قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصّة يوسف عليه السّلام (7) يوسف يحتفل بعيد إلتئام الشمل العائلي
 يأذن مدبّر الأمر كلّه سبحانه بتحقّق رؤيا طفل صغير ذات يوم قبل عقود في أرض فلسطين. يأذن بأن تأتي كفلق الصّبح في مصر. ترى هل نسي الصّبي رؤياه؟ أبدا. دعنا نعود إلى الخلف قليلا. كشف يوسف عن هويّته لأوّل مرّة لإخوته الذين يدخلون عليه للمرّة الثّالثة وغفر لهم وحمّلهم قميصه يلقونه على وجه أبيه فيكون بصيرا. مؤكّد أنّ كلّ هذا بإذن من الله لنبيه يوسف عليه السّلام ولذلك لم يشفع كلامه بمشيئة الله سبحانه وبمثل ذلك وجد أبوه يعقوب ريح يوسف وهو يمخر عباب الأثير وبينه وبين صاحب الرّيح مئات الأميال تقطعها الإبل المحمّلة بالميرة. إلتحم الرّيح بالرّيح قبل إلتحام الجسم بالجسم. وقبل إلتئام شمل العائلة يلتئم ما هو خير من ذلك أي انبساط التّغافر بين أعضائها، فيوسف غفر لإخوته عندما استغفروه والوالد الشّيخ الكبير يغفر لإبنائه والله الغفور الرّحيم من فوقهم جميعا يعفو عنهم جميعا ويجمع شملهم. إنّه يوم العيد الأكبر يوم دخلت العائلة بأسرها على يوسف وأخيه للمرّة الرّابعة والأخيرة. أكرم يوسف أبويه برفعهما على العرش وخرّوا له جميعا سجّدا ولهجت الألسنة بالحمد والثّناء لصاحب الحمد والثّناء الذي أخرج يوسف من السّجن وجاء له بأهله من مكان بعيد ثم طفق يوسف يختم السّورة التي تحمل اسمه وتنزّلت علينا نحن اليوم ـ بدعاء خاشع يعتصر الأفئدة، فتهمي به الدّموع من مآقيها ثم تطوى القصّة بخطاب موجّه إلى القلب الذي نزلت عليه تثبّته وتذكّره بما لاقى أخوه يوسف من قبل وتملّكه بعض العبر أن تعالج هذه القصّة وغيرها ـ وهي ثلث الكتاب كلّه ـ بما تعالج به القصّة البشريّة : سلوى تروّح على النّفوس و«تقتل» الوقت وتطرد السّآمة. ذلك هو الكتاب وتلك هي قصّته. لمّا عُولج أنّه خزانة عبر في فنّ الحياة وفقه العبادة ارتفع بأهله ولمّا عُولج أنّه خزانة أحاجي طلسميّة لا ينفذ إليها إلاّ بتفاسير أشبه بالحواشي أو حواشي الحواشي أو أنّه تضرّعات على الأموات تتلى.. لمّا عُولج منّا نحن اليوم بمثل ذلك انحططنا وقلنا بلسان القائل قديما : ولو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى. هو قرآن لا يكلّم به الموتى إذ أفضوا إلى ما قدموا، بل يكلّم به الأحياء، فهل نحن أحياء؟
العبرة الأولى : سرّ القصّة قميص
لم يدهشني شيء في هذه القصّة بمثل ما أدهشني هذا القميص. ترى لم اختار ـ أو اختير له ـ يوسف قميصا يكون أمارة له عند أبيه؟ ألا يذكّر القميص إخوته بفعلتهم؟ أنّى لي أن أجمع بين : لا تثريب عليكم اليوم وإذهبوا بقميصي؟ عندما طلب فتح قضيّة المراودة من جديد وهو في السّجن تجنّب ذكر سيّدته بل اقتصر على مشهد لا يدينها بشكل مباشر : ما بال النّسوة اللاّتي قطعن أيديهن؟ قميص يوسف قصّة تصلح لأن تكون عملا فنّيا كبيرا ينفذ إلى النّاس الذين تغيّرهم الأعمال الفنّية وهم عليها عاكفون عكوفا عجيبا، أمّا ما يقوله غيرهم على المنابر وما في حكمها فلا أظنّ أنّه ينفذ إلاّ قليلا. 
قميص تلوّث بدم كذب فما أغري يعقوب بالذّئب، ثمّ قميص يكاد يلوّث بمنيّ كذب لولا أنّه رأى برهان ربّه بفؤاده أن يصبو إليهن فيجهل أو أن يخون ربّه الذي أحسن مثواه، ثم قميص يكون علامة على الطّفل المغيّب عن أبيه وهو يبحث عنه منذ عقود زادته في العين عمى ولكن ما زادته في الفؤاد إلاّ إطمئنانا إلى فالق الإصباح أنّه سيفلق بهيمة الحيل التي كيدت لإبنه فيظهر الحقّ أبلج، بل هو قميص تزدوج مهمّته في آخر مشهد من  مشاهده ليكون بلسما يشفي به الله العمى. 
