وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
الإنسان، بين انتكاسة الكفر وسموّ الإيمان
  يصل لعموم القرّاء وهو ما دفعني للتّركيز عليه في مفتتح المقال حتّى أضع النّقاط على الحروف. تنقسم العبارة إلى قسمين {عمارة الإنسان للأرض} / { بقيم الاستخلاف}، أمّا الأولى فهي خبريّة تعني أنّ الإنسان مطالب بأن يعمّر الأرض فيستخرج منها ثرواتهــــا ويبحث في آيات الله التي يُرينا إيّها في الآفـــاق ( العلوم الطبيعيّة ) والأنفس (العلوم الإنسانيّة).
هذا البحث العلمي أو بعبارة أخرى العلم بقوانين الطّبيعة وبسنن التّاريخ هو شرط الاستعمار في الأرض وهي العلاقة بين الإنسان والطّبيعة، أي من خلالها يمكن للإنسان أن يفهم الطّبيعة بمعادلاتها الفيزيائية وبنظرياتها الحسابيّة فيتمكّن حينئذ من الأخذ بأسباب القوّة العامّة المنصوص عليها في القرآن الكريم في الآية الكريمة « وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ» (1) فيكون للإنسان بما حصّله من علم القدرة على استنباط حلول واختراع أجهزة تيسّر له حياته وتنتقل به من طور البدائية إلى طور الإنسانية. 
والقسم الثّاني من العبارة -أعني {بقيم الاستخلاف}- أي تلك القيم التي تؤطّر الإنسان تأطيرا يسمح من خلاله المحافظة على الثّروة التي أودعها الله في الأرض آمرا الإنسان باستخراجها والانتفاع بها وهي قيم الرّزق وقيم الذّوق أو أخلاقيّات التّعامل مع الثّروة الاقتصاديّة والفنّية بما يتيح للإنسان من فهم العلاقة الديالكتيّة بينه وبين التّاريخ (يؤثّر ويتأثّر) فالقيم الكونيّة للاستخلاف هي الضّامنة لاستغلال الثّروة دون إساءة استغلالها المؤدّية في كثير الأحيان لإهدارها.
ألا تذكّرنا « استعمار الإنسان للأرض بقيم الاستخلاف» بالمفهوم الإسلامي «العمل الصّالح» الذي كثيرا ما يتردّد في الآيات القرآنيّة مقترنا بالإيمان وينتج عنه سعادة في الدّنيا لما له من أثر على الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة للمؤمن وفوز عظيم في الآخرة ؟ بل إنّ المطابقة بين المفهومين جائزة لحدّ الاعتبار بأنّ استعمار الإنسان بقيم الاستخلاف جوهر العمل الصّالح لما يحتويان من فضائل وجب على الإنسان أن يتحلّى بها طوال حياته.
والسّعادة التي كثيرا ما تتكرّر في القرآن الكريم تكون من خلال تطبيق ركنين أساسييّن، ركن مادّي هو استعمار الأرض بقيم الاستخلاف أو العمل الصّالح بعبارة القرآن وركن روحي يتمثّل في الإيمان الذي هو إقرار قلبي بوحدانيّة الله وتصديق بالجوارح والأركان، فتهذب النّفس وتُزكّيها حتّى تصل إلى مقام التّقوى (وهو الاحترام المطلق للقانون) بما يجعل الفرد صالحا داخل المجتمع الإنساني.
والتّقوى، كما بيّنا في مقالات سابقة، تمثّل القانون الذي ينظّم العلاقات الاجتماعيّة، فيحرّم إرتكاب المحظورات التي تشكّل تهديدا لسلامة المجتمع ولأمنه العام ويحثّ على مكارم الأخلاق والتّقيّد بها حتّى ينتقل المجتمع من الحيوانيّة (قانون الغاب) إلى البشريّة (المدينة الفاضلة التي دعا إليها جميع الفلاسفة) ولذلك فإنّ تقوى الله في مخافته باجتناب نواهيه (الأعمال الضّارة التي ينجرّ عنها ظلم لنفس مرتكبها فترديه إلى أسفل سافلين) واتباع أوامره (الأعمال التي يقوم بها الفرد الصالح في المجتمع ليثبت حسن أدائه لأمانة الاستخلاف).  
فظلم النفس حين ارتكاب الذّنب من شأنه أن يؤثّر على سيكولوجيّة المذنب سواء بالاعتراف أو بالتكبّر؛ فالاعتراف مصدره العلم والأنا الأعلى الطّامحة للخير وللقيم العليا، أمّا في صورة التكبّر فتمثّل تلك السيكولوجية الشيطانيّة، سبب الخروج من رحمة الله، التي وسعت كلّ شيء، ما عدا الشّرك والتكبّرالمتأصّل في الأنا النازعة للشرّ والذي يعتبر من أعظم الذنوب التي عصي الله من خلالها. 
