بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
الممكن القابع بين الفكرة ووهم الفكرة
 إنّ كلّ من يعيش في التّراث ويستمدّ منه (عن طريق الدّراسة مثلا) مهمّة ما ويرى رسالته في تنفيذها ويتمعّن بشكل مخالف لما هو مطلوب في حالنا، لن يوضّح إلاّ ما يملك، وما هو متيّقن منه. لذلك لم يعد ضروريّا العود بكيفيّة تاريخيّة صريحة إلى السّابقين طالما أنّنا نحملهم في وعينا حتّى وإن لم نعرف ذلك على نحو صريح ومباشر. لذلك كان من الضّروري أن يأتي مفكّر يدرك أنّ امتلاك المهمّة الفكريّة عن طريق تبنّي التّراث، من المدرسة أو من دراسة الكتب، لا يعني بعد المعرفة البداهيّة بإمكانيّة المهمّة، مفكّر يدرك أنّ الفكرة كمشروع شخصي تقوم على المسؤوليّة الشّخصيّة، ولا يمكن أن تتحقّق إلاّ بفضل فعل شخصيّ مسؤول. فإذا ما توفّّرت هذه الشّروط الضّرورية كان ميلاد فكر حيّ أمرا ممكنا به وحده. ذلك أنّ الوعي بحقيقة المهمّة الفكريّة لا يتأتّى من مواقف تبنّي التّراث مهما كانت قيمته، بل من المواقف الشّخصيّة المسؤولة التي لا تقنع باحتلال موقع نقدي فوق التّقاليد التّاريخية التي درج عليها السّابقون.
لا يتاح لنا التّفكير الممكن أو إمكانيّة الفكرة دون وعي بوحدة المعنى الغائي للتّفكير وبصور الانزياح عنه أو صور الاقتراب منه. ذلك أنّ هذه الغائيّة التي توجّه مسار التّفكير لا يمكنها أن تفعّل إلا بتدخّلنا نحن في التّاريخ الذي نشارك فيه بحرّيتنا حتى نجعل منها غائيّة حقيقيّة، أي حركة تاريخيّة تكتمل فيها فعليّا فكرة غائية ممتدّة في اشتراك بين الذّوات، بالرّغم ممّا قد يشوبها من تحريفات تزيدها غموضا. لذلك ينبغي على كلّ امرئ أن يسعى إلى أن يكون في كلّ اتجاه «مجرّبا»، و«منظّرا»، على قدر الإمكان. ووفقا لهذه الفكرة نقول: إنّ كلّ إنسان يسعى ويميل ويتطلّع، إنّما هو بالضّرورة «مفكّر» بأشدّ معاني هذه الكلمة أصالة.
لكن في الواقع قلّما يطرح السّؤال حول ما نعنيه بالإمكان أو بالممكن، بالرّغم من أساسيّة هذا المفهوم في بلورة وجهة الاستئناف النّظري لفعل التّفكير. لذلك ينبغي علينا أن نتساءل عمّا إذا كان مفهوم الإمكانية الذي نستخدمه هو المفهوم التقليدي القائم على التّهوي بين الممكن والمتصوّر أم هو المفهوم القائم على مقابلة الممكن التّصوري بالممكن الفعلي؟ وإذا كان التّجديد في المباحث الفكريّة يمتدّ إلى عدّة حقول، فإنّ أهمّها على ما يبدو هو التّجديد الفكري للمسائل الزّمنية والمكانيّة والإدراك والوجدانيّة والعالم... ولكن هل يمكننا من ناحية أخرى أن نتكلّم عن تفكير في الإمكانيّة يقطع مع التّقاليد النّقدية التي انشدّت إلى رسم الحدود الفاصلة بين الممكن والمتصوّر والفعلي؟ فمن بين رهانات هذا السؤال المترامي الأطراف يتنزّل الرّهان الأوّل في سلّم تاريخ الأفكار: أي هل عدّل الفهم التّقليدي لمفهوم الإمكان؟ ذلك أنّ كسر التّوازن بين الإمكانيّة والتّصورية أو بين الممكن والمتصوّر يعني المجاوزة النّهائية للانفصام بين التّجربة والممكن. وحين نحاول إعادة بناء مفهوم الإمكان، فإنّ الرّهان أيضا هو بيان وجود تجربة الإمكانيات أو بيان أن الممكن هو ممكن تجربة. وتكمن فائدة مفهوم التّجربة في الارتباط بأفق التّعالق بتفادي التّمييز بين الممكن بالنّسبة إلى الذّات والممكن بالنّسبة إلى العالم. ذلك أنّ المقابلة الثّابتة بين الذّات والعالم تحول دون تصوّر تفاعلهما وترابطهما: فكيف يمكننا تحقيق هذه الممكنات في العالم؟ 
لا مراء في أنّ أوّل رهان لنا هو تجاوز التّقابل بين الإمكان والفعلي إلى التّقابل في الممكن بين المثالي والواقعي الفعلي، وذلك من خلال تفصيل القول في الممكن المثالي والممكن الواقعي. لكن قبل هذه المجاوزة كان علينا أن نقوم بقلب الألويّة النظريّة للفعلي. ولا ينبغي لهذا القلب أن يفهم إلاّ كتمهيد لمجاوزة هذا التّقابل ذاته بين الممكن والفعلي بالنّظر إلى تساكنهما أو انتمائهما الحركي المشترك، سواء باعتباره تشابكا أو طفوا. ومن ثمّ سيكون مفهوم الإمكان دالاّ على ما بين الجهات بوصفه نتيجة وافتراضا أقصى لمنطق الجهة الذي يقتضي في النّهاية اقتراح مفهوم جديد للفعلي لاجتياز الأسئلة العويصة حول العلاقات بين الفعلي الواقعي ووظيفة الرّهان الحرّ لتقوّم إمكان موضوع ما. وهي الأسئلة التي تدور حول مشكل معرفة ما إذا كانت موضوعات المخيلة ستصير كائنات قابلة للتّجربة؟ وما إذا كانت الفعليّات بما هي موضوعات واقعيّة ستصير إمكانات خالصة؟ وفي النّهاية معرفة ما إذا كانت موضوعات هذه المخيلة ستصير موضوعات ممكنة؟  
تعدّ نقطة الانطلاق أو الإحداثية الأولى هي الرّابط بين الإمكانيّة والسّالبيّة. فقد يبدو في لحظة أولى أنّ الإمكان يتّجه إلى إمكان اللاّوجود. لذلك تبدو هذه النّظرة السّالبة للممكن حجّة على أنّ فكرة الإمكان هي أيضا فكرة التّناهي، طالما أنّ الرّابط بين الإمكان والسّلب كما هو بين الإمكان والتّناهي يجعلنا نواجه باستمرار خلفيته: أي الحرّية بوصفها حرّية متناهية. لذلك تصير فكرة التّناهي والإمكان أيضا فكرة الحرّية أو بمعنى أدق فكرة الرّهان الحرّ. وهو المعنى الذي تحيل إليه عبارة يقظة الوعي في الحديث عن الإمكان الماهوي اللاّمشروط للقدرة على التّصير وعيا يقظا. وعي يستيقظ للكينونة التي يكوّنها بالتّعالق الذي له مع موضوعاته على نحو يعكس له كينونته ويكشفها. وتبدو هذه القدرة على اليقظة بمثابة الاستعارة للنّشاط الخالص الذي يخفي انقطاع حالات نوم الوعي بالذّات. ويفترض انقطاع حالات وعي يقظ تارة ونعسان تارة أخرى، الإمكان الدّائم للدّخول في اليقظة والخروج منها. وهو عين الإمكان الذي يجعل هذا الوعي قادرا على البدء والتّدشين بما له من حرّية تتيح له إمكان استئناف وحدة المسار الغائي للتّفكير والقطع مع التّحريف والتّزييف الذي