شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
طه عبد الرحمان «فقه الفلسفة وسؤال الإبداع»
 يعد ضيف الركن في هذا العدد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في العالم العربي الإسلامي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين، متخصص في المنطق وفلسفة اللّغة والأخلاق، هو قمة معرفية عربية إسلامية ومفكر معتز بهويته في ظلّ موجات الاستلاب الحضاري الرّاهن، هو صاحب مشروع ضخم قدم منه كثيرا من مؤلفات صارت مثار جدل وإعجاب في مشهدنا الثقافي وهو واحد من الفلاسفة العرب الذين يثيرون العديد من التساؤلات، يلقّب تارة بـ «فيلسوف الأخلاق» وتارة بـ«فقيه الفلسفة»، إنّه الفيلسوف والمفكّر المغربي طه عبد الرحمن .
ولد طه عبد الرحمان سنة 1944م بمدينة الجديدة على ساحل المحيط الأطلسي، 200 كلم جنوب العاصمة الرباط، نشأ في بيت علم وعمل تحت رعاية أب محبّ للقرآن الكريم: تحفيظا وتدريسا وتطبيقا، تلقّى تعليمه الإبتدائي بمدينته الجديدة ثم تابع دراسته الإعدادية بمدينة الدار البيضاء، ثم بـجامعة محمد الخامس بمدينة الرباط حيث حصل على الإجازة في الفلسفة، واستكمل دراسته بـجامعة السوربون، حيث حصل منها على إجازة ثانية في الفلسفة ودكتوراه السلك الثالث عام 1972 برسالة في موضوع اللّغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود، ثم دكتوراه الدولة عام 1985 عن أطروحته رسالة في الاستدلال الحِجَاجي والطبيعي ونماذجه. يخبرنا طه عبد الرحمان أنّه اصطدم بواقع التعليم العصري الذي تلقاه في المدرسة الابتدائيّة ثم في التعليم الثانوي والجامعي ، مما جعله يعاني، ومن ثم ينطوي على نفسه، لأنه لم يجد في محيطه المدرسي الصّغير « من يشاركه الإيمان، على حلاوته وعظمة من جاد به». المنعطف الكبير في حياة الشّاب طه وقع مباشرة بعد عودته من فرنسا إلى المغرب لمزاولة التدريس،حيث بدأ تجربة صوفيّة وروحيّة  مميّزة كان لها التأثير الكبير في أفكاره الفلسفيّة والأخلاقيّة على حدّ السواء. حيث نجد الرّجل يرفض اعتبار العقل كيانا مستقلا لأنه هو فاعلية الإنسان، ويشدّد على أهمّية وضرورة الرّبط بين الفاعليّة النّظرية المجرّدة (العقل) وبين الشّعور الذاتي الدّاخلي (الاحساس أو القلب) والعمل (التّطبيق).
وتصّوف طه عبد الرحمان يختلف - حسب ما جاء في كتابه «حوارات من أجل المستقبل» عن تصّوف الغزالي. فالغزالي ولج عالم الصوفيّة فرارا من الجاه الذي كان ثمنه المكوث في أحضان الدسائس والمؤامرات والتصارع على السّلطة. وفرارا من الشّك الذي يكون قد بقي في نفسه بسبب اشتغاله بالفلسفة مدّة. بينما كان إقبال طه على التصوف لسببين مخالفين تماما، يقول عنهما: «أولهما: أردت أن أقوّي صلتي بالله، حبا فيه لذاته، لا فرارا من غيره. والسّبب الثاني هو أن أتَحَقَّقَ من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي؛ هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟».
«طه عبد الرحمن» قامة كبرى في مجال التفكير الفلسفي الراهن في البلاد العربية الإسلامية فهو قد خرج من معطف الدرس الفلسفي والمنطقي واللغوي ليجوس باقتدار ونباهة نادرين في إبهاء تراثنا الفكري والفلسفي مجددا النظر إليه ومقتبسا منه أساليب المناظرة والحوار العلمي الجاد ومؤصلا لأسئلة الفلسفة والعلم في راهننا الفكري والثقافي المستلب بالغرب. 
لقد سعى «طه عبد الرحمن» إلى تجديد الفكر الديني الإسلامي لمواجهة التحديات الفكرية التي تطرحها الحضارة الحديثة، ووضع نظرية أخلاقية إسلاميّة تفلح في التّصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة، بعدما فشلت في ذلك نظريات أخلاقية غير إسلامية أو غير دينية وقد دأب منذ كتابه «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام» الذي أخرجه عام 1987 إلى كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث»، في وضع قواعد للنظر في التّراث مستمدة من صميم التراث نفسه وفي مواجهة الظواهر المعرفية والاجتماعية بطرائق إسلامية خالصة غير ملتبسة بإثم الاستلاب وغير منغلقة في الوقت نفسه بل مشرعة على كل ما يمكن أن يفيدنا من الآخرين وعلى كل حكمة نتوسمها فيهم وكل علم إليه يسبقون. وفي هذا الإطار كانت علاقة علم المنطق وعلم أصول الفقه في المشروع الفكري لطه عبد الرحمن، علاقة عموم وخصوص، ركز طه في بلورتها على الانطلاق من العطاء المنطقي للحضارات القديمة، وإلى مكتسبات المنطق الحديث سواء في جانبه الصوري أو الطبيعي الحجاجي، مستثمرًا تفاعل النظار المسلمين مع هذا المنقول قديمًا، متجاوزًا كلاّ الطرفين، محاولاً تحقيق ما يعتبره من وجهة نظره تجديدًا واستئنافًا للعطاء المعرفي الإسلامي، ولا ينسى طه أن يبرئ نفسه من الوقوع في ما يطلق عليه الجابري بالقراءة التراثية للتراث، مؤكدًا أنّه على الرغم ممّا يتميز به علم الأصول مما ذكره من الخصائص والمميزات، فإنّه لا بدّ للباحث المعاصر أن يتزوّد بما استجدّ من وسائل البحث العلمي خصوصًا في المنطق، وذلك من أجل خطاب جديد سماه طه بتراث الحاضر، كما بنى المتقدمون تراثهم من خلال تحصيل كل أسباب المعرفة المتوفرة في عصرهم.
درَّس «طه عبدالرحمان» المنطق وفلسفة اللغة في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ 1970 إلى حين تقاعده عام 2005. وهو عضو في «الجمعية العالمية للدراسات الحِجَاجية» وممثلها في المغرب، وعضو في «المركز الأوروبي للحِجَاج»، وهو رئيس منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين بالمغرب. ويتقن طه عبد الرحمن زيادة عن العربية والفرنسية والإنجليزية - الألمانية واللاتينية واليونانية القديمة.
ألف كتبا عديدة تنوّعت موضوعاتها بين المنطق والفلسفة وتجديد العقل ونقد الحداثة، أنجزت حولها دراسات ورسائل جامعية، وحصل على عدد من الجوائز. كما يصدر من المغرب مجلة «المناظرة» آملا  أن تكون مرآة لطموح الوعي العربي المعاصر إلى الاستقلال والأصالة معا وإلى أن يكون شاهدا لا مشهودا وفاعلا لا منفعلا وحرّا جوالا مغامرا لا مقيّدا مستلبا مستنيما.