نقاط على الحروف

بقلم
محمد الطرابلسي
واقع و آفاق الحكم المحلي في تونس
 مقدمة:
 تعتبر منظومة الحكم المحلّي جزءا لا يتجزّأ من التّنظيم السّياسي والإداري لكلّ بلد. وتعدّ تونس من الدّول التي عرفت تطوّرا ملحوظا في تشريعاتها المتعلّقة بالحكم المحلّي منذ العشريّة الأولى للإستقلال  إلى اليوم، بالرّغم من العوائق المتعدّدة التي واجهت عمليّة تطبيقه. ونهدف من خلال هذا المقال إلى الوقوف عند مختلف معوقات الحكم المحلّي في تونس بعد الإعلان النّهائي عن نتائج الإنتخابات البلديّة التي أجريت بتاريخ 6 ماي 2018 والتي تعتبر خطوة إيجابيّة في إتجاه تكريس الدّيمقراطيّة المحلّية. ونظرا لكونها أوّل تجربة لحكم محلّي ديمقراطيّ فإنّ العديد من الإشكاليّات المطروحة تقتضي البحث عن إجابات لضمان حكم محلّي رشيد: 
- هل المنظومة التّشريعيّة صالحة لتحقيق حكم محلّي وا سع الصّلاحيات؟
- هل الإمكانيّات البشريّة التي أفرزتها الإنتخابات قادرة على تحقيق التّنمية المحلّية؟
- هل الموارد المالية المحلّية تكفي لتحقيق التّنمية المحلّية وكيف يمكن تنميتها؟
- هل تستطيع المجالس البلديّة تحقيق التّوزيع العادل للمشاريع والبرامج على كلّ الأحياء والقرى الرّاجعة إليها بالنظر؟
- هل المواطن قادر على رقابة المجالس البلديّة وطريقة عملها ومحاسبتها إن لزم الأمر؟
- هل المجالس البلديّة المزمع تشكيلها قادرة على التّخلص من تبعيتها للمركز؟
(1)  المجالس البلديّة المنتخبة: بين تطوّر التّشريعات و تعقيدات الواقع المحلّي :
شهدت التّشريعات المتعلّقة بالسّلطة المحلّية تطوّرا ملحوظا في إتجاه ترسيخ مبدأ «اللاّمركزية»، فقد خصّص الدّستور الجديد بابه السّابع الذي يحتوي على 12 فصلا (من الفصل 131 إلى الفصل 142) للحديث عن « السّلطة المحلّية». وذلك يمثّل تطوّرا فعليّا مقارنة بدستور 1959 الذي يحتوي الباب الثّامن منه المعنون «الجماعات المحلية» على فصل يتيم (الفصل 71) ينصّ على أنّ المجالس البلديّة والمجالس الجهويّة تمارس المصالح المحلّية حسبما يضبطه القانون. وبمقتضى هذا الفصل لم تكن السّلطة المحلّية قادرة على إتخاذ القرار في الشّؤون المحلّية دون تفويض من السّلطة المركزيّة. وفي المقابل أقرّ الدّستور الجديد ضرورة إنتخاب المجالس البلديّة والمجالس الجهويّة والمجالس الإقليميّة، فالمستوى الأول يكون إنتخابه مباشرا وحرّا من المواطنين أمّا المستوى الثاني والثالث فيقع إنتخابهما بصفة غير مباشرة عبر مشاركة المجالس البلديّة.
كما يمثّل صدور «مجلّة الجماعات المحلّية» نقلة نوعيّة في عمليّة تنظيم السّلطة المحلّية من النّاحية التّشريعية، إذ اعتبرها رجال القانون والسياسة والمتابعين للشّأن العام خطوة إلى الأمام في إتجاه منح المجالس البلديّة مزيدا من الصّلاحيّات لتكريس مبدأ اللاّمركزية.