شابه. ذلك أنّ الموقف المتحرّر من الأحكام المسبقة- بمعنى تعطيل التّراث الشّامل وإيقاف استعمال صلاحيته كمقدمة- كان عليه أن يواجه من جديد كلّ ما يعتبر لحدّ الآن منهجا، وأن يتقدّم عليه وبخاصّة أيضا على المناهج النّظرية- التّقنية المفيـدة جدّا التي تنتمي للرّياضيات وبقية العلوم. وهذا يعني أنّ الانفتاح على الإمكانات مشروط بالتّحرر من سجن الأحكام المسبقة وباليقظة من حالة السّبات التي تخيم عليه.فبهذه الاستعارة لليقظة، نقارب البعد البنيوي للوعي المطلق. وهي استعارة لها أسبقيّة الإقحام إلى حقل النّشاط الخالص للوعي المطلق دون افتراض الوعي بالذّات الذي تخفيه. وتعرف علاقة الإخفاء باليقظة بوصفها وحدة الزّمن المحايث للوعي، طالما أنّه بفضل نشاط الأنا الخالص يستطيع تدفّق الوعي أن يشتغل بوصفه وحدة (آنية) في كلّ مرّة يستيقظ الوعي ويبقى في حدّه الأدنى (وحدة كامنة) كلّما كان نعسانا. وهكذا تبدو وحدة التّدفق بمثابة وظيفة أصليّة ليقظة الوعي بالذّات أو كبرهنة لبنية الظواهر.
تتأتّى هذه العلاقة بين الوعي بالذاّت والعالم أو بين الذّات والموضوع من البنية المفتوحة للوعي المطلق الذي يعيد ربط «الوجود لـ» الذي للوعي بـ «وجوده في» (وهو ما تحيل إليه الدلالة القصدية للوعي). وتمثل هذه البنية الصّورة التي يكوّنها الوعي المطلق بما هو تدفّق للنّشاط الخالص أي بوصفه حياة مستقلة عن الوجود المتبدّل أو بوصفه قدرة على البدء لا قدرة على الكفّ. ذلك أنّ ماهويّة الوعي المطلق ليست شرطا لإمكانيّة العالم، بل هي شرط لإمكانيّة الوعي بالذّات في العالم، طالما كانت بنية أصليّة لتدفّق الحياة في اليقظة. 
قد يجد الميل إلى الحديث عن بناء فكرة الممكن تبريره في الحرص الشديد على تبديد المسافة بين الممكن والفعلي ونقض فكرة المرور في تمثل وجوه التعالق بينهما. ويمكننا أن نلمس هذا الحرص في حدّ الإمكانية بالنظر إلى الفعلي العيني، على أنها الصورة الفارغة للهوية مع الذات، فكل شيء ممكن، لأن هذا الشكل يمكن أن يعطى لكل مضمون بواسطة التجريد. لكن، كل شيء غيرُ ممكن أيضا، لأنه يمكن في كلّ مضمون من حيث هو عينيٌّ، أن تُدركَ التعيُّنيّةُ بوصفها تقابلا محدَّدا، ومن ثمّ بوصفها تناقضا. لهذا لا يوجد  خطاب أفرغ من ذاك الذي يتحدث عن الممكن وغير الممكن. فالممكن إذن ليس بين الأشياء بل هو فيها وإياها. لكن في الواقع لا ينبغي لنا نقد الممكن التأليفي، بل توجيه الاهتمام إلى الممكن التحليلي الذي يستحيل فيه عدم التناقض مباشرة إلى هوية. لذلك يتيح لنا القلق التأملي من العيني والمرتبط تحديدا بوضع الفعلي في الواجهة، استبعاد الإمكانية بوصفها صورة فارغة للهوية مع الذات. وعلى هذا الأساس يبدو أن عالما واحدا هو العالم الممكن، وهو هذا العالم أي عالم الحياة . أما «العوالم الأخرى الممكنة» فهي لا تعدو كونها تنويعات مثالية لهذا العالم وحسب. 
