قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
شجون رمضان
 عاد علينا شهر رمضان بما اعتاد أن يعود به كلّ عام من فرح ورجاء، فرح بمكرمات الشّهر ورجاء في مغفرة الذّنوب و العتق من النّار. وليس كمثل رمضان شهر يعظّمه النّاس ويحتفلون به، وهو الشّهر الوحيد الذي يكون فيه الدّين معيارا لتحديد كلّ خطوة يخطوها الإنسان رغم اللّغط الذي نسمعه كلّ عام حول حقوق المفطرين وحرّية النّاس في السّلوك داخل الفضاء العام دون اعتبار للدّين أو تعاليمه.
عاد الشّهر الكريم ليكون فرصة أخرى للمؤمنين من أجل تعظيم شعيرة من شعائر الله خاصّة دون غيرها من الشّعائر ولكنه للأسف لم يعد علينا بالمسرّة فقط. لقد سقط من شهداء فلسطين أكثر من ستّين شهيدا ورمضان على الأبواب، ليعيد تذكيرنا مرّة أخرى بأنّ مأساة فلسطين ما زالت تنزف دما وأنّنا نزداد عجزا عاما بعد آخر وأنّ أهلنا الصّامدين فى غزّة والضّفة وكلّ فلسطين لم يجدوا منّا أيّ عون بل إنّ بعض العرب من الرّسميين ومن النّخبة صار يدعو صراحة إلى التّسليم بالأمر الواقع والقبول بدولة الكيان والتّغاضي عن مأساة شعب مشرّد منذ عقود لا تكاد تجفّ دماؤه. وهل ثمّة مأساة أشقّ على النّفس من مشاهد القتل والإذلال للشّعب الفلسطيني الذي يراد دفعه دفعا دمويّا نحو القبول بالخروج من أرضه والإقامة في صحراء سيناء ضمن صفقة القرن.
منذ عام كتبنا عن الدّمار الذي لحق باليمن ومعاناة أهله من ويلات الحرب وهاهو عام قد مضى ولا شيء تغيّر سوى أنّ اليمن ازداد دمارا وأنّ أهله باتوا على شفا الهلاك بسبب المجاعة وقسوة الفقر حيث أنّ ما يزيد عن عشرين مليون يمنيّ أصبحوا مهدّدين بالموت جوعا أو نتيجة تفشّي الوباء، والأنكي من ذلك أن لا أحد يلتفت إلى ما يصيب هذا الشّعب من كوارث حقيقيّة، بل إنّ هؤلاء يجدون الرّحمة فى غير المسلمين ولا يجدونها فى إخوانهم في الدّين .
ما كتبناه عن فلسطيـــن واليمن يمكن أن نكتب مثلـــه عن بقية بلاد العرب والمسلميـــن، ذلك أنّ الحال لا يختلف من بلاد إلى أخـــرى إلاّ باختلاف الأسباب التى أدّت إلى مأســاة بلاد ما وتوقيها ليس إلا، وما نراه الآن فى هذه البلاد رأينا مثله بالأمس فى بـــلاد أخرى والبقية تأتـــي، ولا حول لنا نحن العرب والمسلمون ولا قوّة . 
منذ عهود ما قبل الاستعمـــار، كان السّؤال المؤرق لنخبنـــا لماذا تقهقرنا حضاريّـــا مع أنّنا كنّا خير أمّة أخرجت للنّاس؟ غير أنّ تقهقرنا الحضـــاري لم يعد مؤرّقا بعد أن عدنا إلى ما يشبه الجاهليّة الأولى يقتل بعضنا بعضا ويخون بعضنا بعضـــا ولم يعد همّنا اللّحاق بالشّعــوب المتحضرة وإنّما صار غايـــة أملنا أن نجد الحماية منهــم وأن نعيش في أمان داخل أوطان لم تعد ملكا لنا ولحكامنا وإنّما صارت ملكا لأعدائنا بعد أن أضعناها من أيدينا حكاما ومحكومين على حدّ السّواء.
لا يبعث رمضان أسى في نفوسنا من حال العرب والمسلمين فقط بل ومن حال الدّين نفسه. لم تعد رسالة الإسلام  دعوة  للنّاس إلى التّدبر وإحياء النّفس والعمل مع الجماعة ضمن رابطة وثقي، ولا بقي الدّين كما أراده نبيّه دين تكليف للنّاس بإعمال العقل وإنتاج المعني والتخلّص من الخرافة والدّجل والتشبّث بما كان عليه الآباء والأوّلون، أي انعتاقا من براثن الجاهلية وولوجا إلى مراتع التوحيد . 