لكن تركيز اللاّمركزيّة يبقى حلما صعب التّحقيق في ظلّ ما تعيشه البلاد من عدم استقرار إجتماعي وتأزّم الوضع الإقتصادي وانعدام الثّقة بين من يحكم وعموم النّاس. وبالرّغم من أنّ مجلّة الجماعات المحلّية وحّدت النّصوص المتعلّقة بالحكم المحلي، وهذا التّوحيد يعتبر دافعا أساسيّا نحو تحقيق النّزاهة والشفافية. إلاّ أنه يبدو في المقابل أنّ هناك أزمة في استعمال بعض المفاهيم : فعنوان « السّلطة المحلّية» الذي ورد بالباب السّابع من الدّستور لا يتناسق مع عنوان «الجماعات المحلية» لأنّ مفهوم السّلطة المحلّية أعمق بكثير من مفهوم الجماعة المحلّية. فالسّلطة المحلية تعني أسلوب أو طريقة التّعامل مع المجال المحلّي، إذ تقوم على فكرة توزيع الواجبات بين السّلطة المركزيّة في العاصمة والوحدات الإداريّة المحلّية على مستوى الولايات والأقاليم، وهي معنيّة برسم السّياسة العامّة للدّولة وإدارة المرافق العموميّة، أمّا الجماعة المحلّية فهي عبارة عن مجموعة من السّكان مستقرّون داخل حدود جغرافيّة معيّنة، لهم خصائص اجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة معيّنة، من بين أعضائها من يمثّلها في المجلس البلدي المنتخب مباشرة من الجماعة والذي يشرف على تنظيم شّؤونها العامّة.
(2)  الحكم المحلّي و مأزق التّقسيم الإداري للتّراب: 
يبدأ هذا المأزق من الفصل 131 من الدّستور الجديد الذي يوضّح بأنّ اللاّمركزية «تتجسد في جماعات محلّية تتكوّن من بلديّات وجهات وأقاليم يغطّي كلّ صنف منها كامل تراب الجمهوريّة وفق تقسيم يضبطه القانون». من هذا المنطلق تصبح عمليّة رسم حدود البلديّات عمليّة دقيقة ومعقّدة، لما ستطرحه من مشاكل بين الوحدات التّرابية أو توزيعها في وحدات مختلفة وخاصة بين البلديات التي وقع إحداثها في الفترة الأخيرة. وبذلك يبدو الفصل 131 من الدّستور لا يتلاءم مع الواقع المجالي للبلاد التّونسيّة بإعتبار أنّ التّقسيم الإداري لا يضمن تحقيق اللاّمركزيّة، فمصالح النّاس الإداريّة والإقتصاديّة لا علاقة لها بالحدود الجغرافيّة وهذا الأمر يزداد تعقيدا خاصّة بالنّسبة للقرى والمدن الصّغرى التي توجد بالقرب من مدن متوسّطة أو كبرى، بمعنى أنّ العلاقة بين هذه الوحدات يتحكّم فيها عامل الإستقطاب: فمثلا مدينة ساقية الداير بولاية صفاقس تستقطب جزءا هامّا من سكان مدينة العامرة، كما أنّ غالبيّة سكان معتمديّة منزل شاكر ترتبط مصالحهم بمركز مدينة صفاقس، إذ أنّ سكان قرية « بئر بن عياد» من معتمدية منزل شاكر أو سكّان قرية «ماجل الدّرج» لا علاقة لهم بالخدمات الإداريّة أو الإقتصاديّة المتوفّرة بمعتمدية منزل شاكر وكل مصالحهم الإقتصاديّة والإدارية ترتبط بمركز مدينة صفاقس.
و بهذه الكيفيّة يكون هدف «اللامركزية» صعب التّحقيق بإعتبار أنّ التّقسيم الإداري الحالي لا يتلاءم مع  أهدافها المنصوص عليها في الدّستور التّونسي وفي مجلّة الجماعات المحلّية لأنّ التّقسيم الحالي وضع لمراقبة المواطن في مراحل الإستبداد السّابقة وليس من أجل تشريكه في صناعة القرار.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التّقسيم التّرابي للمجال المحلّي التّونسي يقوم على ثنائيّة « المركز والأطراف»، وتبدو مراكز المدن الصّغرى والمتوسطة والكبرى محظوظة مقارنة بضواحيها على المستوى الإقتصادي وعلى مستوى التّجهيزات الإقتصادية والخدمات الإداريّة. وهذا الوضع موروث منذ الإستقلال ومستمر إلى الآن، فالمراكز تحتكر جميع الأنشطة في حين أنّ الأطراف مهمّشة بصفة شبه كلّية. وقد أدّى هذا التّقسيم إلى عزل قرى وأرياف بأكملها، فبعض القرى تبعد على مركز المدينة مسافة لا تتجاوز 25 كلم لكنّها قرى شبه معزولة نظرا لعدم توفّر وسائل النّقل العمومي التي تربطها بالمدينة مع غياب كلّي للخدمات الأساسيّة بها. كما أنّه تقسيم لا يراعي الخصوصيّات الإجتماعيّة والإقتصادية والدّيمغرافية للمجال المحلّي ويعتمد بالأساس على الحدود الإدارية للمعتمديات.
