تأملات

بقلم
محمد الصالح ضاوي
أنواع العروض الدرامية في القرآن
 كنا قد عرضنا في العدد السّابق من مجلة الإصلاح، في مقالنا الموسوم بـ: «العرض الدّرامي في القرآن... التّنوع والتفرّد»، مجموعة تقسيمات للعروض الدّرامية، وهي:
(1) التقسيم الموضوعي للعرض الدّرامي- (2) تقسيم حسب مستويات التدخل- (3) تقسيم حسب الصراع العقائدي- (4) تقسيم حسب طبيعة العرض. 
ونواصل في هذا المقال، عرض أنواع أخرى من الدّراما في القرآن.
(5) تقسيم حسب المحاكاة:
تختلف العروض القرآنيّة حسب النّص المحاكى، والذي يتمّ تجسيده بالحركة من قبل الشّخصيّات. فنجد عروضا محاكية لأمثلة حسيّة، نذكر منها على سبيل المثال: 
عرض السّعي بين الصّفا والمروة، وهو محاكاة لسعي «هاجر» أمّ إسماعيل بين مرتفعين من الأرض، في عمق الصّحراء، بحثا عن الماء. وقد تحوّل الفعل الطّبيعي الغريزي الأمومي، إلى حدث تطهيري شعائري مقدّس، يتكرّر كلّ سنة من قبل ملايين الحجّاج. ويبدو أنّ شعيرة الحجّ، أو مسرح الحجّ أكبر عرض فرجوي روحي تطهيري مقدّس، يتكرّر كلّ سنة، يقوم به المسلمون في فصول ومشاهد متعدّدة، يرمي إلى عدّة اعتبارات تربويّة وروحيّة، عبارة عن محاكاة لمجموعة من الأحداث التّاريخيّة المرتبطة أساسا بإبراهيم الخليل وعائلته (هاجر وإسماعيل) تمّ تجريدها وتلطيفها وروحنتها وصياغتها كشعيرة مقدّسة محمّدية.
عرض تحويل القبلة من خلال الآية: «قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...»[1] وهي محاكاة لفعل الرّسول إبراهيم الذي أشرف شخصيّا رفقة ابنه إسماعيل على رفع قواعد البيت والصّلاة إليها، وأيضا لما فعله الأنصار الأوائل قبل الهجرة، خلال سفرهم إلى مكّة لمبايعة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم [2] .
عرض الغراب أمام ابن آدم، قاتل أخيه، حيث استوحى الغراب حركته من الحسّ الطبيعي الغريزي، المبثوث فيه.
بينما نجد أغلب العروض الرّسالية محاكية لأمثلة من عالم الحضرات الرّوحية، ارتسمت في قلب الشّخصية البطل، مثل عرض تحطيم التّماثيل من قبل إبراهيم، في حركة فتوّة نادرة ومفاجئة لقومه [3] .
(6) تقسيم حسب موقع الجمهور:
هذا التّقسيم طريف، يعتمد على موقع القارئ أو المكرّر للآيات التي تكشف عن عروض فرجويّة أو احتفاليّة أو مسرح للعقل والرّوح والقلب.
ففي القصص القرآني، يكون العرض عبارة عن استعراض وتكرار للحدث التّاريخي بكلّ شخوصه ومفرداته الدّرامية، فيكون موقعك: متفرّجا، وشاهدا من جديد على سياق الأحداث كما صوّرتها الكلمات القرآنية.
أما في عالم المثل، فإنّ طبيعتها الرّمزية الدّاعية إلى التّأويل، تجعلك مشاركا في صياغة المعنى، وبالتّالي صانعا للمشهد، لغويّا ونفسيّا وخياليّا.
وفي موضع ثالـث، تكون ممثلا منخرطا فـي المشهد القرآني، مثلما يحدث في عروض الصّفاء والمروة، والحجّ عموما.
(7) تقسيم حسب المقدّس والمدنّس:
تأتي عروض المحراب، كأكثر عروض المقدّس الديني تمثيلا، باعتبار رمزية المكان وارتباطه بالرّسالة والنّبوة والعبادة والحضرة الإلهيّة. ففي المحراب، عاشت مريم العذراء حياتها، تعبد الله وتدعوه، وفيه رزقها الله من الغيب (آل عمران 35-37)، وفي المحرابّ، نادت الملائكة زكريا الذي كان منقطعا إلى مناجاة الله (آل عمران 39)، وفي المحراب أيضا، اقتحم الأخوان خلوة داود، ليقوما بتمثيليّة أخ بغى على أخيه، ويكتشف نبيّ الله أنّه هو المقصود بالمسرحيّة (ص 21-25).
على أنّ أماكن كثيرة، كانت تتّصف بالدّنس، بفعل انتشار الكفر فيها... ورغم عروض الدّعوة والتّوحيد التي شهدتها من الأنبياء والحكماء، إلاّ أن مصيرها كان الإزالـــة والدّمـــار والتّغييــب... مثل طوفان نوح (العنكبوت 14).
(8) تقسيم حسب الصوت:
تقنية الصّوت المصاحب للعروض الدّرامية القرآنيّة تختلف من مشهد إلى آخر. ويمكن اكتشاف ذلك من خلال اللّغة التي استعملتها الآيات، ومن خلال جرس الحرف الطّاغي على آخر الآيات... وهو ازدواج بين موسيقى مصاحبة للعرض، وبين أصوات أبطال العروض ووسائل فعلهم...فمن عرض بطله غراب، يصارع آخر، تصحبه أصوات من الطّبيعة، إلى عرض إبراهيم وهو يحطّم التّماثيل، في جوّ رهيب صامت، إلاّ من صوت الفأس على الحجارة ورجع صدى ارتطام أجزاء التّماثيل على الأرض... إلى عرض يعلو فيه أصوات وصياح الجمهور، عند رؤية الحبال تتحوّل إلى أفاعي، ورؤية عصا موسى تلتهمها... إلى عروض الغيب، مع الملائكة والأرواح، تصحبها موسيقى التّسابيح وهمهمات الذّكر المتواصل، غير المنقطع، في جوّ مقدّس رهيب، يسيطر بجلاله على المشهد... «ألست بربّكم؟» و«ميثاق النبيين»... 
الخاتمة:
هذه أمثلة من تقسيمات للعروض القرآنيّة، غير حصريّة، يمكن أن تمتدّ حسب مفردات مسرحيّة أخرى، كالتّقسيم حسب زمن العرض، وأبطاله وشخوصه، وجغرافيته. كما يمكن اعتبار المناسباتيّة في التقسيم (عرض موسى والسّحرة يوم الزينة)، أو الرّكن العجائبي في العرض (عروض موسى وسليمان). كذلك يمكن نسبة المذاهب المسرحيّة المعروفة إلى مشاهد وعروض قرآنيّة، مثل المسرح الواقعي والطّبيعي والرّمزي والعرفاني الصّوفي والتّعبيري والسّوريالي والوجودي والملحمي البريشتي...الخ،  كل ذلك لإثبات أدب الدّراما في القرآن... موضوع لم يستثمر بعد بطريقة ايجابية.
الهوامش
[1] سورة البقرة - الآية 144 
[2] حديث البراء بن معرور الأنصاري، واجتهاده في الصلاة الى الكعبة، في أواخر الفترة المكية. 
السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد (المتوفى : 581هـ): الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، ج 4 ص 66. 
[3] يرجى مراجعة مقالنا:
 الضاوي، محمد الصالح: قصة إبراهيم الخليل والمعبد الوثني: مقدمة نظرية في أصول المسرح الرسالي.