مفاهيم

بقلم
د.محمد بوقرين
الوسطية رؤية و منهج

1 – تقديم :

من المفاهيم التي شكلت حضورا إعلاميا مكثفا هذه الأيام مفهوم الوسطيّة . فالكثير من الأحزاب سواء كانت في الحكم أو في المعارضة تدّعي أنها وسطيّة في رؤاها الفكريّة و مواقفها العمليّة .

والملاحظ أن أطروحات أصحاب الاتجاه الوسطي قد اختلفت إلى حد التعارض. فمن قائل بأن الوسطية هي استجابة لدعوة قرآنية ( =الأحزاب الإسلامية ) إلى رافض للقوالب العقائدية واعتبار الطرح الوسطي هوية سياسية لا إيديولوجية فهي استجابة لحاجات الواقع الاجتماعي المتبدل .

 

2 -إختلاف القول بالوسطية :  

أ – الطرح الوسطي هويته سياسية لا ايديولوجية :   

يرفض أصحاب هذا الاتجاه حصر أنفسهم فـي إيديولوجية دينيـــة أو وضعية ويرون المعيار الذي يحقق لهم الوسطية هو ”الاستجابة لمقتضيات الواقع " وهو ما يحقق النجاعة في الفعل السياسي لذلك نجـــــد البعض مــــن الوسطيين ينتقلــــون من استخدام الإســــلام إلى استعمال الحداثة  أو العكس كما انقلب بعض دعاة الاشتراكية على أعقابهم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي و صاروا ليبراليين.

وقد يبرهــــن هؤلاء على وجاهـــــة مقالاتهم بضــــرورة التحرر من الايديولوجية بعدة حجج منها :

(1) النتائج الكارثيّة المترتبة عن التمسك بمرجعيات ايديولوجية في العمل السياسي فقد ينتهي هذا التوجه إلى الاستبداد وتفكك المجتمع. وكثيراً ما يُستشهد في هذا السياق بالأنظمة العربية الدكتاتورية و منها النظام الإستبدادي بتونس الذي حكم باسم العلمانية والحداثة وحقوق الإنسان وحوّل هذه الشعارات إلى مقدّس واجه به الإسلاميين فزج بهم في السجون بتهمة التطــرف وتحالف مع الغرب في حربه ضد الإرهــاب و عمــد إلى سياسة تجفيف المنابع .و قد أفرز هذا التهـور العلماني اليسار الإقصائي والتيار السلفي الرافض للديمقراطية وكل القيم الكونية.  

(2) الفوات التاريخي للتصنيفات الإيديولوجية التي انتهت بسقوط المعسكر الاشتراكي و انتهاء الحرب الباردة.

لذلك يرى البعض من الوسطيين أننا نعيش اليوم مرحلة العولمة التي تؤذن بزوال الايديولوجيا و كونية الديمقراطية وحقوق الإنسان فكل المشاريــع الإيديولوجيـــة هــي شمولية تماميّـــة ( من الإسلام هو الحل والحاكمية لله إلى دكتاتورية البروليتاريا ) يجب العدول عنها والانحياز إلى الحريات. 

(3) استناد الشرعية السياسية للحكم اليوم إلى حل مشكلة التنمية لا إلى مجرد الانتماء إلى مرجعية ايديولوجية كالإسلام والماركسية أو القومية ومن البديهي أن حل قضايا الفقر والبطالة لا يتحقق بالصراع الايديولوجي بل يتطلب الأمر الالتجاء إلى رأي الخبراء القادرين على تشخيص الواقع و ضبط الحاجات والإمكانيات والتخطيـــط وتحديـــد الأولويات لذلـــك يصنع القـــرار بالكمبوتــر لا بالديماغوجيا الاديولوجية

 

3- ردود نقدية :

و من الردود النقدية التي يقع تقديمها لدحض هذه الحجج :