إن عملية تضخّم المراكز على حساب الأطراف ستكون لها عواقب اجتماعيّة خطيرة في المستقبل في صورة عدم مراجعتها بإعتبار أنّ اختلال التّوازن في المستوى المحلّي يساهم في تغذية الاحتقان الاجتماعي و نشر الإحساس بالظّلم والتّهميش لدى غالبيّة السّكان وخاصّة سكان الأرياف القريبين جغرافيّا من مراكز المدن.
(3)  مشكل تمويل المجالس البلدية: 
إن مشروع اللاّمركزية تهدّده الأزمة المالية التي تمرّ بها البلاد، ففي ظلّ العجز المالي الذي يتحدّث عنه رئيس الحكومة ويروّج له فريقه، سيضطر إلى توزيع جزء هامّ من الموارد المالية على الأقاليم والجهات والبلديات، فهل يمكن توفير شروط ومقاييس لهذا التّمويل دون المساس بمشروع اللاّمركزية؟ وهل البلديات قادرة على توفير موارد ذاتية والتخلّص من تبعيتها للمركز؟ هل هذا التّمويل سيأخذ في الإعتبار عدد البلديات بكل ولاية و بالتّالي تكريس لإختلال التّوازن المجالي؟ أم أنّه سيستند على حاجيات كلّ منطقة بلدية من مشاريع وبرامج وتجهيزات وفي ذلك تكريس للنّعرات الجهويّة إضافة إلى إثارة النزعة «العروشية»؟
إنّ التّوزيع الجغرافي اللاّمتكافئ للبلديات حسب الولايات وحاجة البلديّة إلى الموارد المالية بإستمرار لتلبية إحتياجاتها يكرّس مبدأ « الولاء للأحزاب» وكنتيجة لذلك ستتمتّع المجالس البلدية التي تتكوّن من أعضاء ينتمون إلى الأحزاب الحاكمة بأفضل الإمتيازات المالية. وفي صورة عدم الحصول على هذه التّمويلات ستلجأ المجالس البلديّة إذا تمتّعت بالإستقلاليّة إلى التّرفيع في قيمة الأداءات البلديّة لتحسين مواردها، الأمر الذي سيزيد في الإحتقان الإجتماعي.
(4)    ضعف الإمكانيات البشرية: 
يبدو من خلال التّحليل السّابق أنّ المشرع التّونسي حقّق خطوات عملاقة في القطع مع الإرث الدّستوري السّابق الذي كان يعكس عجزا ديمقراطيّا على جميع المستويات، وقام بإنشاء نظام ديمقراطي محلّي متكامل يقوم على التّشاركيّة، ولكن هذا الواقع الجديد يصطدم بضعف القدرات والإمكانيات البشرية، ويطرح هنا مدى كفاءة المجالس البلديّة المقبلة لتحقيق حلم الدّيمقراطية المحلّية؟ 
وبإعتبار أنّ التّصويت وقع للقائمات وليس للأشخاص، فإنّ المجالس البلديّة المقبلة ستكون خليطا من الكفاءات  والإنتهازيين الذين لا علاقة لهم بالعمل البلدي، الأمر الذي سيحقّق حالة من عدم الإنسجام داخل المجموعة، لأنّ العديد منهم تقدّموا بقائمات سواء كانت مستقلّة أو حزبيّة الهدف منها الظّفر بغنيمة الحكم المحلّي، لأنّهم يرونه كذلك إستنادا إلى ممارسات النّظام السّابق ومن يمثّله في المجالات المحلية. وعلى هذا النّحو ستكون المجالس البلديّة بوّابة لإثقال كاهل المواطن بالمزيد من الضّرائب، وستساهم الجماعة المحلّية عن طريق النّهب الممنهج للمواطن في انحطاط مستوى الحكم المحلّي. فالموارد البشريّة غير كافية لتسيير الحياة اليوميّة للمجموعة ممّا يؤدّي فقدان الأمل في كلّ عملية تنمويّة. فالقدرات البشريّة تعتبر عنصرا أساسيّا من عناصر الحكم المحلّي المنشود، إذ أنّ القدرات والمهارات التي يمتلكها أعضاء المجلس البلدي هي التي ستحدّد مستقبل المجال المحلّي، ومن ثمّ نؤكد على ضرورة توجيه المزيد من الإمكانيّات المالية والجهود الإدارية والفنية نحو تعزيز منظومة الموارد البشريّة.
