قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصّة يوسف عليه السّلام (الأخيرة) أكبر عبر القصة
 أوّلا : يوسف مثال للإنسان المبتلى
أظن أنّ العبرة العظمى من قصّة يوسف هي أنّ يوسف ـ حتّى وهو نبي ـ إنسان لا بدّ أن يتعرّض في حياته لقانون الإبتلاء. ضربة لازب لا يندّ عنها مخلوق أبدا. إبتلاء بالعسر أوّلا في حالة يوسف ثم باليسر وقد يبتلى غيره باليسر أوّلا ثم بالعسر ولكن المقطوع به أنّ الإنسان ما خلق إلاّ ليمرّ على صراط الإمتحان في الدّنيا باليسر والعسر معا كما أنّه سيمرّ يوم البعث على الصّراط. هذه العبرة العظمى تنادي الإنسان ـ كلّ إنسان في كلّ زمان وفي كلّ مكان ـ أن ارقب مواد الإمتحان في حياتك وتجهّز للنّجاح.
ثانيا : عنوان النّجاح في الإمتحان هو : التّقوى والصّبر
لا يحتاج المرء أيّ جهد ليتلقط هذه العبرة العظمى فهي مرسّخة في آخر القصّة. الحياة إمتحان مادّته  اليسر والعسر معا ومعالجة الامتحان كلمتان لا ثالث لهما. «التّقوى» التي هي تجنّب مقامين عظيمين إثنين لا ثالث لهما : مقام الله أن يعبد في الأرض غيره أو أن يسجد لغيره أو يستغاث به أو يلجأ إلى غيره ومقام الإنسان صنيعته التي كرّمها وقدّسها وحرّمها، فلا يلغ والغ في حقّه أو حرمته المركّبة من النّفس والمال والعقل والعرض. من اتّقى ربّه فلم يشرك به شيئا واتّقى الإنسان فلم يدس كرامته فهو المتّقي. 
الكلمة الثّانية هي «الصبّر» الذي يعني حبس غريزة الغضب أن يصيب بشرره  المتطاير الظّالم نفسه بله غيره إلاّ بعدل إذا لزم العدل أو بإحسان إذا كان الإحسان أنسب لذلك المشهد. فمن حبس إنفاذ غضبه وهو قادر على القصاص عدلا لا إسرافا وإنتقاما فهو الصّبور. ومن جمع بين التّقوى رفعة لمقام الله ورفعة لمقام الإنسان وبين الصّبر حبسا لغريزة النّفس الأمّارة بالسّوء فهو من المحسنين وهو الفائز بشهادة النّجاح في إمتحان الدّنيا
ثالثا : العافية النفسية نعمة الحياة
مركّبات العافية النّفسية في هذه القصّة هي: «العفو» الذي أظلّ العائلة وشملها يجتمع ولو اجتمعت أجسامهم وظلّت البغضاء بينهم لكان اللّقاء عذابا وليس عيدا. «الأمل» اليعقوبي الذي لا يعرف حدودا بل جاوز كلّ الحدود، فهو يلوذ بالصّبر واليقين عند كلّ مصيبة جديدة ولسان حاله هو : «أعلم من الله ما لا تعلمون». كل واحد منا يمكن أن يعلم من الله أملا ويقينا وسكينة بما لا يعلم غيره. نبذ الحسد المفترس للحسنات كما تفترس النّار الحطب إذ الحسد حريق يمزّق نياط فؤاد الحاسد حتّى يموت كمدا. تلك هي أغذية العافية النّفسية في الدّنيا : الصّفح عمّن ظلم والمظلوم قادر على القصاص والأمل في الله في ساعة عسرة وشدّة يستبدّ فيها اليأس بالأفئدة إستبدادا وإستبدال الحسد ـ ذلك القاتل الصّامت ـ بالعمل والمنافسة.
