوطن واحتقار الغنيّ للفقير والقويّ للضّعيف والمسّ من أبسط الحقوق والحاجيّات الضروريّة كالشّغل والتّعليم والغذاء والدّواء هي من أهم الأسباب التي وقفت وراء تفجّر الثّورة العربيّة.ولهذا نجد شعار«شغل، حرّية، كرامة وطنيّة» الذي رفعه شباب الثّورة التّونسية يختزل أهمّ المطالب التي دفعت بهؤلاء الشّباب إلى أتون معركة حامية الوطيس، مع عصابة حاكمة تفوقهم عدّة وعتادا، لم يتوقّع أكثر المثقّفين تفاؤلا بنهايتها لصالح الشّباب العزّل. شعار يعبّر عن انتهاك صارخ لكرامة التّونسي (كمثال للإنسان العربي). 
استبيحت الكرامة العربيّة حتّى النّخاع حيث  انتهكت كرامة الإنسان العربي باستمرار سواء عن طريق بني جلدته أو غيرهم من قوى الظّلم والطّغيان العالميّة. ولم يبق شعب واحد من الشّعوب العربيّة إلاّ وانتهكت كرامة أبنائه. ويعتبرالشّعب الفلسطيني أكثر الشّعوب العربيّة التي انتهكت كرامتها، كيف لا وقد اغتصبت أرضه وقُتل أبناؤه بدم بارد في مجازر لا تحصى ولا تعدّ وهُجّر أغلبه وفرض عليه اللّجوء في مخيّمات هنا وهناك. ومازال الصّهاينة ينتهكون يومّيا كرامة الفلسطيني في غزّة عبر حصار ظالم برّاً وبحراً وجوّاً بعد أن قذفتها بكل الأسلحة المحرّمة وأحالتها الى كتلة من النّار والفسفور بالرّغم من القرارات الدّولية العديدة الصّادرة في شأن هذه القضيّة. 
أمّا في بقيّة العالم العربي الإسلامي فقد غدت الكرامة جثّة هامدة لا حياة فيها وقد صدق الشّاعر أحمد مطر حين صرخ قائلا: « في مقلب الإمامة ... رأيت جثّة لها ملامح الأعراب ... تجمّعت من حولها النّسور والذّباب ...وفوقها علامة تقول ...هذي جثّة كانت تسمّى سابقا كرامة» (3) ولعلّ من أبرز مظاهر انتهاك كرامة العربي ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والجهل لديه بالإضافة إلى غياب مظاهر الحرّية وصون الحقوق المدنيّة نتيجة هيمنة الدكتاتوريّة على الحياة السّياسيّة سواء من خلال حكم العسكر أو من خلال حكم عائلات بعينها تتوارث الحكم رغم أنف الشّعب وهي مستعدّة لتصفية كلّ نفس معارض لها مستعملة أقسى أنواع التّعذيب والسّجن والنّفي في أحسن الحالات.
ومن المظاهر الصّارخة لانتهاك كرامة الإنسان العربي أنّه أصبح يُقتل بدم بارد ويُمثّل بجسده أمام شاشات التّلفاز بأياد عربيّة مثله كالذي  يحدث اليوم في اليمن وسوريا والعراق. والأدهى والأمر أنّ ذلك يحدث باسم حفظ الكرامة العربيّة وكرامة الوطن وكرامة الدّين. 
ولقد لعب تطويع الدّين الإسلامي من طرف الحكّام وفقهاء السّلطان ومنظّريه دورا في تحطيم بنيان الكرامة الإنسانيّة عند العربي المسلم طيلة قرون طويلة وخاصّة في عصر الإنحطاط، حيث برزت مفاهيم عديدة بلبوس ديني غيبت معنى الاستخلاف وحصرت العلاقة بين العبد وربّه في شعائر وطقوس واحتفالات دينيّة أقرب منها إلى الفلكلور وكرّست الخنوع والخضوع للسّلطان وبرّرت الظلم والطغيان وحاصرت بشكل مدروس المرأة العربية المسلمة وإذلالها بسلبها حقوقها كحقّ التعلّم والعمل بتعلّة الحفاظ على كرامتها. وهي بذلك تذلّ الرجل لأنّ كرامة الرّجل من كرامة أمّه وأخته وزوجته. 