وقد أثبتت القراءات الموضوعيّة للواقع المحلّي وخاصّة قراءات الجغرافيّين، أنّه أصبح من الضّروري إعداد رؤية إستراتيجيّة لبناء القدرات البشريّة بالصّورة التي تساهم في تحقيق أهداف التّنمية المحلّية بالكفاءة والنّجاعة التي يرغب فيها المواطنون في المحلّيات. وسيمكّن تطوير القدرات البشريّة في المستوى المحلّي بوصفها الطّرف المسؤول عن تقديم الخدمات التّنموية المختلفة، وأنّها تتفاعل مع قضاياهم وهمومهم، كما أنّها تخضع للرّقابة والمساءلة الشّعبية.
خاتمة 
الخلاصة التي يمكن أن نتوصل إليها بعد هذا التّحليل، أنّ الشّكل الحالي الذي أفرزته إنتخابات 6 ماي 2018 لا يمكن أن يساعد على تحسين آداء الجماعة المحلّية وتحقيق طموحات المواطن في المواضيع الثّلاثة الرّاجعة إليها بالنّظر: التّهيئة التّرابية، البيئة ونظافة المحيط والحالة المدنيّة...لذلك وجب التّفكير في العناصر التّالية :
- مراجعة الخريطة الإداريّة بكيفيّة تضمن تحقيق التّوازن المجالي بين مختلف الوحدات المحلّية.
- الحرص على تكوين العنصر البشري المنتخب بواسطة برامج تدريبيّة مختلفة في المجالات ذات العلاقة بالعمل البلدي .
- إعطاء الصّلاحيّة لمجالس الحكم المحلّي للحصول على قروض من المؤسّسات البنكيّة من أجل تنمية الموارد المالية الضّرورية للتّنمية المحلّية بدل الزّيادة في الضّرائب والآداءات التي تثقل كاهل المواطن.
- توفير الإطار القانوني والتّشريعي الضّروري لمكافحة ولاء رئيس المجلس البلدي للأجهزة المركزيّة          وللأحزاب الكبرى وترسيخ مبدأ الولاء للمواطن.
- تكوين هياكل لرقابة المجالس البلديّة تكون قادرة على تغطية كامل التّراب الوطني مع ضرورة تشريك المواطن في هذه الهياكل الرّقابية. 
- تنظيم إجتماعات شعبيّة دورية لتأطير المواطن وتوعيته بأهمّية الديمقراطيّة المحلّية وإزالة التّرسبات التي تركها النّظام السّابق .
مراجع:
 [1] الدّستور التّونسي 2014 ، الباب السّابع، السّلطة المحلّية، من الفصل 131 إلى الفصل 142 . 
 [2] مجلّة الجماعات المحلّية . 
 [3] حسن محمد عواضه 1983:  الإدارة المحلّية وتطبيقاتها في الدّول العربيّة - دراسة مقارنة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع ، بيروت ، الطّبعة الأولى.
 [4] عمر بالهادي 2011 : المجال و التنمية، مجلة جغرافية المغرب، 12 ص.
 [5] مثنى فائق مرعي العبيدي 2017 : الحكم المحلي، المفاهيم و الأسس و التجارب، المنظمة العربية للتنمية الإدارية.