تاريخنا

بقلم
محمد الدرداري
صور من مشاركة المسلمين لسكان الأندلس من غير المسلمين في أعيادهم من خلال النوازل الفقهية
 إن المطّلع على الدّواوين النّوازليّة بالغرب الإسلامي؛ يقف على شواهد كثيرة تفيد بأنّ كثيرا من مسلمي الأندلس كانوا يشاركون مواطنيهم من اليهود والنّصارى في أعيادهم ومناسباتهم الدّينية، إذ على الرّغم من التّحذيرات التي أطلقها بعض المشتغلين بالفقه والفتوى، الذين أفتوا بكراهة أو حرمة المشاركة في الأعياد الدّينية لغير المسلمين(1)، إلاّ أنّ عامّة أهل الأندلس لم يلتفتوا إلى ذلك.
إنّ كتب النّوازل تطالعنا بأسماء العديد من الأعياد والمناسبات الدّينية لغير المسلمين، ومن هذه الأعياد: 
1.  ليلة «ينير» التي وصفها «الونشريسي» في المعيار بقوله: «  ليلة ينير التي يسمّونها النّاس الميلاد» (2) 
2. يوم «العنصرة» (3) والذي يعرف في المشرق باسم المهرجان (4). يقول المقرّي: «يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة (5)، الكائن في ستّ بقين من شهر يونية الشّمسي من شهورهم الرّومية» وهو أحد أعياد المسيحيين، يقام بعد خمسين يوما من عيد الفصح، وحسب زعمهم فإنّ إحياءه يأتي  بمناسبة ذكرى نزول الرّوح القدس على حوارييّ المسيح عليه السّلام (6). وقد سمّي هذا العيد بالعنصرة للنّيران والشّموع التي كانوا يشعلونها، ويلهون حولها، ولذلك حفظ  من  أمثالهم: « الكبش المصوف ما يكفز العنصرة» أي أنّ الكبش الذي عليه صوف لا يقفز فوق شعلة العنصرة، لأنّه إذا قفز فوقها احترق.
3 ـ ليلة الحجوز(7) أو الحاجوز(8). وتسمّى أيضا بليلة العجوز(9) ، وهي اللّيلة الأخيرة من كلّ سنة ميلادية، وبها « تتّصل مناسبة أخرى عرفت بخميس أبريل، وهي مناسبة دينيّة تعرف عند المسيحيّين بالجمعة العظيمة التي ترمز إلى تاريخ صلب المسيح، وكانت الصّلاة تقام في الكنائس مساء الخميس» (10). 
4 ـ فصح النّصارى (11). واشتهر عندهم  بعيد الفصح، وهو«اليوم الذي قام فيه المسيح من قبره بزعمهم»(12)  ويعد واحدا من أكبر أعياد النّصارى، «يقع بين 22 مارس و25 أفريل، ويرتبط به عدد كبير من الأعياد الأخرى، ويسبق بالصّيام الكبير الذي يدوم أربعين يوماً» (13). 
5 ـ عيد الفطر(14) أو الفطير، ويسمّى أيضا بعيد الفصح، وهو من أعياد اليهود الأساسيّة، ومدّته سبعة أيام، تبدأ من: « اليوم الخامس عشر من نيسان اليهود، وهو عيد كبير، وهو أوّل أيام الفطير السّبعة، ولا يجوز لهم فيها أكل الخمير، لأنّهم أمروا في التّوراة أن يأكلوا في هذه الأيام فطيراً، وآخر هذه الأيام الحادي والعشرين من الشّهر المذكور... وسبب ذلك أنّ بني إِسرائيل لما تخلّصوا من فرعون؛ وحصلوا في التّيه، اتفق ذلك ليلة الخامس عشر من نيسان اليهود والقمر تام الضّوء، والزّمان زمان ربيع، فأمروا بحفظ هذا اليوم، وفي آخر هذه الأيام غرق فرعون في بحر السّويس وهو بحر القلزم» (15). 
هذه إذن بعض أعياد غير المسلمين الدّينية التي ورد ذكرها في بعض النّوازل، والغالب فيها أنّ المستفتي كان يسأل عن حكم الاحتفال بها، والمشاركة في بعض العادات  التي  شاع في النّاس فعلها، وجرت بها عادتهم، وبغض النّظر عن جواب المفتي؛ فإنّ هذه النصوص ـ خاصّة في شقّها الأول المتعلّق بنصّ السّؤال ـ تعطينا صورة واقعيّة لما كان عليه حال الكثير من المسلمين الذين اعتادوا مشاركة إخوانهم من اليهود والنّصارى في هذه الاحتفالات، وتساهلوا في ذلك، رغم الأصوات المحذّرة التي كانت ترتفع من هنا أو هناك. 
وحسبما يستشفّ من هذه النّوازل، فإنّ عامّة المسلمين بالأندلس لم يجدوا حرجا في الاستعداد لها، وجعلها كأحد الأعياد الإسلاميّة، «ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة وأنواع التّحف والطّرف المثوبة لوجه الصّلة، ويترك الرّجال والنّساء أعمالهم صبيحتها تعظيما لليوم، ويعدّونه رأس السّنة» (16).   