هذا العالم الممكن الوحيد الذي هو عالمنا، ليس مكوّنا في نسيجه ذاته من الرّاهنية. فوحدانيّة العالم لا تعني أنّه عالم فعلي وأنّ كل عالم آخر هو بالضّرورة خيالي، بل هي تعني أنّ هذا العالم كائن في جذر كلّ تفكير له صلة بالممكنات، وأنّه يحيط ذاته بهالة من الممكنات التي هي صفاته، والتي هي إمكان فعلي أو إمكان العالم، وأنّ هذا الكائن الفريد المدرَك وهو يتّخذ من تلقاء ذاته شكل العالم، إنّما قدره الطّبيعي أن يكون وأن يشمل كلّ ما يمكن إدراكه كممكن وأن يكون كلّ العالم. إنّ كلية عالمنا ليست وفقا لمحتواه وليست بما هو حدث وقع التحقّق منه «المدرَك»، وإنما وفقا لهيأته الخارجيّة وبنيته الأنطولوجيّة التي تشمل كلّ ممكن ويقود إليها كل ممكن.
يبدو إذن أنّ قول الممكن كان أحد أهمّ الأسباب الرّئيسية التي حملت الفكر المعاصر على استكمال ثورة حقيقيّة تقلب مفاهيم الواقعي والخيالي وتعيد النّظر في تقليد المقابلة بينهما بحثا عن أفق بكر يلبّي مقتضى التّدشين في ممارسة فعل التّفكير. لذلك يكفّ الخيالي عن أن يكون نسخة لا واقعيّة وذاتية للواقع على النّحو الذي كان عليه الأمر لدى القدامى والوسيطيّين. إنّ الاشتغال على توضيح الخيالي ليس أمرا تافها كما ظنّ الكثيرون منهم. فالخيالي هو العنصر الحيوي بالنّسبة إلى الفكر المعاصر، وهو كذلك أيضا بالنّسبة إلى كل علم ماهوي. لذلك يبدو له الخيال هو الكاشف الحقيقي للماهية، وذلك من خلال ما يتيحه من اختبار لمتغيرات لا محدودة تساعد على تحرّر اللاّمتغير الماهوي وانكشافه. 
تبيّن هذه التّفكّرات المتعلّقة بالممكنات والماهيات، أنّ بعض خصائص الواقعي لا تتبيّن أصلا بحسب حقيقتها إلاّ في مثل هذا الحضور العائم الذي تمنحه الصّور للأشياء. وحتّى إذا تحدّثنا عن بعض خصائص الواقع فلأنّ المسألة لا تتعلّق باستبعاد معنى الحضور الخالص. لكن هذه التّحليلات تبيّن أيضا أنّ هذا الحضور العائم لا يمكنه أن يكون حالة إيجابيّة تامّة، فهو يبدو من بعض الوجوه حضورا مقوّضا ويخفي تحت سطحه التّرسبي أسس بناء مركّب ومفتوح. فلا يكفي أن يكون للمدرك لحما وعظما حتّى يكون لنفسه وجودا بحسب الواقع وبحسب كلّ أبعاده، بل ينبغي التّخلي عن رسم حدود واضحة لواقعيّة متمايزة جذريا عن اللاّواقعية، أو لحضور متمايز جذريا عن الغياب أو كذلك للأفكار الأقنوميّة التي للكائنات المدركة عن هذه الكائنات ذاتها، لضرب من قبل- الكينونة العائمة تمثل مبدأها. ذلك أنّ نظرية التّغيرات المستكملة بالتّأكيد الواضح لبقاء الماهيات في أفق الحسّي تتيح لنا أن نفهم أنّ كلّ موضوع وكلّ إحساس مخترق ومحرّك بهذا الشّكل من الطّفو الذي هو المماثلة. وبالمثل إذا ذهبنا إلى نهاية التفكّر في الغير ينبغي علينا القبول بأنّه يخفي فيّ أنا وفي كلّ موضوعاتي الإدراكيّة جزءا من الغرابة التي لا تقبل الرّد، إنّه ضرب من الحضور المحبط بقدر ما هو خصب.