تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
الشكل أم المضمون؟ (هل يقبل الفن قيودا؟)
 تسنى لي مؤخّرا حضور ندوة فكريّة – علميّة حول «المرأة في المسرح التّونسي : الرّهانات والمكاسب» نظّمها مهرجان قلعة المسرح في دورته الرّابعة بدار الثقافة بالقلعة الكبرى. ومكنتني هذه المشاركة من الاستماع الجيّد لمحاضرات نخبة من الأساتذة. وكنت حقيقة استمتعت بمحاضرة أولى موضوع بحث علمي للأستاذ «حافظ الجديدي» ألقاها بلغة موليار -على لسان الفرنسيّين- بثبات وثقة في النّفس وبشكل منمّق أكدّ شاعريّة المحاضر واهتمامه العميق بفنّ المسرح وإلمامه الكبير بأبعاده الفنّية والتّقنية وآثاره الاجتماعيّة والسّوسيولوجيّة خاصّة ببلدان المغرب العربي. 
وكشف المحاضر دور المرأة في مجال الفنّ الرابع وتطوّره من المحتشم إلى الفاعل، فالفعال والمتحدّي عبر عناوين متعدّدة لمسرحيّات طبعت مِخْيال الأجيال السّابقة مثل «مدرسة النّساء» مقتبسة عن موليار و«عائشة راجل» و«آه من بابا وحماتي» كلّها تعالج أوضاع النّسوة، برزت من خلالها ممثّلات كان لهنّ السّبق والنّجاح مثل «جليلة بكار» و«رجاء بن عمار» و«ناجية الورغي» من تونس ومن الجزائر «حواء الجبالي»، هاجرة في «ألف عام من حياة امرأة»، مستشهدا في كلّ مرّة بعناوين ورموز عالميّة من مدارس مختلفة في فنون المسرح.
ثم قدّمت أربع مداخلات من طرف أستاذات جامعيّات تمثّلت كلّها في دراسات علميّة تناولت على التّوالي  الممثلة «ناجية الورغي» (الكاف 1951 ) أنموذجا لصورة المرأة الرّيفية في المسرح التّونسي عبر مسارها الفنّي في مسرح الأرض مع زوجها «نور الدين الورغي»، وتجربة «رشدي بالقاسمي» المنفردة في الرّقص الشّعبي النّسائي ثم انطلقت المحاضرة الثّالثة وانساقت بمشاعرها الذّاتية على وضع المرأة عامّة وعلى وضع المرأة الفنّانة التي تشغل المسرح بصفة خاصّة ومعاناتها من النّظرة السلبيّة بتعريتها كلّما صعدت على الرّكح.أطلقت الأستاذة صرخة بدت صادقة من امرأة لم تتغيّر بعد رغم رفعة درجتها في السّلم الاجتماعي، فظلت تئن من وطأة كونها امرأة. إنّها تعي جيدا وجعها فاستمعنا لاستغاثتها. 
أمّا المحاضرة الرّابعة، فقد جانبت موضوع النّدوة حسب رأي الحاضرين في ردّهم عن تمجيدها لدور المرأة الوليّة ومكانتها في الذّاكرة الجماعيّة بالسّاحل التّونسي.