إنّ انتهاك كرامة الإنسان العربي لمدّة طويلة أفقدت مجتمعاتنا الحصانة وجعلت منها مجموعات بشريّة تابعة لا قيمة لها في سلّم الأمم بلا تأثير في الحضارة الإنسانيّة. وكيف يكون لفاقد كرامته أو المطعون فيها أهمّية تذكر أو تأثير على مجريات الأحداث. 
كيف نعيد تشييد صرح كرامتنا؟
إذا أردنا تغيير حال أمّتنا والنهوض بواقعنا علينا أن نولِيَ موضوع «كرامة» الإنسان العربي أهمّية قصوى فنجعله من أولويّاتنا على مستوى النّضال الفكري والثقافي والسياسي ونعمل على إعادة تشييد بنيانها.
علينا، كدعاة إصلاح وتغيير، أن نضع خططا عمليّة لإيقاف النّزيف الذي أنهك كرامة الإنسان العربي وذلك عبر النّهوض بوعي النّاس بحقوقهم وواجباتهم وتثوير معتقداتهم في اتجاه إعلاء مكانة الإنسان كخليفة لله في الأرض ونشر قيم التّسامح والتّعاون واحترام الآخر مهما خالفنا الرأي أوالدّين أو الجنس باعتباره إنسانا كاملا كرّمه الله من خلال تكريمه لآدم عليه السلام.وعلينا أيضا أن نعمل كلّ من خلال موقعه على المساهمة في بناء الرّكائز الأساسيّة الأربعة لبنيان صون الكرامة الإنسانيّة (العدل والحرّية والتّعليم والتضامن) والضغط من أجل وضع الخطط والاستراتيجيات للحفاظ عليها. 
العدل والحرّية والتعليم والتضامن أربع ركائز أساسيّة يقوم عليها بنيان صون الكرامة الإنسانية، فإذا غابت إحداها اختلّ التوازن في هذا البنيان وتداعى إلى السّقوط.
- العدل: العدل أساس العمران وهو الحصن الحصين ضدّ انتهاك كرامة الإنسان، فإذا انتشر العدل والمساواة في الحقوق والواجبات في مجتمع ما، فإنّ كرامة جميع مواطنيه تكون محصّنة ومحفوظة.أمّا إذا انتشر الظلم فإنّ كرامة المظلوم تنتهك بفقدانه حقّه سواء كان مادّيا أو معنويّا وكذلك كرامة الظالم بفقدان إنسانيته نتيجة ظلمه لإنسان مثله. يقول سقراط: «العدل هو السّعادة الحقّة التي لا سعادة سواها وما من تعس غير الظّالم». لهذا أمرنا الله أن نكون عادلين مع أنفسنا ومع غيرنا من بني البشر: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (4) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(5) «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (6) 
- الحرّية : الحرّية بمختلف مظاهرها وأنواعها هي صمّام أمان للمحافظة على كرامة الإنسان، فالكرامة تعني عدم استعباد الإنسان أواسترقاقه أو منعه من التنقّل أو التّفكير والتّعبير عن أفكاره كما تعني حرّية اختياره لمن يسهر على أمور المجموعة التي ينتمي إليها وفعل ما تمليه عليه ذاته بإرادة حرّة دون خرق حقّ أو اعتداء على حرّية الآخرين. ففي غياب الحرّية يفقد الإنسان كرامته، لهذا فإنّ معظم الحقوق والتّشريعات المرتبطة بمفهوم الكرامة تركّز على صيانة هذه الرّكيزة، لأنّها صمّام أمان وجودها.