وممّا كان يفعله الأندلسيّون في العنصرة، التّباري في سباق الخيل والفروسيّة، أمّا النّساء فكنّ يخرجن ثيابهن إلى النّدى باللّيل، ويتركن العمل في ذلك اليوم، وينقشن بيوتهن، ويجعلن ورق الكرنب والخضرة (في ثيابهن) ويغتسلن (17) ، أمّا أهل البادية فكانوا ينشرون ثيابهم في هذا اليوم، ويصمون خيولهم قبل الصّلاة (18) 
نفهم ممّا سبق؛ أنّ المسلمين من أهل الأندلس قد خصّوا هذا اليوم بمجموعة من العادات، وهي في مجموعها  تنمّ عن روح الانفتاح على الآخر،  والرّغبة في التّعايش معه، كما تحيلنا على التّنوع الثّقافي الذي ساد المجتمع الأندلسي،  وعلى الرّغم من الصّبغة الدّينية لهذه الأعياد، فإنّ الاحتفال بها صار عادة مستحكمة في حياة الأندلسييّن، رجالهم ونسائهم، كبيرهم وصغيرهم، بل إنّ الأمر تعدّى إلى طبقات الحكام والوزراء، والتّجار والشّعراء، وغيرهم من ذوي النّفوذ والسّلطة والجّاه.
وقد أفاضت كتب التّاريخ والعقائد والتّراجم وغيرها في وصف ما كان يحدث في بعض المدن من أعمال، من ذلك ما وضّحه لنا الفقيه العزفي في كتابه « الدرّ المنظّم» بقوله: «موائد نصبوها لأبنائهم ونسائهم وصنعوها، وتخيّروا فيها أصناف الفواكه وأصناف الطّرف وجمعوها، وتهادوا فيها وانتخبوها، والمدائن التي صوّروا فيها الصّور واخترعوها، ونصب ذوو اليسار نصبات في اللّبار، كما نصب أهل الحوانيت، فنضدوها، فقوم أباحوا أكلها لعيالهم وقوم منعوها، وحَلوها كالعروس لا تغلق دونها الأبواب، وفي منصتها رفعوها، وبعضهم أكل من أطرافها ثم باعوها. ولقد ذكر لنا غير واحد من المسافرين أنّ النصبة ببعض بلاد الأندلس ـ جبرها الله وآمنها ـ بلغ ثمنها سبعين دينارا، ويزيد على السّبعين، لما فيها من قناطر السّكر وأرباع الفانيد وأنواع الفواكه ومن غرائز التّمر وأعداد الزّبيب والتّين على اختلاف أنواعها وأصنافها وألوانها، وضرورة ذوات القشور من الجوز واللّوز والجلّوز والقسطل والبلّوط والصّنوبر إلى قصب السّكر....» (19) 
كما نقل لنا ابن بسّام في الذّخيرة صورا حيّة تدلّ على تجذّر هذه العادات في صفوف الأوساط الشّعبية في الأندلس، من ذلك ما حكاه عن ابن مسعود القرطبي في إحدى قصائده التي صوّر فيها ما طلبته زوجته من حاجيات عيد النيروز:
دنت ليلة النيــــروز منــــا ولم تكـــــن لترضى لنا فيها من العيش بالأدنـــــى
وقالت خجولي سر إلى السوق واحتفل ولا تبق فيها من جراديقهــــــا منـــــــا
وقف بابن نصر واحشون ثمّ قفـــــــــة من أطرف ما يحويه كي تذهب الشجنا
وجز بالفتى الجزّار واختره هابـــــــلاً بقدّ ابن فتوي أبي بكــر المضنـــــــــى
ولابد مــن أترجـــــــــة صعتريــّـــــة وإياك أن تنســـــى التّوابــــل والحنــّــا (20)
وبالعودة إلى نوازل أعياد اليهود والنّصارى، نجد أنّ المسلمين لم يقصروا جوّ الاحتفال بهذه المناسبات على عادات الطّعام والشّراب واللّهو وغير ذلك ممّا مرّ معنا قريبا، بل شاع بينهم اعتبار مناسبات النّصارى الدّينية في توقيت تعاملاتهم التّجارية بيعا وشراء (21)، وهو أمر يوحي بجوّ التّسامح الذي عاش في كنفه غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي. وبالمقابل فإنّ غير المسلمين ـ في ظلّ هذا الجوّ من التّسامح ـ لم يجدوا بدّا من إشراك إخوانهم المسلمين في هذه المناسبات بتقديمهم بعض الهدايا التي كانوا يعدّونها لاحتفالاتهم، يدل على ذلك ما سئل عنه القاضي أبو عبد الله بن الأزرق أنّ اليهود كانوا يصنعون رغائف في عيد لهم يسمّونه عيد الفطر ويهدونها لبعض جيرانهم من المسلمين (22)    
بقي أن نشير في النّهاية إلى أنّ السّلطة الإسلاميّة لم تكن تتدخّل في شيء من أمور غير المسلمين،  بل تساهلت معهم، وسمحت لهم بممارسة كافة الطّقوس التي اعتادوا عليها في أعيادهم، دون تضييق أو منع؛ بل إنّ جوّ الحرّية هذا استفاد منه  المسلمون أيضا حيث لم يتلقوا أيّ منع من هذه السّلطة في مشاركة إخوانهم لها.
