مدارس إسلامية

بقلم
محمد عبد المومن
المدرسة الحزمية في الفقه وعلم الكلام (1/2)
 مقدمة
عرفت الأندلس خلال القرن الخامس الهجري، رغم ظروفها السّياسية المتّسمة بالتّفكك الدّاخلي وتزايد الضّغط الخارجي، نهضة علميّة وفكريّة لم يسبق لها مثيل. ولعلّ من أوضح مظاهرها بروز العديد من العلماء والفقهاء الذين امتد تأثيرهم عبر الزّمان والمكان، كأبي الوليد الباجي وابن عبد البر والحميدي وابن حزم الذي تشكّل اختياراته الفقهيّة والكلاميّة موضوع هذا المقال (في جزءين).
لقد سلم لنا عدد من كتب ابن حزم من الضياع، وهو الذي عدَّه الكثيرون أكثر أهل الإسلام تأليفا بعد الطّبري. وهذه الكتب كافية لأخذ نظرة وافية عن فكر ابن حزم وفقهه، كما أنّها تشكّل معينا لا ينفذ للباحثين في التّاريخ والفكر الاندلسي, لكن ليس الانتاج الضّخم هو ما يميز هذا الرجل بل مذهبه الذي جادل ودافع عنه باستماتة في مجتمع ترسّخ فيه عبر القرون مذهب الإمام مالك.
أولا ـ المدرسة الظاهرية والمدرسة الحزمية
(1) المدرسة الظاهرية 
ليس ثمة خلاف بين المهتمين حول نشأة المذهب الظّاهري على يد داوود بن علي بن خلف الأصفهاني الذي عاش ببغداد خلال القرن الثالث الهجري، وقد كان شافعيّا قبل أن يصير ظاهريّا معلنا أن المصادر الشّرعية هي النّصوص فقط، مبطلا المصادر الإستنباطيّة كالقياس والرّأي والِاستحسان وسدّ الذّرائع وغيرها من مصادر التّشريع التي تعارفت عليها المذاهب السّنية، ولذلك اعتبره الخطيب البغدادي: « أول من أظهر انتحال الظاهر ونفى القياس في الأحكام قولا, واضطر إليه فعلا فسماه دليلا» [1]
و قد كان داوود بن علي يعقد مجالس للمناظرة مجاهرا بآرائه وغير متقلّد بأقول الجمهور، مسشهدا بالكتاب والسّنة فقط في إجابته عن المسائل والقضايا التي عرضت عليه، وأخذ ابن حزم على نفسه مواصلة الجهد الذي بذله داوود بن علي فدافع عن المذهب الظّاهري دون أن يقتصر على أراء مؤسّسه[2]، ليصبح بذلك أبرز فقهاء المذهب. فلماذا اختار ابن حزم المذهب الظّاهري في مجتمع مالكي؟.
(2)  الظّاهرية في الأندلس قبل ابن حزم
لم يكن بن حزم أوّل ظاهري تعرفه الأندلس، فقد توافد على البلاد عدد من أهل الظّاهر المشارقة واستقروا بها. كما مال نحو مذهب أهل الظّاهر عدد من الأندلسيين خصوصا بعضُ من كانت لهم رحلة علميّة للمشرق.
من أشهر الأندلسيين الذين اتخذوا لأنفسهم مذهب أهل الظاهر قبل ابن حزم، منذر بن سعيد البلوطي (توفي: 355هـ) والذي نجد ترجمته عند ابن الفرضي في كتاب «تاريخ علماء الأندلس» حيث يقول عنه: « كان يميل إلى رأي داود بن علي بن خلف العبَاسي ويحتج له»[3] وقد ولي منذر بن سعيد منصب قاضي الجماعة خلال عصر الخلافة، وأجمع الفقهاء الأندلسيون على علمه. 
كما احتفظت لنا كتب التراجم أيضا بعدد ممن دخل الأندلس من أهل الظاهر المشارقة ومنهم محمد بن عبد الله بن طالب البصري الظاهري الذي وصل الأندلس سنة 420 هـ [4] ومحمد بن سليمان بن محمود الخولاني الظاهري الذي دخل الأندلس أيضا سنة 423 هـ [5].  