- التعليم: الكرامة الحقيقيّة للنّفس تنبثق من العلم الذي هو ميراثها الحقّ على حدّ تعبير سقراط، فمن كرامة الإنسان أنّ  الله سبحانه وتعالى وهبه عقلا وعلّما «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(7)  لكنّ الإنسان لا يولد عالما بطبعه بل عليه أن يستغلّ السّمع والبصر والفؤاد ليتعلّم ويكتشف العالم من حوله «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (8). لهذا ارتبط حفظ الكرامة الإنسانيّة بالتّعليم الذي يهدف إلى التّنمية الكاملة لشخصيّة الإنسان. فبدون التّعليم يعمّ الجهل وتتبلّد العقول فيفقد الإنسان تميّزه عن بقية المخلوقات ويصبح أقلّ شأنا منها «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (9)
- التضامن : تظهر الكرامة الإنسانيّة في إرادة التّضامن مع الآخر، فحين يتنبّه الإنسان إلى حاجات أخيه الإنسان ولا يدير له ظهره أو يغمض عينيه عن الانتهاكات التي تحصل لكرامته كالفقر أو الاحتلال أو السّجن  فهو بذلك يحفظ كرامته وكرامة الآخر. وعندما يحترم الإنسان كرامة غيره ويتضامن معه فلا يسمح بأن يُؤذى في حضرته، وألاّ يهان في غيبته، سواء كان هذا الإيذاء مادّيا أو معنويّا فهو بذلك يحفظ كرامته قبل كرامة الآخرين. إنّ العلاقة التضامنيّة بين البشر في مختلف المجالات سواء كانوا ينتمون إلى نفس المجتمع أو من مجتمعات مختلفة من شأنها أن تخلق حزاما لتأمين الكرامة الإنسانيّة وسدّا في وجه من يسعى إلى انتهاك كرامة الآخرين ويفرض نفوذه عليهم بالاعتماد على العنف أو المال أو أي أداة أخرى.يقول تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (10) 
لذلك فإنّ الدفاع عن استقلاليّة القضاء مثلا هو دفاع عن الكرامة والاجتهاد في وضع مناهج تعليميّة جديدة تضمن تعليما مجانيّا متكاملا للجميع هو دفاع عن الكرامة ونشر قيم التّضامن والمساهمة في الحملات والحركات التّضامنية هو أيضا دفاع عن الكرامة. وتبقى الاستماتة في الدّفاع عن الحرّية في جميع جوانبها أرقى مظاهر مقاومة انتهاك الكرامة الإنسانيّة.
 الخاتمة
إنّ كرامة الإنسان ليست أمراً يتحدّث عنه السّياسيون ولا رجال الدّين ولا الأدباء ولا الشّعراء ولا المطربون، بل هي الحجر الأساس الذي يُبنى عليه الوطن والمجتمع. لهذا وجب العمل من أجل تقديسها واحترامها وحصانتها وعدم المساس بها. إنّنا مطالبون بإعادة بناء كرامة الإنسان العربي المسلم على أسس صحيحة ترتكز على حقيقة الإنسان بصفته خليفة لله في الأرض له مهام التّعمير وليس التّخريب، فإذا فشلنا في هذا المسعى فليس بالإمكان الإقلاع من جديد وسنبقى نراوح مكاننا بل ربّما نزداد تخلّفا وتأخّرا عن بقيّة الأمم والشعوب. وإذا نجحنا فسنضع أولى لبنات التحرّر والانعتاق من سجن التخلّف والتبعيّة وعلينا أن نبحث في حلّ لبقيّة الإشكالات التي تعيق تقدّمنا ذلك أن بناء «الكرامة» من جديد على أسس صحيحة شرط ضروري لكنّه غير كاف لنتحوّل من أمّة ضحكت من جهلها الأمم إلى أمّة يقرأ لها ألف حساب.
الهوامش
(1) سمّيت الثورة التونسية بـ «ثورة الكرامة».  
(2) أطلق الجنرال حفتر على عملياته العسكريّة في بنغازي تسمية «معركة الكرامة» وكان فيها جنوده يقتلون الأسرى بالعشرات بل وصل بهم الأمر إلى التمثيل بجثثهم وتوثيق ذلك بالفيديو ونشره على شبكات التواصل الاجتماعي.
(3) لافتات - المجموعة الكاملة - أحمد مطر - كنوز للنشر والتوزيع، ديسمبر 1996.  
(4) سورة النساء -  الآية 58
(5) سورة المائدة -  الآية 8
(6) سورة الرحمان -  الآية 9
(7) سورة البقرة - الآية 31
(8) سورة النحل -  الآية 78
(9) سورة الفرقان -  الآية 44
(10) سورة المائدة -  الآية 2