لقد صار الدّين أقرب ما يكون إلى الرّهبانيّة أو الكهنوت محتكرا من قبل ناطقين باسمه أحيانا باسم الإمامة والعلم أحيانا باسم الدّعوة إلى الله، وفي كلّ الأحوال باسم الحقيقة. 
لقد صار مألوفا عند عامة المسلمين وخاصّتهم أنّ للدّين شيوخا يفرضون أنفسهم على النّاس فرضا طيلة شهر رمضان يتكلّمون في الدّين بما يرونه مناسبا لمرتادي المساجد وإن لم يعجب سامعيهم ويخوضون في الأمور التي يرون أهميتها بالنّسبة للنّاس دون العودة لهم وكثيرا ما يغرقون في المسائل نفسها مثل مسائل المرأة واللّباس وسيرة بعض الصّحابة ووقائع التّاريخ الإسلامي وغيرها من المسائل. وليت الأمر يقتصر على المساجد ودروسها بل لقد أصبح الفضاء السّمعي البصري بما له من تأثير على النّاس محتكرا من قبل الشّيوخ الذين يدعون امتلاك ناصية الدّين وحقيقته حتّى صار مألوفا أن ترى شيخا يمتلك قناة تلفزيّة وآخر ينتقل من مكان إلى آخر مصحوبا بفريق كامل من المصوّرين والتّقنيين وكلّما ألقى درسا تناقلته قنوات التلفزيون وزادت صاحبه تضخيما وتبجيلا لتزداد هيمنته على النّاس. ومن هؤلاء من يفتي و يطلق الأحكام فى أدقّ الأمور مباشرة بعد سماع السّؤال عنها دون تمحييص.
إنّ الخطورة لا تكمن في احتكار الدّين وطرق التّعبير عنه وإنّما تتعدّاها إلى خطورة الخطاب نفسه الذي لا يقدّم للإنسان المعاصر حلولا لمشكلاته ولا يقارب واقع المسلمين الذي يزداد بعدا عن الحضارة والمعرفة والقوّة عاما بعد آخر . 
إن هذا الاختطاف للدّين وفضلا عن مساوئه التى ذكرنا يخرج النّاس تماما من دائرة الفعل ليصبحوا مجرّد متلقّين لا يأبهون لما يسمعون ولا يؤثر في قلوبهم ووجدانهم شيء ولذلك تراهم يبحثون عن الارتواء من منابع أخرى بعد أن تنشأ بينهم وبين الدّين حواجز كثيفة تجعلهم أقرب إلى النفور منه .
يعود رمضان كل عام وفي البال أمنية ، نتمنّي في مبتدا كلّ شهر كريم أن لا نرى فقراء في أمّتنا وبلادنا وأجوارنا. إنّ شهر الصّيام هو شهر الرّحمة وشهر الجود وقد كان رسولنا أجود من الرّيح المرسلة ولكن الأسف يكاد يقتلنا عام بعد آخر ونحن نرى حجم المعاناة التي يعانيها فقراء الأمّة والوطن في كلّ مكان دون أن يتغيّر شيء ما بين العامين . 
قد يحتج البعض بأنّ الفقر والحرمان لهما أسباب أخرى تتعلّق بالسّياسة ونمط الحكم ومنوال التّنمية والحروب وغيرها، وأنّ الأفراد لا حول لهم ولا قوة. ومثل هذه الحجّة مردودة، فلو سعى كلّ امرئ بما يستطيع وعمل حقيقة بروح الدّين وروح الشّهر، فأطعم جائعا واحدا أو كفى واحدا مؤونة الحاجة والسّؤال لكان حال المسلمين في رمضان أفضل ولكان فقراء الأمّة ينعمون ببركة الشّهر.
رمضان شهر يعود على المسلمين عاما بعد آخر وكم نرجو أن يعود علينا وقد امتلكنا إرادتنا وأخفنا أعداءنا وحرّرنا ديننا من الكهنوت وأطعمنا جياعنا فاستردوا كرامتهم . 
تقبل الله منا الصّيام...