على قدر ما بدا جليّا حرصه الشّديد على النّطق الجيّد  لما انتقاه الأستاذ «حافظ الجديدي» من مفردات صاغها في أسلوب ممتاز جذّاب فانساب عرضه لحنا رقيقا رقراقا هدهد المنصّتين المنتبهين المشدودين للمحاضر بخيوط سحريّة وقد رضوا بما يستحسنه دون شكّ أشدّ الحريصين على لغته الأم من أساتذة الأكاديمية  الفرنسيّة، جاءت المحاضرات الأخرى نشازا بنبرات نسائيّة جرّت ما رفع وضمّت ما كسر وسُكّن ما دون ذلك. فلم تسلمن من الانتقادات التي كانت لاذعة ممن مازالوا ماسكين بأذيال اللّغة العربيّة التي تهرّأت ونخرها السّوس. لا آسف على من رفس اللّغة وإن كانت بسيقان نساء جميلات. كنت أعزّي نفسي وأصبّرها لو أتت أذية اللّغة من جاهل أمّي ولكن كيف أصبر علي إساءة أستاذات جامعيّات تدرّسن النّخبة من شبابنا اللّغة والآداب والفنون؟ متى يعطي الشّيءَ فاقدُه؟
مثلهم، كاد غضبي ينسيني موضوع الأمسية الفكريّة لولا تدخل الأستاذ «توفيق بن عامر» رئيس جلستها الذي نجح بلباقته المعتادة وحذقه فنّ الكلام في تهدئة الأنفس. إكرام الضّيف واجب ومن شيم عروبتنا وتستحقّ التّضحية، فاكتفى الأستاذ بلوم رقيق وجّهه للأستاذات عن الرّفس الذي طرأ. ثم لم يلبث أن وجّه لي الكلمة التي طلبتها مسبقا. لم يتّسع لي الفضاء للتّعبير عمّا يخالج صدري ويعكّر صفو فكري الذي تلاطمت أمواجه بين حزني على ما ضاع وانشراحي بالغيرة الشّديدة التي صدحت ممّن مازال يتمتّع بذائقة لغويّة ومازال يتحسّس أخطاءها بوجع السّائق الذي لا يتسامح مع الحفر التي في الطّريق السّيارة. 
كان ضمن الحضور طلبة وطالبات مسرح تمّت دعوتهم للمشاركة في إثراء الحوار وكان دفع الفتيات وتشجيع أساتذتهن مبرّرا، فجاءت الأسئلة في قوالبها الجاهزة فرصة للتّعريف بالمسرح وتقنياته ولكن لم يحضر الاندفاع ولا التلقائيّة إلاّ عند إثارة مسألة الصّراع المتوارث بين الجنسين ومكان المرأة من المسرح والتّأكيد على النّظرة السّلبية إليها وهي على الرّكح. أثار فيّ النّقاش عدّة تساؤلات يضيق الفضاء المتاح طرحها ووقفت عاجزا أمام عاصفة غبار عكّرت صفاء الرّؤية وحجبت الأفق الذي تلطّخت زواياه بالعتمة. عدّة أسئلة فاضت عن خاطري وتعطّل لساني لأنّه لم يتعوّد الوقوف على الرّكح ولا يحذق الإلقاء، أحد العناصر الأساسيّة للمسرح. فانفلتت في اضطرابي «شكرا لا تعليق».
وبقيت أسأل نفسي عن أيّ مسرح نتحدّث؟ أكلّ ممثل فنّان؟ وما الفرق بين الفنّان والتّقني؟ أتكوّن الجامعات فنّانين أم تقنيين ؟ هل يرتقي المسرح عتبة الفنّ طالما لم ينزع الممثّل البطانة، فتبدو على الرّكح تلك الصّورة التي اقتبست من الأثر الأدبي عارية من كلّ الشّبهات متفسّخة من كلّ ذاتية. 
على ركح المسرح لا يوجد ممثّلون بل نشاهد شخصيّات الرّواية. حينها هل من سائل ليسأل «أين الممثل؟» فأجيب «غاب الممثل وحضر الفنّان في الصّورة التي رسمها القلم». 
وهل يستقيم مسرح دون جمهور؟ وعن أي جمهور نتحدث؟ لم أعثر على مفرد جمهور حتّى  أعرف جنسه أمن صنف الولد كان أو من صنف البنات. ولكنّه لا يخفى ذلك على أحد لما ينتشي الجمهور بجمال وسحر الشّخصيّة التي على الرّكح. كم أتمنّى الفرجة في جمهور نسائي في عرض رجالي جريء. اختلاط الجمهور منذ الجلوس على مقاعد القسم بالمدرسة الابتدائيّة لطّف المشاعر وكتمها أحيانا. أمّا أن يكون جمهور ما بعد الثّامنة ليلا مختلطا بأطفاله فيا خيبة المسرح وتعالى الفنّ على ذلك.