نقاط على الحروف

بقلم
عبد الله البوعلاوي
معجزة الإسراء والمعراج؛ وتجاوز العقل النسبي
 يضعنا الحديث عن معجزة «الإسراء والمعراج» أمام خاصّية علميّة وظاهرة كونيّة حدثت لمحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي اخترق جسده المكان، حيث أُسري به من بيت الله الحرام «مكّة» إلى بيت المقدس، ثم أعرج به من المسجد الأقصى إلى السّماء السّابعة.
إنّ الذي ننبّه إليه أنّ المسافة بين الأرض والشّمس بحوالي 150مليون كلم، والمسافة بين الأرض والسّماء تبلغ مسيرة 500عام، ولم يحدّد النّبي صلّى الله عليه وسلّم السّرعة، أهي سرعة الإنسان، أم سرعة الحصان، أو الطّائر، أو سرعة الرّيح أم سرعة الضّوء،  ليبقى كلامه إعجازا ومختبرا للبحث على ممرّ السّنين وأفهام الباحثين»[1] ، لكنّ الذي يعنينا من هذا كلّه قدرة الله تعالى في التّدخل في السّنن الكونية، ورعاية جسد النّبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يحتاج للعناية في نظر العلوم الفيزيائيّة إلى خاصّية أخرى غير خاصّية البشر لاختراق الفضاء بسرعة تفوق الخيال، فيصل الجسد النّبوي على مركبة تسمّى البُراق إلى السّماء عند سدرة المنتهى ثم يُوحى إليه، فيَعِي ما يوحى إليه من أمر الله تعالى. فكلّ من المكان والزّمان قد توقّفا حيث تدخّلت القدرة الإلهيّة ليقطع الجسد الشّريف أضعاف 500 سنة سبع مرّات مضاعفة حيث الذّهاب والإياب، ليصبح بعد ذلك بين قومه فيحدّثهم بهذه الرّحلة في يقين تامّ وقوّة في الحديث عمّا رآه من مشاهد أرضيّة ووقائع غيبيّة.
إنّ الحديث عن السّماء السّابعة وسدرة المنتهى أمر غيبيّ لا تدركه أفهام البشر بالعقل النّسبي الأرضي، لكنّ الله تعالى كشف لرسوله صلّى الله عليه وسلّم الغطاء عن بعض أموره وأطلعه عن عالم المستقبل، يقول الله تعالى: «فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ» [2] .
لم تكن معجزة «الإسراء والمعراج» بِدْعًا من المعجزات، فقد تعدّدت المعجزات على يد الأنبياء والمرسلين، «وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ»[3] ، وليس أكبر من معجزة القرآن الكريم التي أوتيها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحدّى الله بها البشريّة بأن يأتوا بمثلها، ثم إنّه سبحانه كتب لها الخلود والحفظ، يقول الله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [4] .
نريد أن نُثبت أنّ معجزة «الإسراء والمعراج» وقعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرّوح والجسد معا، لقوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا»[5]، ولقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لمّا كان ليلة أُسري بي ثمّ أصبحت بمكّة قطعت بأمري  وعرفت أنّ الناس مكذّبي، فقعدت معتزلا حزينا، فمرّ بي عدوّ الله أبو جهل، فجاء حتّى جلس إليه فقال  له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: نعم، قال: ما هو. قال: إنّي أُسْري بي اللّيلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثمّ أصبحت بين أظهُرِنا؟ قال نعم. قال: فلم ير أن يكذّبه مخافة أن يجحد ما قال إن دعا قومه، قال: إن دعوت قومك لك أن تحدّثهم؟ قال: نعم. قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّ، قال: فانفضّت إليه المجالس، فجاؤوا حتّى جلسوا إليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني، فحدثتهم، قال فمن مصفّق ومن واضع يده على رأسه متعجّبا، وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد قال: فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد، قال النّبي صلّى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت لهم، قال: فما زلت أنعت حتّى التبس عليّ بعض النّعت، فجيء بالمسجد حتّى وضع فنعتّه وأنا أنظر إليه، قال: فقال القوم: أمّا النّعت فقد أصاب»[6]. 
لقد قضى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عشرَ سنين وهو يدعو قبائل قريش، ولم يستجب لدعوته إلاّ القليل من النّاس، وتعرّض هو وأصحابُه للتّضييق والسّخرية والازدراء، ولَقوا من أنواع العذاب فصبروا على ما أُوذُوا ليَقينهم بوعد الله لهم بالنّصر والتّمكين يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»[7]. ويقول سبحانه: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»[8] ، والله تعالى ينصر عباده المؤمنين، وهو وَعْدٌ مُحَقَّقٌ. 
والله تعالى لن يترك عباده كلّما اشتد بهم الابتلاء وعظُم بهم الكرْبُ، فيُؤازِرُهم وينصرُهم ويشفِ صدورَهم. والنّصر رهين بالولاء والامتثال الكامل لله تعالى لكلّ ما يأمر وينهى، ومن كان مع الله كان الله معه في حال سرّائه وضرّائه. ثمّ جاء العام العاشر من البعثة عام الحزن الذي فَقَد فيه صلّى الله عليه وسلّم عمَّه أبا طالب الذي كان يدفع عنه أذى قريش، ثم موتُ خديجة رضي الله عنها التي كانت تقف إلى جانبه في أشدّ المواقف، فسُمِّي بعام الحزن، فضاقت مكّة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقَلَّ فيها النّاصر، ثم خرج إلى الطّائف التي رَمتْه هي الأخرى بأقبح الشّتائم وآذتْهُ وأغرت به سفهاءها فرموه بالحجارة. وخرج منها محزونا حتّى وصل قرن الثّعالب فأخذ يناجي ربّه، وعاد إلى مكّة فلم يستطع دخولها إلاّ في جوار المطعم بنِ عدي وهو رجل مشرك. في ظلّ هذه الابتلاءات المتتالية يشاء الله تعالى أن يُعَوِّض عن رسوله فيَمُنُّ عليه برحلة الإسراء والمعراج التي لم يحْضَ بها قبله نبيّ مرسل، وكذلك يمنّ الله تعالى على عباده بالفرج بعد الابتلاء، يقول الله تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» [9] .