لن أذكر آثار الذّنب على مرتكبها والتي تدخل ضمن طائلة «ظلم النّفس» فمضارّها معلومة، ولكن قصد البحث هو المقاربة بين مفهوم «الإيمان» بما هو تزكية النّفس قصد تقديم خدمة للإنسانيّة وأن يكون الفرد صالحا لضمان التّعايش في الجماعة وبين مفهوم إسلامي آخر هو «الكفر» بما يمثّله من انحطاط أخلاقي وتفسّخ قيمي المسبّب لدمار الجنس البشري وللكون وهو ما أكّده الرّسول حين قال : « لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»(2)
ذكر في الحديث ثلاث شهوات تنقاد لها النفس وهي شهوة الفرج وشهوة المال وشهوة اللّذة، وكلّ منها يمثّل إطارا قانونيّا خاصّا به، فالجنس حرّم خارج الأطر الزوجيّة، والمال حرّم خارج مكسب اليد، واللّذة حرّمت خارج أطر الطيّبات. ولمخاطر تلك الشّهوات على الحياة النفسيّة والاجتماعيّة يُنزع عن مرتكبيها الإيمان لأنهم نكصوا على أعقابهم من مراتب الإنسانيّة إلى مراتب ما دون الحيوانيّة فمن يقتل شعبه بالكيمياوي لا يفرّق بين شابّ وشيخ حقّ فيه كلمة «كافر».
وقد جاء في الحديث الشريف أنّ «للإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب الإيمان»(3) ووقع تصنيف الشّعب إلى ثلاث؛ تتفرّع عن أعمال القلب ( المراتب الخمسة للإيمان، الحبّ، الشّكر..) وأعمال اللّسان (تعلّم العلم وتعليمه ..)  وأعمال البدن ( صلة الرحم، والقيام على الزوجة والعيال وحتّى النّظافة من شعب الإيمان) 
إنّ « لا إله إلا الله ، محمدا رسول الله» تمثّل كوجيتو إسلامي مقابلا للكوجيتو الدّيكارتي تزول من خلاله الأنا فيصبح وجودك الطبيعي مرتبط بالله، فالفضل منه وإليه ويصبح وجودك المعنوي مرتبط بالرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جاهد لتبليغ رسالته للعالمين حتّى يفوز الإنسان في الدّارين؛ فهذا الكوجيتو تذوب فيه الأنا لتقوم مقامها الأنا الأعلى الباحثة عن الفضيلة والحكمة والقيم المثلى التي ينبثق منها كلّ خير –أعني شعب الإيمان التّابعة له- . 
والمتأمل في هذا الكوجيتو « لا إله إلا الله» يستنتج أنّه قد نفى نفيا قطعيّا وجود إله آخر غير الله والإله قد يكون صنما أو شهوة أو حبّا لشخص حبّا أعمى ينزل منزلة التّقديس .. فالعبد للشّهوات والنّزوات يخرج من دائرة الكوجيتو الإسلامي فـ «لا إلاه تعني ( نفي للطّاغوت المتمثّل في تقديس الأشخاص ولا شهوات ولا أصنام ولا حبّ الذات المتمثلة في الأنا ) إلاّ الله ( إثبات للذّات العليا المتمثّلة في الأنا الأعلى والمثل الحسنة)
أما الشّعب الأخرى بأصولها الثّلاثة وتنوع فروعها فهي تعبّر عن سلوك خيرة البشر وصفاء نفوسهم الطّاهرة وزكاة روحهم النقيّة (أعمال القلب) وإذا خاطبهم الجاهلون بذمّ أو تكبّر أو نميمة أو كلام بذيء قالوا سلاما دون ما مشاكل مصاحبة لحوارهم أو لأذاهم (أعمال اللّسان)، وفي عملهم إتقان وإحسان فهو جهاد وتحقيق لمقام الاستعمار في الأرض (أعمال البدن) وهذا جوهر الايمان والعمل الصالح.
وبذلك يمكن القول أنّ الإيمان هو مفهوم واسع يدخل تحت سقفه كلّ أعمال الخير التي ترتقي بالإنسان من منزلة الحيوان الناطق (التعريف الفلسفي للإنسان) إلى منزلة المستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف (التعريف القرآني للإنسان) والحجة في هذا قوله تعالى : « إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ « (4) أي أن الجنّة ليست حكرا على المسلمين فقط، بل المعيار في التّقييم هو أعمّ من هذا الحصر المقيت. 
