خواطر

بقلم
علي عبيد
حول إمكانيّة الإصلاح في مجتمعاتنا العربيّة تجربة العلامة الصفاقسي علي النوري نموذجا
 المقدّمة
أحيت ثورات الربيع العربي الأمل في إصلاح مجتمعاتنا وبعثتها من جديد،فانبرى دعاة الإصلاح يبثّون  الأمل على مختلف المنابر ولكن بمجرّد تعثّر تلك الثورات خفتت شعارات الأمل وبرزت موجة جديدة من الخطاب المحبط بعد عجز النخب الجديدة التي أتت بها الثورات عن تطبيق برامجها الإصلاحيّة وفشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق أدنى البرامج التي شُكّلت من أجلها من جهة وعودة رموز الأنظمة السابقة إلى المشهد السياسي سواء عبر صناديق الإقتراع أو عبر الإنقلاب أو عبر التسوية. فتكونت قناعة لدى المواطن العربي أن لا سبيل للإصلاح وأن الانهيار مصير كافّة أنظمتنا وكادت الشعوب تفقد الثّقة تماما في حكّامها ونخبها. لكنّ قلّة - وأنا أحد أطرافها - رغم مشاركتها أبناء الوطن جزء من مشاعر الإحباط ورغم تقديرها لتخوّفهم وضعف ثقتهم في النخب الماسكة بامور البلاد، فهي مازالت تأمل خيرا وتدعو الجميع إلى الإعتبار بتجارب شّعوب لم تتواكل على حكّامها واعتمدت على امكانياتها التي لا تكاد تذكر وقامت بمحاولات إصلاحيّة من خارج السلطة (المجتمع المدني) فحقّقت نجاحا بارزا فيها رغم الظروف الصّعبة التي عايشتها. 
من بين هذه التجارب الرائدة التجربة الإصلاحيّة التي قادها الشيخ العلاّمة «علي النّوري» (1)، انطلاقا من مسقط رأسه مدينة صفاقس التونسيّة بمعيّة سكّان المدينة وأحوازها من دون الاستعانة بالحكّام بل كثيرا ما كان يصطدم بهم ويتعرّض لمضايقاتهم، ورغم ذلك حقّق نجاحا باهرا تاركا بصمته في كلّ مجالات الحياة.
وقد اشتغل الشيخ علي النّوري في عمليّته الإصلاحيّة على ثلاث مسائل أساسيّة: مواجهة المخاطر الخارجيّة، المسألة الاقتصادية والاجتماعية عبر محاربة الفقر والجهل والمسألة الدّينيّة من خلال نشر القيم الدّينيّة ومحاربة البدع. ولقد واجه الشّيخ صحبة من شاركوه هذه العمليّة تحدّيات أقل ما يقال فيها أنها أكبر من التحدّيات التي تواجهها اليوم الأقطار العربيّة بصفة عامّة والبلاد التونسية بصفة خاصّة.
(أوّلا) مواجهة التحدّي الخارجي
كانت مدينة صفاقس وما جاورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر هدفا لأطماع القراصنة المالطيين وفرسان يوحنّا الذين كانوا يغيرون على سكّانها ويأسرون أبناءها وكان أسطول الأيالة التونسيّة في ذلك الوقت ضعيفا غير قادر على دفع هذا العدوان. فلمّا رجع الشيخ علي النّوري من القاهرة إلى مسقط رأسه (2) وعاين ما يحدث لأبناء مدينته، رفض هذا الوضع وقرّر القيام بعمليّة إصلاحيّة يهدف من خلالها مواجهة التحدّي الخارجي، فكوّن من ماله الخاصّ ورشات لصناعة السّفن تشتغل ليلا نهارا ودعا النّاس إلى الجهاد وأفتى في ذلك فناصره الأهالي ولبّوا دعوته وساعدوه في تنفيذ مخطّطه لما عرفوا عنه من صدق وإخلاص وعلم. وكانت النتيجة مذهلة بجميع المقاييس حيث انقلبت موازين القوّة على سواحل مدينة صفاقس  وقام الأهالي بدحر القراصنة في كلّ محاولة للإغارة على أهل المدينة وكبدوهم الخسائر في العتاد والعباد. ومن نتائج هذه العمليّة الإصلاحيّة خلقُ ثقافة المقاومة لدى أهالي صفاقس، ثقافة عاينها الفرنسيّون جيّدا عند احتلالهم المدينة بعد معاهدة باردوالمشؤومة. فقد واجه الاحتلال الفرنسي مقاومة باسلة من أهالي المدينة لمدّة سنتين كاملتين قدّموا فيها عددا كبيرا من الشّهداء مقابل خسائر فادحة للعدوّ. 
(ثانيا) مواجهة الفقر والجهل
بذل الشيخ «علي النّوري» مجهودا جبّارا لمواجهة الفقر والجهل ونشر العلم والمعرفة فاعتمد في حربه على الفقرعلى مقاربة تنمويّة لانجاح المشاريع التي تمّ تأسيسها، شعارها «القراض والشّراكة» نجح بفضلها في تطوير الحركة الاقتصاديّة والعلميّة حيث تطوّر النّشاط البحري في مجالي الصيّد ومواجهة العدوان الخارجي، وازدهر النّشاط الفلاحي والتّجاري داخل المدينة وخارجها.