الهوامش
(1) فقد سئل ابو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة ينير التي يسمونها النّاس الميلاد ويجتهدون لها في الإستعداد ويجعلونها كأحد الأعياد..... اترى ذلك أكرمك الله بدعة محرّمة لا يحلّ لمسلم أن يفعل ذلك ولا يجيب أحدا من أقاربه وأصهاره الى شيء من ذلك الطّعام الذي أعدّه لها أم هو مكروه ليس بالحرام الصّراح؟ أم مستقل؟ فأجاب : قرأت كتابك هذا ووقفت على ما عنه سألت، وكلّ ما ذكرته في كتابك فمحرّم فعله عند أهل العلم؟ المعيار ج:/ 11 ص: 151/150 النّوازل الجامعة أو نوازل الجامع ص/ 150 وسئل ابن وضّاح من قبل المعلّم محمد بن خميس عن ليلة الحجوز وما يفعله أهل بلدنا فيها. فأجاب: بأنّ ذلك مكروه وعابه عيبا شديدا. المعيار ج/ 11 ص: 293 النّوازل الجامعة أو نوازل الجامع ص/ 271 وسئل محمد بن عمر بن لبابة عمّا يفعل بالبادية يوم العنصرة من نشر الثّياب وصمّ الخيل قبل الصّلاة أسنّة أم مستحبّ أم مكروه؟ فأجاب: مجانين الحاضرة يفعلونه وهو خطأ في الدّين والأدب (المعيار ج/ 11 ص: 92  النّوازل الجامعة أو نوازل الجامع ص/ 101)
(2) المعيار ج:/ 11 ص: 150
(3) المعيار ج/ 11 ص: 92  النّوازل الجامعة أو نوازل الجامع ص/ 101
(4) نظم حكم الأمويّين ورسومهم في الأندلس، سالم بن عبد الله الخلف، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط/ 1 ج/ 1 ص: 296
(5) نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب، المقري،تح: إحسان عباس، دار صادر- بيروت،ط/ 1ج/ 3 ص:128
(6) المغرب والأندلس في عصر المرابطين، د. إبراهيم القادري بوتشيش، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ط/ 1  ص:93
(7) المعيار ج/ 11 ص:  293 النّوازل الجامعة او نوازل الجامع ص/ 271 
(8) سمّيت بذلك لأنّها تحجز بين السّنة القديمة والجديدة. أنظر: نزهة الأنظار في عجائب التّواريخ والأخبار محمود مقديش هامش رقم 89 تح:علي الزواري ومحمد محفوظ دار الغرب الاسلامي، بيروت – لبنان ط/ 1 ج/ 1 ص: 492
(9) المصدر السابق. ج/ 1 ص: 492
(10) محطّات في التّسامح بين الأديان والشّعوب بالاندلس، د. ابراهيم القادري بوتشيش، بحث منشور ضمن كتاب جماعي تحت عنوان: « الحضارة الإسلاميّة في الأندلس ومظاهر التّسامح»  النّاشر: مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات، مطبعة النّجاح الجديدةـ الدار البيضاء. ط/ 1 2003 ص: 80.
(11) نوازل البرزلي ج/3 ص: 557
(12) تاريخ ابن الوردي، زين الدين ابن الوردي، دون طبعة ولا سنة النشر ج/ 1 ص: 80
(13) تخجيل من حرف التّوراة والإنجيل، أبو البقاء الهاشمي، تح: محمود عبد الرحمن قدح، مكتبة العبيكان، الرياض، ط: 1. 1419هـ ج/ 1 ص: 310.
(14) « المعيار ج/ 11 ص: 111  النّوازل الجامعة او نوازل الجامع 118    
(15) المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل، المطبعة الحسينيّة المصريّة، ط/1 ج/ 1 ص: 88
(16) المعيار ج:/ 11 ص: 150 
(17) المعيار، ج:/ 11 ص: 151
(18) المعيار ج/ 11 ص: 92  
(19)  نقلا عن كتاب: دراسات حضاريّة في التّاريخ الأندلسي، د. محمد بشير حسن راضي العلمي، دار غيداء للنشر والتوزيع.ط/ 1ـ 2012 ص: 28/ 29.
(20) الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام. تح: إحسان عباس : الدار العربية للكتاب، ليبيا الطبعة: 1، 1981 ج/ 1ص: 562
(21) «قلت ( البُرزلي ): في المدونة لا بأس بالبيع إلى الحصاد(...) لأنّه أجل معروف،  وأمّا إلى القطاف إن كان معروفا  وقته فجائز، وإلاّ  لم يجز،  وأمّا النيروز والمهرجان وفصح النّصارى  وصومهم والميلاد  فالبيع إليه جائز إن كان معروفا» جامع مسائل الأحكام، 3 / 557
(22) المعيار ج/ 11 ص: 111 النّوازل الجامعة او نوازل الجامع  ص:118