أ- إن الايديولوجيا قد تفهم فهماً يخدم التحرر لا الاستبداد ووحدة البلاد لا تفكيكها، فالمشكل يكمن في الواقع المشحون بالتنافس والصراع على السلطة و الثروة لذلك لا معنى للوسطية خارج التعبير عن مصلحة القوى الاجتماعية التي تمثلها و الايديولوجيـا في هذا السياق هي إما تبريـــر للمواقــف المحافظــة على الواقــع أو متطلعة إلى تغييره فقد تكون تسويغا لخط فكري انتهازي يدعم الاستبداد والاستغلال أوتدعيماً لخط مبدئي يتجه نحو التحرر والعدل ومن يقول بسقوط الإيديولوجيا اليوم أو موتها ونهاية التاريخ إنما يريد تمكين العولمة الليبرالية من السيطرة والهيمنة وكون هذه الفكرة ايديولوجية أو يختفي وراءها منطق ايديولوجي لا يحقر من شأنها لأنه يوجد فرق بين ايديولوجيا تحرّر وأخرى تكرّس القهر والاستبداد لذلك نرى أن الإختيارات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية السائدة في بلادنا كلها تتنزل في إطار الصراع الدائر حول كيفية توزيع الثروة والسلطة  في مجتمع لا يزال يشكو من التبعية للخارج الرأسمالي و من هذا المنطلق نعتبر كل الأطروحات الفكرية والسياسية تصطف وراءها فئات إجتماعية تعتقد أنها تمثل مصلحتها وتتصدى لها فئات أخرى تتصور أن هذه الأطروحات تضرّ بها فبالضرورة كل فكرة إجتماعية تتضمن وعياً يحرك الجمهور ويدفعه إلى قبول شيء ما أو رفضه . لذلك فالمنطق الإيديولوجي يؤسس لكل قرار سياسي سواء كان مصرحاً به أو خفياً وهو يؤطر المشاريع التنموية لأن التنمية ليست عملية ميكانيكية أو مجرد أرقام نصل إليها باستعمال المنهج الإحصائي لتشخيص الواقع ومعالجته فالقيم الإسلامية في نظرنا قادرة على خلق دافعية قوية في المواطن التونسي فهي تحث على العلم وإتقان العمل وإعطاء الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه ومحبّة الغير والمساواة والعدل ...

ولا يمكن لأي حزب سياسي أن يدّعي احتكار هذه الثقافة فهي حاضنة  حضارية تتسع للجميع .

ب – الطرح الوسطي هو استجابة لدعوة قرآنية : 

قال تعالى : ”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس“  البقرة 143 – 

بتتبع مواقف الفاعلين في المشهد السياسي الذي يستعمل الدين قبل ثورة 14 جانفي 2011 وبعدها نجد أن النظام الاستبدادي كان يوظف مصطلح الوسطية ليتّهم الحركات الإسلامية بالتطرّف والإرهاب ليتخلّص من خصم سياسي .ويردّ التيار الإسلامي من خلال العديد من مجموعاته بأن مواقفه وسطية ومعتدلة وليست متطرفة . 

والملاحظ أن العاملين في الحقل الإسلامي قد اختلفت مواقفهم حول تحديد الوسط فمنهم من يرى أن الوسطية تقتضي تبني الديمقراطية والدولة المدنية وحقوق الإنسان ....والبعض الأخر حدد الوسط على أنه العلم بالقواعد الشرعية والالتزام بالكتاب والسنة والعودة إلى سيرة السلف الصالح وهو ما يتناقض حسب موقفه مع الديمقراطية والعلمانية و كل المفاهيم المدرجة ضمن الحداثة السياسية . 

والرأي عندي أن الوسطية هي ضديد للفهم السلفي للإسلام واحتكار الحقيقة الدينية وتسليم بتعدد القراءات التأويلية للنص الديني وتجنب التكفير والوصاية على الدين فالقرآن حقل خصب للتأويل والمنطق الخفي . الذي يختفي وراء ذلك يمكن أن يكون :

1 – تغير الواقع فالوسط مثلا في مجتمع ينشد الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية هو التسامح والقبول بالاختلاف مع الآخر ولكن في مجتمع يعاني الاستعمار تغدو الدعوة إلى تجنب العنف والحفاظ على السلم متعارضة مع وجود الاحتلال ومقتضيات التحرير .