أمّا في  حربه على الجهل، فقد حوّل الشيخ «علي النوري» مسكن والده إلى مؤسسة تعليميّة سدّت فراغا علميّا هائلا كان موجودا قبل تأسيسها، وقد ضمّت «الزاوية النّوريّة» عددا كبيرا من التّلاميذ من أبناء الجهة ومن خارجها وكان الشّيخ عليّ النّـوريُّ يحرصُ على طهارة قلوب تلاميذه وسلامة صدورهم ويُـرَبِّيهم على  ما جاء في كتاب الله ويدعوهم إلى التخلّي عن الرّذائل والتحلّي بالفضائل. وقد ذكرت المصادر والمراجع(3) كثيرا من تلاميذ«الزاوية النّوريّة» وقد توزّعوا في عدّة مدن في القطر التّونسي كالقيروان وسوسة والمهديّة ومساكن وقابس وغيرها لنشر العلم والمعرفة ومحاربة الجهل المهيمن على المجتمع آنذاك. وقد بلغ إشعاع «الزاوية النّوريّة» مدنا عديدة خارج القطر التونسي في ليبيا والجزائر والمغرب وغيرها. ولضمان نجاح مشروعه الإصلاحي في مقاومة الجهل واستمراره في الزّمن، أسّس الشيخ مكتبة زاخرة بالكتب احتوت كتبا من تأليفه (4) وكتبا جلب بعضها معه من مصر و كلّف من يشتري بعضها الآخر من المشرق. 
(ثالثا) مواجهة ضعف الوازع الدّيني ومحاربة البدع
لم يهتمّ الشيخ «علي النّوري» بالصّراعات المتعددّة على الحكم في تونس (5) واجتنب التّعامل مع مختلف الأطراف المتصارعة وركّز في نشاطه متنوّع الاختصاصات على تعميق تواصله مع أبناء مدينته والقيام بمحاولة النهوض بوعيهم الدّيني وإصلاحه إيمانا منه بأنّ عمليّة الإصلاح الشّامل لا تتحقّق في مجتمع تسيطر عليه الخرافة والبدع.
اختار الشيخ التركيز على تقوية الوازع الدّيني لدى النّاس وتهذيب السّلوك داخل المجتمع والرّقي بالنّفوس من خلال دروسه التعليميّة ومواعظه التي كان يقدّمها باستمرار في «الزاوية النورية». كما ركّز على محاربة البدع كبدعة بناء القباب على أضرحة العلماء والصّالحين وبناء المقامات حول الأضرحة وأوصى بعدم بناء قبّة على ضريحه كما أوصى بأن يدفن في مقبرة خارج سور المدينة بعيدا عن زاويته. ولعلّ حرص الشيخ علي النّوري على إبراز القيمة العلميّة للعلماء مقابل عدم تمييز قبورهم بقباب ومقامات بعد موتهم جعل أهالي صفاقس لا يكتبون كلمة سيدي على باب جامع اللخمي واكتفوا بذكر اسم العالم الجليل أبي الحسن اللخمي. 
الهوامش
(1) أبو الحسن علي النوري الصفاقسي (1053هـ — 1118هـ = 1643م — 1706م) هو العلامة المقرئ الفقيه المالكي الأشعري الصوفي الشيخ أبو الحسن علي بن سالم بن محمد بن سالم بن سعيد النوري ولقبه الأصلي شطورو ثم اشتهر بالنوري وهو الجد الأكبر ومؤسس عائلة النوري بصفاقس.
(2) أنهى الشيخ علي النوري دراسته بجامع الأزهر بالقاهرة وتحصّل على عدّة إجازات ورجع إلى مسقط رأسه مدينة صفاقس حوالي عام 1076 هجري - 1665 ميلادي.
(3) من المراجع الهامّة التي تتحدّث عن سيرة الشيخ علي النّوري وإنجازاته نذكر:
- يونس يعيش، الشيخ أبو الحسن علي النّوري الصفاقسي،دار صامد للنشر والتوزيع،ط.1 - أفريل 2017
- يونس يعيش، علي النّوري الصفاقسي، عصره، حياته وآثاره، مكتبة علاء الدّين بصفاقس ،ط.1 - أفريل 2007.
 (4) من مؤلفات الشيخ علي النّوري: «تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عمّا يقع لهم من الخطإ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين»، «غيث النفع في القراءات السبع»، «أسئلة في القراءات»، «مقدّمة في الفقه والتوحيد والتصوّف»، «المناسك والتعريف بالكتاب»، «رسائل في تحريم الدخان»، «العقيدة النوريّة في اعتقاد الأيمّة الأشعريّة»، «رسالة في السماع»،...الخ
 (5) عاش الشيخ علي النوري في النصف الثاني من القرن السابع عشر ميلادي في عهد الدولة المرادية التي اعتمدت على العنصر العسكري وكانت الصراعات متتالية بين مختلف البايات ولعلّ الظروف السياسية التي اتّسمت بالاضطرابات هي التي وجّهت تفكير الشيخ على النوري نحو الإصلاح والتربية وعدم الاصطفاف مع طرف ضدّ الآخر.