نفحات

بقلم
عبد الله البوعلاوي
رمضان؛ شهر التنافس في الخيرات
 بشرى لمن جنى ثـمـار رمضان
في غضون أيام يهلّ علينا شهر شوّال ونودّع رمضان، الشهر الذي تشرق معه نفحات ربانية، تتجدّد معها الإرادة النفسية والعزيمة على التنافس في العبادات وأنواع البر لتهذيب النفس وتزكيتها وتدريبها، يقول الله تعالى:«قَد أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا»[1] . 
الإنسان العاقل هومن تهيأ لاستقبال رمضان طمعا في الفوز بجوائزه المختلفة، من صيام وقيام وصلاة وقراءة القرآن وصدقة وعَمَل بر لتحصيل قيمة التقوى، التي يقبل الله بها الأعمال ويتفاضل النّاس فيما بينهم، وبها يدخلون الجنّة. في شّهر رمضان يسعى الإنسان ليُصبِغ حياته بالعبادة في كلّ أحواله، يتقلّب من طاعة إلى أخرى، يسمو شاكرا لله الذي وفّقه لإدراك هذا الشهر وأغدق عليه من النّعم الوافرة، وتوفيق الله له بالقيام بجميع الطّاعات، وصابرا ليس على الجوع والعطش، بل يصبر محتسبا على مقاومة المفطرات المعنويّة والمادّية امتثالا لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، ويرقى بين مقام الخوف على ضياع وقت من أوقات رمضان في غير طاعة وبين الرّجاء طمعًا في قَبول أعماله كلّها، فيأنس بالذّكر والاستغفار، ويشنف سمعه بتلاوة القرآن، ويبتعد عن المساوئ والشّهوات وكلّ ما يفسد الصّيام معنويّا أو ماديّا.
بشرى لمن جني ثمار رمضان، ونهل من فيوضاته وبركاته، حيث تتزين الجنة بحللها، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، ويُبَشَّرُ فيه العبد بجوائز من ربه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »[2]. ومن حُرم فضل الصيام فهو المحروم.  
المؤمن و شهر رمضان:
يفرح المؤمن بقدوم رمضان، لأنّه يحمل معه الخيرات والبركات والعطايا والنّفحات، فيتحرّر العبد من الأغلال الواهية والأثقال الوهميّة، فيُقصر عن الشّر، فيَدخل بإرادة قويّة في النّيل من سوقه وتجارته، ويسعى في تحصيل النّصيب الأوفر من مزرعته، حيث  يصفو الذّهن بقراءة القرآن، وترتبط الرّوح بربّها بقيام اللّيل، وتناجيه تضرّعا عند السّحر. كيف لا يفرح المؤمن بشهر رمضان، شهرتكثر فيه الغنيمة وفُرص مضاعفة الثّواب بأعمال قليلة. 
يفرح المؤمن بمُنادي السماء «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[3]، ويفرح لمنادِ «ينادي كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغِيَ الشَّر أقْصِر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليل»[4]، فيُشمر على ساعد الجدّ فيستجيب لمنادي الرّحمن ليظفر بجائزة المغفرة ويُكتب من العتقاء من النّار. «كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشَّر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشَّر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين، من أين يشبه هذا الزمان زمان»[5]. في شهر رمضان تُغفر الذنوب، وتُقال العثرات، وتُسكب العبرات وتُرفع الدرجات، ويستغرق العبد في المناجاة والابتهالات ابتغاء محو الزلات وتكفير، لأنه  يعلم أن له رَبٌّ قريب يجيب الدعوات، يقول الله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ،  أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»[6]، ويقول سبحانه وتعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»[7]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ..»[8].
إن العبد المؤمن يتهلل وجهه بقدوم شهر الصيام، فيدرّب على قيمة الصبر، فيصبر صائما عمّا أحلّه الله له من المفطرات، ويصبر على طاعة الله تعالى، ويصبر على  شهوات نفسه، ويصبر على محارم الله تعالى محتسبا يرجو ما عند الله تعالى من جزاءٍ للصابرين، يقول الله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»[9]، لأن الصيام لله عز وجل، لا يعلم أجره وثوابه إلا هو سبحانه لشرفه عنده، فيجازي الصائم على قدر إخلاصه في الصوم، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:«الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ «مَرَّتَيْنِ» وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.. يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا»[10].