رابعا : العافية العقلية قارب الفوز
مركبات العافية العقلية في هذه القصّة هي : تصحيح النّظرة إلى الغرائز المادّية والمعنويّة حتّى تكون الغريزة الجنسيّة ـ وهي أقوى غريزة مادّية أصلها غريزة حبّ البقاء الذي لا يكون إلاّ بها ـ ليس منكورا في ذاته إذ لا سواء للإنسان إلاّ به ولكن تلبّى بالطّريقة الإنسانيّة لا البهيميّة ولو يؤاخذ الله كلّ هامّ بإمرأة همّا في قلبه لما وسعت النّار النّاس حتّى وهي تقول : «هل من مزيد». ولكن العبرة بالجارحة وليس بالقلب وحسب القلب سلامته من الشّرك احتذاء بإبراهيم الذي جاء ربّه بقلب سليم أي من الشّرك. تصحيح النّظرة إلى الحرّية وهي غريزة معنوية ـ أصلها غريزة حبّ التّقدير والإعتبار ـ حتّى تتقدّم عليها الكرامة لتكون الحرّية تابعة للكرامة لا متبوعة لها ولذلك آثر يوسف السّجن على حرّية القصر ثمّ آثر السّجن مرّة أخرى على خروج دون فضّ لبكارة الملف الذي بإسمه دخل السّجن. تصحيح النّظرة إلى الإلهامات والأحلام وهي من جنس واحد لتكون هذه مصدر أنس وعامل تخفيف أو سكينة وطمأنينة ولا تتعدّى تخومها لتكون مصدرا للتّشريع من  بعد ما أوصد باب التّشريع واكتمل الدّين وبذلك تتكافل الإلهامات والأحلام مع التّشريع مع إحتفاظ كلّ منهما بحقله وتتصالح السّلفية مع الصّوفية صلحا يجتمع به صفّ الأمّة من بعد فرقة. ولو ترك يوسف رؤيا الملك للتّسلية أو لعقلية المهدي المنتظر فما دبّر خطّة إنقاذيّة لهلك النّاس جوعا ولكنّه جمع بين الرّؤى والإلهامات وبين التّدبير. المركب الأخير في هذه القصّة من مركبات العافية العقليّة اسمه نبذ المشوشات التي تفسد الخطّة المرسومة ولذلك لم يلتفت يوسف لاتهام إخوته له بالسّرقة ولو فعل لانكشفت خطّته وبار كلّ شيء. تلك هي مركبات العافية العقليّة إذن : تصحيح النّظرة للغريزة الجنسيّة وتصحيح النّظرة لغريزة الحرّية وتوفير المعادلة بين التّدبير والتّشريع من جهة وبين الإلهامات والرّؤى من جهة أخرى ونبذ المشوشات الجانبيّة.
 خامسا : من فقه الإصلاح والتّغيير
إمتلأت القصّة بوابل صيّب من فقه الإصلاح والتّغيير. منها أنّ القضاء العادل شرط مشروط لنهضة الأمم ولقد رأينا هنا أنّ الدّولة التي ليست إسلاميّة حفظت قدرا من حرمات الإنسان بما فيها من قضاء عادل قضى في قضية المراودة بحسب القرائن ـ أي من الجهة التي قدّ منها القميص ـ وليس بحسب القرابات. ومنها كذلك أنّ المشاركة في حكم لا إسلامي بقصد الإصلاح والقدرة عليه أمر مطلوب لأنّ فقه السّياسة يقوم في الإسلام على أساس المصلحة والمفسدة والعدل والجور وليس على أسس الحلال والحرام والطّاعة والمعصية والكفر والإيمان أو الحقّ والباطل، فتلك معايير صحيحة لها حقولها الصّحيحة. أمّا طرق التّكفير والتّفجير أو طرق النّأي بالنّفس ورعا كاذبا فهما من الشّيطان وليس من الرّحمان. ومنها كذلك أنّ منهاج التّغيير ليس له إسم واحد عندما ينحاز إلى السّلمية وأنسب عنوان له هو : «الأبواب المتفرّقة» أي تنويع أساليب الإصلاح وطرق التّغيير لتكون متكافلة كمثل فريق رياضي يتعاون فيه الدّفاع مع الهجوم والقلب مع الأجنحة ولا بدّ للنّصر من كلّ تلك الوسائل ولا يعوّل على طريق واحد إلاّ أصحاب الإنقلاب العسكري فإمّا يصبحون على العرش مكرمين أو على أعواد المشانق مصلوبين. 
آخر مركب من مركبات فقه الإصلاح في هذه القصّة إسمه : «الكلمة». الكلمة التي لاذ بها يوسف وهو يدافع عن نفسه وهو يتّهم من سيدته بحضرة سيّده بالسّوء. وهي الكلمة ذاتها التي دخل بها القصر حاكما : «اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ». لم يحتج لغير الكلمة لفكّ إمتحاناته المتعدّدة بالعسر وباليسر ولو لاذ بالسّيف لكان له ذلك وهو في الحكم. تلك هي مركبات فقه الإصلاح في هذه القصّة : القضاء العادل والمشاركة في حكم لا إسلامي إبتغاء الإصلاح وتنويع طرق التّغيير وتوخي الكلمة وليس السّيف.