سرّ القميص أنّه لباس يواري السّوءات وريش من الرّياش، ولكنّ قميص يوسف قدّ من حرير خاصّ خالص إذ هو يواري سوءات النّفوس وهي تهمّ حسدا بوأد طفل صغير لا جريرة له. قميص يوسف يحميه من منيّ كذب إذ قدّ من دبر. ذاك القميص ذاته ـ في رمزه وليس في عينه ـ الذي بدأت به معاناة يعقوب يكون سببا لإخمادها. قميص يصحب صاحبه فيكون هو المبتدأ وهو الخبر؟ قميص أدهشني وحيّرني. فهل من مدّكر معي في هذه القصّة التي لم يعطر غيرها بهذا العطر : نحن نقصّ عليك أحسن القصص؟
العبرة الثانية : حذار من تطويع الوحي الصّحيح الثّابت للإفتراضات العلميّة
جميل وصحيح معا أن يتّجه بعض النّاس إلى إستنباط الحقائق العلميّة الكونيّة من القرآن الكريم أو ممّا ثبت من السّنة وصحّ قطعا ورودا ودلالة أو يزيل الغبش الذي ران علينا قرونا طويلة أنّ العلم والإيمان عدوّان لدودان لا يلتقيان إلاّ فوق حلبة مصارعة. سوى أنّ بعضنا غالى في ذلك إلى حدّ الفتنة لفرط ما يلقى من الرّويبضات الببغاوات التي تساعد أعداء الإسلام على تسليح الجدار المقام بين الإسلام وبين العقل بإسمنت أثخن وأصلد. 
الإنطلاق هنا يجب أن يكون من هذه المسلّمة : حقائق الوحي عند ثبوتها ثبوتا قطعيّا لا يتسلّل إليه أي إحتمال وحقائق العلم عند ثبوتها بمثل ذلك ثبوتا قطعيّا لا يتسلّل إليها أي إحتمال كلاهما من مشكاة واحدة فهما صنوان شقيقان إذ أنّ ربّ الوحي سبحانه هو ربّ العلم والعقل وما يبثّانه من كشوفات ومخترعات. 
من زان الإنسان بعقل إخترق الغلاف الجوّي الأرضي فوطأ القمر وهو اليوم يكشف عن كواكب جديدة؟ الذي كرّم الإنسان بتلك الملكة العجيبة هو نفسه الذي بثّ في كونه وخلقه قوانين فزيائيّة وكيميائيّة ورياضيّة يكشف عنها الإنسان بما زوّد به من عقل وليس هو الذي يخلقها إنّما هو مكتشف وحقّ المكتشف ردّ الفضل إلى من زوّده بآلة الكشف ثم إلى من بثّ في الكون ما بثّ وهو واحد سبحانه. 
قال النّاس ومازالوا يقولون أنّ يعقوب ذهب عماه بسبب أنّه شمّ عرق إبنه يوسف وهو على قميصه ومن ذا فإنّ العرق مذهب للعمى. ثم طار الأطفال بهذه الفرضيّة العلميّة كما تطير أوراق الخريف لا تدري أيّ أرض تقلّها ولا أيّ سماء تظلّها. وبمثل ذلك يطير الطّائشون دوما بفرضيّة علميّة يظنّون أنّهم بذلك ينتصرون للإسلام ويحفرون في علاقة الإسلام بالعلم أخدودا . ماذا لو أثبت العلم خطأ هذه النظريّة كما أظهر خطأ نظريّات أخرى شغلت النّاس طويلا؟. أليست الثّمرة أن الإسلام نفسه لا علاقة له بالعلم والعقل أي نعود إلى المربّع الذي خرجنا منه؟ جميل وصحيح معا أن نبني كلّ يوم لبنة جديدة على درب العلاقة بين الإسلام وبين العلم ولكن بتريث وتأنّ ومكث فلا نلوي النّصوص ليّا لأنّ ذلك مع تكرّره يعني أنّ صاحبه مهزوم هزيمة حضاريّة ثاخنة وليس هو واثق بإيمانه ينتصر له بالحقائق العلميّة. 
لا أظن اليوم سوى أنّ الإسلام سيلقي بمعجزته الخالدة التي ألقى بها في كلّ عصر ومفادها أنّه يتحدى دوما بجنس التّحدي نفسه الذي تُحُدّي به. يتّحد الرّويبضات اليوم على اعتبار أنّ الإسلام ماضوي تاريخي أسطوري خرافي لا مكان له في جغرافيا العلم والمعرفة والعقل، ويقيني أنّه سيتحدّاهم بجنس التّحدي نفسه وما إقبال فلاسفة الغرب وكبار مفكّريه على الإسلام، والمسلمون في حال يرثى لها، سوى دليل على أنّ تحدّي الإسلام جاهز في كلّ آن وأوان.