رمضان فرصة للتفوق
يُتيح لنا رمضان فرصا مختلفة ومتنوعة للغنيمة والظفر بما عند من فضل، يريد الله أن يتوب على عباده، «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ»[11]، يريد الله تعالى أن يكفر عنهم السيئات، فيُهيئ من الأسباب والأزمان ما يدفع  الإنسان إلى التذكرة والموعظة، فيأخذ بالأسباب المعينة على طاعة الله تعالى، يقول الله تعالى: «سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»[12]. فهذه القيم والأخلاق  يمكن تحصيلها في شهر رمضان، فتنطلق النفس في تحقيقها، وكلها بمقدور الإنسان، ولا يجد حرجا في تنزيلها، فيدرب نفسه عليها لتصبح عبادة سجية مألوفة لا تطمئن نفسه إلا بإتيانها.
يعتبر رمضان فرصة للتألق في العبادات، فيسمو بها عبدا مطيعا لربه أمرا ونهيا، فيستجيب لنداء ربه بأداة الصلوات جماعة وفي المساجد، ويتقرب إليه بالنوافل ليجبر بها الفرائض، فيشعر من خلال صومه ما عليه صاحب الحاجة وذي كبد رطب من مشقة  وضيق في العيش في غير رمضان، فيخصص من ماله صدقة يطهر بها نفسه ويطعم الطعام، ويلزم كتاب ربه قراءة وتدبرا وعملا ينهل من معينه بعد هجران، ويكتشف فيه أنوار الهداية الربانية في حياته الروحية والمادية، ويُحَسِّن سلوكه بالقيم القرآنية ودراسة السيرة النبوية، ويكف نفسه مساوئ الفعال والأقوال، ليحقق الرقي بالذات لتتجاوز الأثقال الطينية إلى معالي الرضوان الربانية.
يجعل المؤمن رمضان فرصة للسمو بالذات لتأنس على حال الطاعة على الدوام، ولا تجد متعة الحياة والطمأنينة إلا في مقام الإحسان في العبادة والأنس بجوار الله تعالى، الذي يقول: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ»[13]، يشعر بمعيته ونصرته وتأييده بتركه المحرمات وقيامه بالمأمورات.
الفائز منّا من جعل من رمضان فرصة للإقلاع التام عن كل ما يضر بنفسه معنويا وماديا، وانتصر على مداخل الشيطان وتجنبها، ثم لجأ إلى ربه في حال الشعور بالضعف من هوى النفس أو بطائف من الشيطان مستعيذا بالله منه، يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» [14] .
يعتبر رمضان مضمارا، يتسابق فيه المجتهدون المجدون، فيقْطَفُون من فتوحاته ليكون لهم شفيعا يوم لقاء ربهم، يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» [15] . يتواصل هذا السّباق في شوّال وفي ما بعد شوّال لأنّ هذا السّباق إنما تكون نهايته عند لقاء الله تعالى، فيستمر العبد في السّير إلى ربّه بما ألفه في شهر رمضان بمجاهدة النّفس ومخالفة هواها، ويزداد قربا وحبا من الله تعالى، ولا يأنس إلا بذكر الله تعالى، فيراقب الله في سره وعلانيته، في حضره وفي سفره، في باطنه وظاهره، وفي أقواله وأفعاله... فيُصبِغُ حياته كلها بالعبادة، يقول الله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» [16].
الهوامش
[1] سورة الشمس - الآية 9
[2] رواه البخاري 38 ومسلم 760  
[3] سورة البقرة - الآية 183
[4] سنن الترمذي وابن ماجه
[5] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)1/148، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1424هـ 2004م
[6] سورة البقرة - الآية 186
[7] سورة غافر - الآية 60
[8] الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني من سنن الترمذي رقم الحديث 2525، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
[9] سورة الزمر - الآية 10
[10] فتح الباري بشرح صحيح البخاري باب الصوم 4/103 رقم الحديث1894
[11] سورة النساء - الآية 27
[12] سورة آل عمران - الآيات من 133-136
[13] سورة النحل - الآية 128
[14] سورة الأعراف - الآية 201
[15] سورة العنكبوت - الآية 69
[16] سورة الحجر - الآية 99