 سادسا : الحيل أدوات محايدة وحكمها حكم مقاصدها
هي سورة الحيل والمراودات حقّا وهي صورة أخرى من صور حرب الذّكاء التي عشناها مع سليمان وبلقيس. العبرة العظمى هنا هي أن الإنسان ينبّه إلى أنّ قوته في عقله إبتداء وليس في جسمه. فإذا صحّ العقل نجح في الإمتحان ولو بجسم عليل و القوة الجسمية مطلوبة. إدّكر معي هذا : يوسف كلمة لطيفة هي إلى الخفاء والسرّ أدنى. حتّى الرّيح التي لا صوت لها ـ أي الرّائحة ـ هي التي حملت خبر يوسف إلى أبيه. بله الأحلام التي لا صوت لها ولا حقيقة لها أصلا في واقعنا المشهود. بله المراودات التي إمتلأت بها السّورة إمتلاء عجيبا فهي سلاح يوسف مع إخوته وهو في السّلطة وهي سلاح إخوته مع أبيهم في البداية وهي سلاح إمرأة العزيز مع يوسف. سلاح أبطال القصّة كلّهم هو المراودة والحيل والكذب الذي نراه نحن اليوم بالجملة منكورا ونحن نكذب. ما هو بمنكور بل هو عمل محايد تجري عليه الأحكام التّكليفية الخمسة بالتّعبير الفقهي. الحيل المطلوبة سلاح الأنبياء من إبراهيم مع قومه والآلهة حتّى إبنه يوسف ثمّ إلى إبنه سليمان. تجنّب الحيل عندما تكون جلاّبة مصالح بالمعيار العقلي أو الشّرعي وليس بالمعيار المزاجي هو تديّن كذوب. إنبناء هذه القصّة من أولها إلى آخرها على وسيلة الحيل والمراودات إنّما يقصد منه تعليمنا أنّ الحياة أكثر تركيبا مما نتصور ولذلك لا بدّ فيها من توخي الحيل والمراودات بضابط واحد راسخ إسمه : كلّ حيلة تفضي إلى صلاح أو إصلاح فهي مطلوبة شرعا وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، وكلّ حيلة تفضي إلى فساد أو إفساد فهي محرّمة شرعا وما يفضي إلى الحرام فهو حرام. 
هذا تقرير ديني ولكنّي سأظل مشدودا ومشدوها إلى الرّوح السّارية في القصّة وهي روح الخفاء والسرّ واللّطف من إسم يوسف والرّؤى حتّى المراودة الجنسيّة والذئب الذي لا وجود له في حقيقة القصّة والقميص بدمه الكذب والرّيح الحاملة للبشرى. عجب عجاب بل ألق آلق أشعر به وتعجز السطور عنه.
سابعا : مخّ الدعوة قضاء حوائج الناس أما الكلام فيحسنه كل أحد
ما علّم يوسف تأويل الأحاديث إلاّ ليقضي حوائج النّاس في مجتمع إستبدت به الرؤى وتعبيراتها فلمّا قضاها تأهّل للحكم الذي به قضى حوائجهم في العدل الإجتماعي في سنوات مجاعة عجفاوات. تلك هي الدّعوة عندما تكون على بصيرة كما ورد في آخر القصّة. 
البصيرة هي : تطويع الدّعوة لقضاء حوائج النّاس قدر الإمكان، أمّا التشدّق بالكلام من فوق أريكة وعلى موائد مترعة بالمشروبات فيحسنه كلّ بطال. لو لم يكن يوسف لحوائج النّاس قضّاء لما أنزل منازل الحكم وما حاز ثقة صاحبي السّجن. ومن حوائج النّاس : العفو عنهم والحلم بهم.
نداء أخير أختم به قصة يوسف
نداء  لمن يسمع من أهل التّخصص الفنّي. نداء عنوانه أنّ القرآن يحوي قطعا فنّية هي الجمال ذاته منها القصص والأمثلة وغيرها. ندائي إلى أهل الفنون إخراجا وتمثيلا أن حوّلوا هذه القطع الفنّية القرآنيّة إلى مسرحيّات وتمثيليّات ومنتوجات سنمائيّة وأغدقوا عليها من أهليتكم الفنّية وأموالكم وأموال المحسنين المقاومين وقدموها عروضا للنّاس بلغة النّاس المعاصرة يسرا وسهولة ثمّ يلتقطها النّاس وهم أذكياء تختلط بها مشاعرهم ثم يصلحون بها أحوالهم السّياسية والمالية والنّفسية والإجتماعيّة بتدرّج زمني عجيب . أملي أن تتحوّل هذه القطع الفنّية القرآنيّة الأنيقة الجميلة إلى قطع فنّية حقيقيّة واقعيّة في زمن لغته الفنّ وليس المنبر سيّما عندما يكون المنبر ينادي النّاس من مكان بعيد لا يغرس فيهم قيمة جديدة تصلح ما فسد ولو فعل بعضهم لكان بلسان فجّ عقيم لا حياة فيه. ذاك أملي والله. 
لست فنّانا بل مؤمنا بالفنّ أداة إصلاح إذا صلح أهله وأداة إفساد إذا فسد أهله. رجلان اليوم بيدهما الإصلاح  والفساد : الإعلامي والفنان وما عداهما لاعبو إحتياط.