العبرة الثالثة : جماع العافية النّفسية قلب صفوح
ما فتن المسلمين اليوم ببعض العلوم المعاصرة أنّهم لا يجدون عناوينها المعاصرة في دينهم فلا يجدون كلمة سياسة ولا كلمة إقتصاد ولا كلمة علاقات خارجيّة ولا كلمة قانون ولا دستور ولا كلمة حقوق ولا كلمة علوم إجتماعيّة وعلوم نفسيّة وغير ذلك. ذلك شأن الأطفال. أمّا شأن الكبار فهو البحث عن المعاني وليس عن المباني.
فُتن بعض منّا بالعلوم النّفسيّـــة حتّى يخبرك أحدهم أنّه تعرّض لأزمة نفسيّة من مثل الكآبة والحزن والهمّ وغير ذلك، فلمّا عاد طبيبـــا نفسيّـــا غربيّـــا لا يؤمن بالله سبحانه شفي. أعذرني يا حضرة القارئ ولكنّي أسخر من هذا التّفكير المفتون. أسخر منّه لأنّــي أعتقد أنّ وظيفة الإسلام الأولـــى هي العافية النّفسيّة والصّحة العقليّة. ليت شعري إذا لم يؤمّن لي هذا الكتاب عافيتي الرّوحية فما حاجتي بـــه؟ لم إمتلأ الكتاب ومثله السّنة بالتّوجيهات التي تطلب العفـــو والصّفـــح والحلم وخفض الجنـــاح والمغفرة وكظم الغيـــظ ؟ أليس لضمان العافية النّفسيّة وتأمين الصّحة المعنويّة؟ هل أنّ الوحي بحاجــة إلى أن يكون وصفة طبيّة على الطّراز المعاصر لتقول لك: إصفح عمّن ظلمك لتُشفى نفسيّا؟ أين دور العقل إذن؟ أليس هو الكشف والتّدبــر والنّظر؟ ألم نع بعد أنّه ليس هناك عمل واحد في الدّين ولا في الدّنيا ـ وكلاهما تحت جناح الإسلام ـ مقصودا لذاتـــه بل هو مقصود لغيره؟ سل نفسك : لِمَ أصلّي؟ لِمَ أصوم؟ لِمَ أعبد إلها واحـــدا؟ ثم سل نفسك كذلـــك: لِمَ أصفح؟ من حرم سؤال «لِمَ؟» حرم لذّة الحياة. نحن مشغولون بالسّؤال عن الكيفيّة. كيف؟ الطّفل يسأل «كيف؟»، أمّا الكبير فهو يسأل «لِمَ؟». 
ماذا لو إجتمع شمل العائلة اليعقوبيّة بعد إفتراق دام عقودا ملأها الحزن والعمى والخوف والجوع دون أن يضمخ الشّمل الملتئم بالمغفرة والصّفح؟ أليس يكون الإجتماع عذابا جديدا؟ أيّ معنى لإجتماع الأجسام والأرواح متنافرة متحاقدة متحاسدة؟ لم يعد عندي أيّ ريب أنّ جماع العافية النّفسية قلب صفوح ونفس عافية. ألم تؤكّد الدّراسات النّفسيّة الحديثة نفسها هذا؟ أيّ عذر لنا عندما تجتمع كلمة الدّين مع كلمة العقل أنّ هذا نافع أو أنّ ذاك مضر؟
العبرة الرابعة : ضريبة النّعمة شكرها
بأثر من أمل يعقوبي في الله لا يعرف الحدود أبت أقدار الرّحمان سبحانه إلاّ أن تُذهب العمى عن العين التي عميت بسبب حزنها على فلذة كبدها لتكحّل برؤيته بصرها مرّة أخرى. ماذا لو لقي يعقوب إبنه ولكنّه لا يراه؟ تكون الفرحة منقوصة دون ريب. من يدري لعلّه ليس هو ولكنّها حيلة إمتلأت بها القصّة؟ لم يكن القميص ـ بغض النّظر عن صحّة النّظرية العلميّة أو خطئها ـ عدا سببا من الأسباب التي جلبها سبحانه لإذهاب العمى. لا شيء في الدّنيا ـ بما فيها المعجزات الإلهيّة ـ يندّ عن قانون الأسباب. 
شكر على تحقّق الرّؤيا من بعد عقود طويلة عجفاء. شكر على جمع الشّمل . شكر على ذهاب العمى. شكر على التّثبيت في محن الحياة من جبّ الإخوة الحاسدين إلى جبّ الرّق، ومن سجن الشّهوة الجنسيّة إلى سجن يزجّ فيه البرآء. كلّ ذلك شاءه الله سبحانه وكان فيه لطيفا. أليس مع العسر يسر؟ شكر على تعليم تأويل الأحاديث. شكر على التّمكين نفسه بما جعله مديرا ناجحا لأزمة إقتصاديّة خانقة. نعم تترى لو عدها المرء ما أحصى عشر معشارها. نِعَمٌ نتقلب فيها صباح مساء وضريبتها الشّكر والشّكر نفسه نعمة.