ولكن لا أحد ممن ترجموا لابن حزم، ذكر أنّه التقى بأحد من أهل الظّاهر أو أخذ عن أحد منهم خصوصا الحميدي الذي ترك لنا ترجمة وافية عن شيخه [6].  
 
(3) عصر ابن حزم ودوره في تحوله نحو المذهب الظاهري 
عاصر أبو محمد ابن حزم نهاية القرن الثالث الهجري والنصف الأول من القرن الرابع، وكان بذلك شاهدا على انهيار الخلافة الأمويّة في الأندلس وعلى انقسام البلاد الى دويلات الطوائف، بل كان هو نفسه مشاركا في ذلك حيث تولى الوزارة مرتين لمدد قصيرة، كما شارك في الوقائع الحربيّة وسجن خلال فترة الفتنة [7].  
إنّ سبب تحوّل ابن حزم إلى المذهب الظّاهري لا يمكن فصله عن الوضعيّة المضطربة التي كانت عليها الأندلس خلال القرن الخامس الهجري، بل يمكن اعتبار هذا التّحول مظهراً من مظاهر معارضة ابن حزم لملوك الطّوائف وللفقهاء الذين برّروا سياساتهم.
 هناك سؤال يتبادر إلى الذّهن وهو هل كان ابن حزم يطمح إلى منصب سياسي في بلاط إحدى الإمارات التي نتجت عن تمزّق الأندلس؟ وهذا الرّأي يدعمه ما أورده ابن العربي المعافري. فلما عجز ابن حزم عن تحقيق ما أراد وجّه سهام النّقد ضدّ فقهاء المالكية، فهاجم عقائدهم وامتدّ هجومه إلى الأئمة الكبار كمالك وأبي حنيفة والأشعري وغيرهم. وهذا ما جرّ عليه نقمة الأمراء والفقهاء معا، ولو اكتفى بالعلم والتّدوين مع قليل من الإعتدال لكان مسار حياته قد تغيّر تماما [8].  
4 - الظّاهرية والحزميّة 
إنّ تمييزنا للمدرسة الظّاهرية عن المدرسة الحزميّة ينطلق من اعتبارين أساسييّن أولهما اختلاف موقف ابن حزم عن موقف داوود بن علي الظاهري في مسألة القياس، فقد أورد السّبكي في طبقات الشافعية:« والذي صحّ عن الشّيخ الوالد أنّ داوود لاينكر القياس الجليّ وإنّما نقل عنه إنكاره ناقلون ومنكرو القياس مطلقا الخفي والجليّ طائفة من أصحابه زعيمهم ابن حزم» [9]. ويؤيد هذا الرّأي ما ذهب إليه الشّوكاني في إرشاد الفحول وهو من نفاة القياس حيث يقول: « اعلم أن نفاة القياس (غير الغلاة) لم يقولوا بإهدار كلّ ما يسمّى قياسا وإن كان منصوصا على علّته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق بين الأصل المقاس عليه والمقيس، بل جعلوا هذا النّوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته، وبهذا يهون عليك الخطب... لأنّ الخلاف في هذا النّوع صار لفظيا وهو من حيث المعنى المتّفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة العمل عليه، لا يستلزم الإختلاف المعنوي، لا عقلا ولا شرعا ولاعرفا... ثم لا يخفى على ذي لبّ صحيح وفهم صالح أنّ عمومات الكتاب والسّنة ومطلقاتها وخوض نصوصها ما يفي بكلّ نازلة تنزل عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله» [10]. 
أمّا ثاني الإختلافات بين المدرستين الظّاهرية والحزميّة فهو يكمن في تطبيق ابن حزم لأصول المذهب الظّاهري على العقائد الإسلاميّة وحتّى على اليهودية والنّصرانية، حيث اعتمد في نسقه الكلامي بشكل أساسي على المعنى الظّاهر للقرآن والأحاديث النّبوية الصّحيحة. وانطلاقا من هذا وجّه للفرق الإسلاميّة المختلفة بما في ذلك السّنية نقدا عنيفا، فظاهريته كانت أعمق من أن تنحصر في دائرة التّشريع وأصول الفقه بل نجدها تلوّن أراءه العقديّة وتصبغها بصبغة مذهبه الخاص [11].  