لماذا يستبعد النّاس حادثة الإسراء والمعراج على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المسدّد من قِبَلِ الله تعالى صاحب العلم المطلق، الذي يقول للشّيء كن فيكون، والذي خلق الأكوان والعوالم المختلفة؟ ونصدق من أخبار العلم النّسبي عن اتّساع الكون وعن ملايين النّجوم، وعدد الكواكب والمجرّات والمسافات فيما بينها وجريان الأفلاك في مداراتها وسرعتها، حيث تختلف النّظريات في «إثبات حقيقة الكون بين الرّؤية التلقائيّة التي تعتقد في كون المصادفة أنتجت الكون، وبين أزليّة المادّة في إنكار الله» [10] . 
إنّنا أمام حقيقة تتجاوز الحقيقة العلميّة «معجزة الإسراء والمعراج» بجسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروحه، والتي تعتبر خرقا للقوانين الفيزيائيّة والرّياضياتيّة، لكنّ صاحب هذه القوانين وخالقها ومنظِّمُ قواعدها، يملك القدرة على تجاوزها. فالسّنن الكونية تحدث بنظام معين، وتسير وفق قوانين لا تتغير ولا تتبدّل، محكومة بالعلّة الفاعلة فيه، وهي «الله خالق العلّة» و«الفكر مصدر الفعل، وآلته العقل، وموضوعه ما في الكون، والفكر عمليّة نظر في الكون واستنباط السّنن التي تسير الأمور عليها»[11] ، لكنّ المعجزات على  كثرتها تفوق السّنن الكونيّة، فتفقد وظيفتها أمام القدرة الإلهيّة.
لم تكن معجزة «الإسراء والمعراج» بِدعًا من معجزات الأنبياء، فقد نجى اللهُ تعالى إبراهيمَ عليه السلام من نار النمرود الملتهبة، وأخرج النّاقة من الصّخرة إلى قوم ثمود، ومنح عيسى عليه السّلام القدرة على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ورفع الطّور فوق رؤوس بني إسرائيل على عهد موسى عليه السّلام رسوله وكليمه، وأيّده بمعجزة العصا، وأكرم محمدًا صلّى الله عليه وسلّم بمعجزة القرآن الخالدة، إلى معجزات أخرى، ثم كيف نستبعد عن الله قدرته على إسرائه ومعراجه برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقضيّة إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصّحابة عن عالم الغيب، دون الإخبار عن عالم المادّة؛ عالم الشّهادة، عالم الإنسان.
إنّ الذين يستدلّون ببعض الآيات على عدم حدوث «الإسراء والمعراج»، في كون كفّار قريش سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم مرّات بأن يأتي بمعجزات، بأن  قالوا: «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا» [12] ، إلى غيرها من الآيات المنصوص عليها في كتاب الله، وغفل هؤلاء أنّ القرآن الكريم لم ينزل حسب ترتيب السّور كما هو في المصحف، واستبعاد حدوث «الإسراء والمعراج» كحدث مادّي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليس له أي دليل أو حجّة على إنكاره لقول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» [13] ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه [14] . 
وإذا كان الحال كذلك أو الادّعاء بعدم حدوث هذه المعجزة،  فمن باب أولى عدم إدراج سورة الإسراء وسورة النّجم في القرآن الكريم، أمّا القول بالسّرية في حدث «الإسراء والمعراج»، فكثرة الوقائع من السّنن الكونيّة تحدث في غيبة قدرة العقل على إدراكها، يقول الله تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ»[15] ، ويقول الله تعالى: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»[16]، وستبقى المعجزات التي أيّد الله بها أنبياءه تتجاوز السّنن الكونية، لتؤكدَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ مطلقة، وَأَنَّ اللهَ لا يعجزه شيء ولا يمنعه، وَمَا نَوامِيس الكونِ وسننه إِلاّ مِن خلقه وَتدبِيرهِ وتقديره، تجري إلى أجل مسمى كما شاء ويعطلّها متى شاء، سبحانه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (*) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [17] . 
الهوامش
(1) للمزيد من المعرفة والتدقيق انظر موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، الدكتور عبد الدائم الكحيل،WWW.kaheel7.com 
(2) سورة النجم   الآية 10
(3) سورة الأنعام الآية 33
(4) سورة الحجر الآية 9
(5) سورة الإسراء  الآية 1
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام احمد بن علي بن حجر العسقلاني، 8/391-392، تصحيح وتحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار المعرفة ، بيروت لبنان
(7) محمد الآية7
(8) الروم الآية 6
(9) سورة العنكبوت الآية 2
(10) أنظر حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمد فتح الله كولن، ص: 72، المترجم أورخان محمد علي، دار الجيل للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الرابعة، 1430ه/2009م
(11) العمل قدرة وإرادة، جودت سعيد، ص: 50، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الثانية،1414هـ/1992م
(12) سورة الإسراء الآية 93
(13) سورة الإسراء  الآية 1
(14) سبق تخريجه انظر الهامش (6)
(15) سورة السجدة  الآية5 
(16) سورة القمر الآية 50
(17) سورة يس الآيتان 82 و 83