همسة

بقلم
مراد العربي
متى نعدّل البوصلة؟
 أثارت مشروعيّة حكم المستبدّ المستنير جدلاً شهيرًا في تاريخ الفكر بين «فولتار» من جهة، الذي يرى أن الشّعوب تحتاج أحيانًا دكتاتورًا لتربيتها وإصلاح شؤونها، ومن جهة أخرى «روسّو» الذي يعلي من قيمة حريّة الإنسان، فلا معنى عنده لأيّ تغيير يتمّ بالإكراه، ويوافقه «كوندورسيه»، أحد رموز الثورة الفرنسيّة، الذي كتب، وهو متخفٍّ عن الشُّرطة، مخطوطا يعتبر من أوّل ما كُتب في فلسفة التّاريخ بعد ابن خلدون، سمّاه «المراحل المتعاقبة لتقدم الفكر البشري»(1)، حلُم فيه بمستقبل تنعم فيه الشّعوب بالعدل والمساواة وتكتسب البشريّة فيه رقيّا ماديا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا...
التّاريخ الأوروبّي نصر «روسّو» ولم يخيّب رجاء  «كوندورسيه» بما أنّ أغلب دول القارّة العجوز التحقت بفرنسا وأقرّت أنّ الشّعب هو مصدر السّلطة، وليس الكنيسة أو الوراثة، وصارت الدّيمقراطيّة والحرّيات مسلّمة عندها وتقليدا راسخا...
أمّا في العالم الإسلامي فكان المفترض أنّ الجدل محسوم...بما أنّ القرآن يُعلي من قيمة الشّورى، ويذكر مرارًا قصّة النبيّ موسى وصراعه مع المستبدّ (فرعون) الذي كان يعضده رأس المال (قارون) والتّقنية (هامان) ومزيّفو الوعي (السّحرة)...
لكنّ فقه الإستبداد فرض نفسه تدريجيًّا بداية من العصر الأمويّ حتّى صارت طاعة المتغلّب محلّ إجماع، وحُبّرت الفتاوى التي تُدين المعارضين وتحرّم النّيل من مقام بغلة السّلطان ... ثمّ اختلط بعد ذلك الإستبداد الدّاخلي بالإستعمار والهيمنة الخارجيّة، فاكتلمت حلقة انحطاط المسلمين وارتكاسهم، ممّا جعل مهمّة مصلحي القرن التّاسع عشر تحرير شعوبهم من الأمرين معًا. وفعلاً نشأت حركة الإصلاح مع «عبد الرحمان الكواكبي» و«عبد العزيز الثّعالبـــي» و«علال الفاســي» وغيرهم وأفضت إلى تراكــم الإنجـــازات،الإستقـــلال أوّلاً، ثمّ مكاسب اجتماعيّة متنوّعة، وأخيرًا، في وطن «ابن خلدون» فقط، الدّيمقراطيّــة (في بعدهـــا السّياســـي على الأقلّ).
هذا الإسثناء التّونسي لم يرُق لبعض مدمني الإحباط والتّشاؤم الذين استظرف بعضهم الاستهزاء بالبرويطة التي مرّ بها الشّعب التونسي إلى الديمقراطيّة، وأعادونا إلى مربّع «فولتار» مطالبين بانتداب مستبدٍّ جديد، ولو لفترة وجيزة، تعود فيها الرّعاية الموصولة والآلام المكتومة...
فهل دور المثقف هو البكاء على أطلال الدّكتاتور والمراء في نقاشات حُسم أمرُها أم أنّ دوره هو تثمين المكاسب الماضية والتّفكير في رهانات المستقبل ؟
إنّ رهان تونس اليوم، بالإجماع، اقتصادي بالدّرجة الأولى...فنمط الإقتصاد الذي انتصر في أغلب أنحاء العالـــم والقائــم على الخوْصصـة والماركتينغ Marketing وهيْمنة البنوك يطــرح أسئلـــة هامــة لم تكـــن في حسبــان منظّري الحداثـــة ويهـــدّد جديّــا بعض مكاسبها، حيث تناقصت فرص التّشغيل بسبب المكننة وإغراق السّوق ببضائع مستوردة، وارتفعت تكلفة التعليــم بالتّوازي مع تدنّي جودته. أمّا الصّحـــة فقد وجدت المصحّــات الخاصّة وشركـــات الأدويـــة في معاناة الإنسان ومخاوفه مجالا خصبا للتّسويق والرّبح السّهل...كلّ هذا مع تراجع دور الدّولة بصفة غير مدروسة  يجعل عدد المهمّشين في مجتمعنا يُنذر بعواقب وخيمة على المدى المتوسّط.
إنّ المعرفة أمانة يحملها المثقّف كما يحمل غيره من المهنّيّين أمانة مهنته.. وتتأكّد أهميّة حمل الأمانة في عصر وفّرت فيه تقنيات الاتّصال وسائل ناجعة لتزييف الوعي، واستنزفت فيه ثروات الأرض واعتدِيَ على توازنها البيئي حتّى كادت تنوء بما تحمل... 
فما أحوجنا إلى مفكّرين يعدّلون البوصلة خاصّة في مجتمع تعلو فيه من جهة أصوات سلفيّة لا ترى في المستقبل غير إمكانيّة تكرار للماضي، ومن جهة أخرى أصوات لا ترى لنا مستقبلاً إلاّ في تقليد تقدّمٍ غربي، النّصيب الأكبر فيه لحسابات «قارون» وليس لأحلام «كوندورسيه»...
الهوامش:
(1) Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit humain