يقول الإمام أبو حامد الغزالي: (إنّ أكثر نصارى الرّوم والتّرك في هذا الزّمان تشملهم الرّحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الرّوم والتّرك، ولم تبلغهم الدّعوة، فإنّهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد صلّى الله عليه وسلم أصلا، فهم معذورون، وصنف بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون، وصنف ثالث بين الدّرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضا منذ الصّبا أنّ كاذبا ملبسا اسمه محمد ادّعى النبوّة، كما سمع صبياننا أنّ كذّابا يقال له: المقفّع، تحدّى بالنّبوة كاذبا، فهؤلاء عندي في معنى الصّنف الأول، فإنّهم مع أنّهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضدّ أوصافه، وهذا لا يحرّك داعية النّظر في الطّلب)(5)
يمثّل الإيمان إذن، تحرّرا من السّلطة الرّوحية المتمثّلة في الكنيسة أي من الوساطة بين العبد والمعبود.  وهو أيضا تحرّر من السّلطة السّياسيّة المتمثّلة في العبارة المشهورة « ظلّ الله في الأرض» أو بعبارة أخرى «الحقّ الالهي» أي تحرير من الوصاية بين الحاكم والمحكوم والانتقال من الإمام والرّعية إلى مفهوم المواطنة والرّئيس وهو عين المسؤوليّة التي أسندها الرّسول في قوله « كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»(6) 
ولذلك فسورة العصر تعتبر، على اختصارها وقصرها، سورة جامعة للخير ولأسباب السّعادة في الدّنيا قبل الآخرة مما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عنها:«إنّ الله تعالى أخبر أن جميع النّاس خاسرون إلاّ من كان في نفسه مؤمنا صالحا، ومع غيره موصيا بالحقّ موصيا بالصّبر».(7) وبهذا يكون  شرط الاستثناء من الخسر محدّدا في الإيمان والعمل الصالح اللّذين يمثّلان شرط التّعاون في الجماعة،لا يتحقّق هذا الشّرط إلاّ إذا عملت بالتّواصي بالحقّ و بالتّواصي بالصبر.
مفهوم الخسر القرآني يتطابق ومفهوم فساد معاني الإنسانية الخلدوني الذي يمثّل حالة من الانحطاط القيمي والأخلاقي في الجماعة تبعث على الهوان والنّكوص إلى الجاهليّة، والأمّة التي فسدت فيها معاني الإنسانيّة تصبح عالة على غيرها، فهي أمّة عبيد وليست أمّة أحرار وانعكاس هذا كلّه في التّربية حيث اعتبرها ابن خلدون أساس التّأخر أو التّقدم  وفيها يفتضح النّظام القائم على العدل أو الدّاعم للجور.
وبناء على كلّ ما سبق من تفسير وإيضاح بالحجج والبراهين، يمكننا أن نكشف النّقاب عن مقومات وجودنا الحضاري ونقيّم مدى تأثيرنا على الجنس البشري ولنطرح تساؤلات من قبيل « هل نحن مؤمنون حقّا بالنظر لما قدّمته أيدينا للبشريّة من تقتيل وتشريد وإفساد في الأرض؟ ولنفرض ذلك جدلا فهل كوننا مسلمين قد أخذنا صكّا على بياض أنّنا من أصحاب الجنّة؟ وأنّ الخمس مليارات والنّصف من غير المسلمين كلّهم في النّار؟  
هل رحمة الله –الواسعة- مقتصرة فقط على المسلمين ولن تشمل غيرهم؟ وهل أخذنا على عاتقنا الحكم على إنسان (هوكينغ مثال) قدّم للبشريّة ما لم يقدّمه مليار ونصف مسلم من أبحاث ونظريات فيزيائيّة أهو شقي أم سعيد في الآجل؟، في حين أنّ الله لا يحب التألّي عليه بل ويعاقب المتألي بالعقوبة التي يستحقها.
 تمثّل الرّسالة الخاتمة بما هي الدّيني في جميع الأديان، أي القيم الدّينية التي بدأتها حنيفيّة إبراهيم مرورا بنصرانيّة عيسى وصولا لإسلاميّة محمد عليه الصّلاة والسّلام، فجميع أولئك كانت دعوتهم لقيم الإسلام «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... »(8) معيارا قيميا وأخلاقيا ليكون الإنسان مستأمنا على ما أعطاه الله لتحقيق وظيفته السّامية. 
الهوامش
(1) سورة الأنفال  - الآية 60
(2) حديث شريف، متفق عليه
(3) حديث شريف، متفق عليه
(4) سورة البقرة - الآية 64
(5) انظر: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي ص: 84
(6) حديث شريف، متفق عليه
(7) ابن تيمية مجموع الفتاوى ( 28/152)
(8) سورة آل عمران - الآية 19