2 – تعدد الانتماءات الثقافية والسياسية والطبقية للمؤولين وهو ما يفسر اختلاف المواقف رغم استناده إلى مرجعية واحدة هي القرآن والسنة فشتان بين مؤول يمتلك ثقافة تقليدية وآخر ثقافة معاصرة أو بين مفسر للقران ينحدر من طبقة مسحوقة وأخر ينتمي إلى طبقة ثرية أو بين قارئ للنص الديني موال للنظام وأخر معارض له .

3 – وجود خصائص بيانية للنص القرآني فهو يتضمن الحقيقة والمجاز والمحكم والمتشابه والعام والخاص والمطلق والمقيد لذلك اختلف المفسرون في قوله تعالى  : ”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس“ – البقرة 143 – فقد ذهبت التفاسير القديمة إلى أن الوسط هو التحلي بصفة العدل بمعنى تجنب الكبائر – العدول جمع مفرده العدل وهو من تقبل شهادته لأنه لا يتصف بالكذب مثلا – بينما يتجه أصحاب التفاسير الحديثة إلى تطوير هذه الصفة بجعلها تنفتح على الفكر الإنساني وتستفيد من مكاسب الحداثة وهكذا تغدو كلمة الوسط من الكلام الذي ينتمي إلى نص ظنّي الدلالة بتعبير علماء القران لذلك نرجح الفهم المعاصر الذي ينحو نحوا تحديثيا في قراءته للإسلام فهو الكفيل بالاندماج في الواقع الاجتماعي دون توتر إلا أننا ندعو إلى عدم الاكتفاء برفع شعارات التعددية والديمقراطية والدولة المدنية ببنية عقلية سلفية فتأصيل الحداثة هو الممر الإجباري لتجديد الفكر الإسلامي الوسطي اليوم .

 

4 – الوسطية رؤية ومنهج :

نرى أن الطرح الوسطي ينبع من وسط الناس – التونسيون الذين تضرروا من النظام الاستبدادي فصنعوا الثورة وهم خارج التصنيف الطبقي لأنهم يتكونون من عمال وفلاحين ومهمشين ومعطلين عن العمل وأصحاب مشاريع خاصة – فينطلق من حاجاتهم – أهداف الثورة – ويراعي إمكانياتهم ومخزونهم الثقافي – الثقافة العربية الإسلامية – 

ويترتب على هذه الرؤية منهج أي طريقة في التعامل مع قضايا الواقع تعتمد على العقل في فهم التناقضات وترتيبها ومعالجتها . فالتناقض الرئيسي اليوم هو تناقض مع نظام ليبرالي تابع هو الذي أفرز الفقر والبطالة والمديونية وهو الذي نفسر به تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .ولئن كان النظام الليبرالي التابع يحافظ على وجوده في ظل الدكتاتورية باسم الحداثة فإننا نرفض اليوم أن يتواصل بغطاء ديني تحت عنوان الهوية لذلك تتمثل مهمتنا اليوم في كشف عجز النظام الليبرالي التابع على تجاوز الكوارث الاجتماعية التي تسبب فيها بغض النظر عن الممثلين السياسيين لهذا النظام سواء كانوا من دعاة الهوية أو من أنصار الحداثة .

وإقرارنا بالاختلاف حول آليات التحرر من هذا النظام يدفعنا إلى الانفتاح على كل الرؤى التي تريد تغيير الواقع والاقتناع بأن الحل النهائي سيعكس بالضرورة موازين القوى لذلك ندعم التوجه الذي يسعى إلى الانعتاق من العولمة المتوحشة فينحاز إلى القيم الجماعية والدفاع عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والوحدة المغاربية والعربية بما هي الإطار الحضاري الأمثل الذي تحل فيه مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية في زمن التكتلات واستثمار القيم الإسلامية كطاقة دافعة للحرية والعمل وتحقيق العدل الاجتماعي وتعديل التطرف العلماني دون الانزلاق في الانغلاق الديني لذلك ندعو إلى إعادة ترتيب علاقة الديني بالسياسي بعيدا عن كل أشكال التنازع والتوظيف فغايتنا إقامة مجتمع تونسي حداثي يؤمن بالحريات وحقوق الإنسان ويصون القيم الإسلامية .