ثانيا: دعائم المدرسة الفقهيّة الحزميّة
ليس من السّهل الإحاطة بفقه ابن حزم فقد بذل هذا الفقيه الأندلسي الكثير من الجهد في تنقيح وتأصيل مذهب داوود بن علي الأصبهاني إمام أهل الظّاهر. كما جادل الفقهاء المالكيين جدالا عنيفا، وألّف الكثير من الكتب الفقهيّة والأصوليّة لعلّ من أهمها كتاب « المحلّى بالآثار شرح المجلى بالإختصار» و«كتاب الإحكام في أصول  الأحكام» و«كتاب النبذة الكافية» وغيرها. وأسّس مدرسة فقهية على سبعة دعائم هي: 
- الدّعامة الأولى: الأخذ بظاهر النّصوص أي الاعتماد فقط على الكتاب والسّنة والإجماع. والإجماع بالنّسبة للظّاهرية هو إجماع الصّحابة فقط[12] و[13]، مخالفا بذلك الأئمة الأربعة الذين تعتمد مذاهبهم على الاستنباط المستند على الكتاب والسّنة والإجماع مع اختلافهم في الرّأي بين موسع ومضيق. ويقول ابن حزم «برهان ما قلنا حمل الألفاظ على مفهومها من ظاهرها، قول الله  تعالى في القرآن « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»[الشعراء: 195]  وقوله تعالى « وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [ إبراهيم: 4 ]  فصحّ لنا أن البيان لنا إنّما هو القرآن والسّنة على ظاهرها وموضوعها فمن أراد صرف شيء من ذلك الى تأويل بلا نصّ ولا إجماع فقد افترى على الله وعلى رسوله، صلى الله عليه وسلّم، وخالف القرآن والسّنة وحرّف الكلم عن مواضعه» [14] .  
- الدّعامة الثّانية: الأخذ بالمنهج العقلي والتمسك بالحجج العقلية وترجيحها على ماسواها سواء كان قول إمام أو فعله أو خبرا أو غيرها من المبادئ, وقد عبر ابن حزم عن ذلك بقوله: « فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الاشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها»[15].  
وفي نص آخر نجد ابن حزم حريصا على وضع العقل في موضعه الصحيح، حيث نجده ينفي عن العقل القدرة على التحليل والتحريم. كما أنه رفض أن يكون العقل أداة للتحسين حتى لا يقع في تناقض مع ظاهريته. وفي هذا يقول: « وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة» [16]و [17]  
- الدّعامة الثّالثة: إبطال الرأي، وتعريفه حسب ابن حزم هو: « ما تخيلته النّفس صوابا دون برهان ولا يجوز الحكم به أصلا» [18]  لكونه يأخذ ألفاظ النّصوص بظاهرها اللّغوي. 
- الدّعامة الرّابعة: إبطال القياس، وتعريفه حسب ابن حزم: « القياس عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم في شيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيئا آخر ورد فيه ذلك الحكم وهو باطل كله»[19]. وبالإضافة إلى إبطاله للقياس فقد اعتبره بدعة من بدع القرن الثاني الهجري محتجا بذلك بعدد من الآيات كقوله سبحانه وتعالى « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» [ المائدة: 3 ].
- الدّعامة الخامسة: رفض التعليل، والعلّة حسب ابن حزم هي: «طبيعة في الشّيء يقتضي صفة تصحّحها ولا توجد في تلك الصّفة في دونها ككون النّار علّة للإحراق والإحراق هو معلولها، والعلّة أيضا المرض ولا علّة في شيء من الدّين أصلا والقول بها في الدّين بدعة وباطل»[20]. ويقول أيضا: « وبالجملة فليس في الشّرائع علّة أصلا بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها إلاّ الأوامر الواردة من الله عزّ وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء ممّا في العالم وتحليل آخر، ولا إيجاب عمل وترك ايجاب آخر. فالأوامر أسباب موجبة لما وردت به. فإذا لم ترد فلا سبب يوجب شيئا أصلا ولا يمنعه» [21]. 
الدّعامة السّادسة: إبطال الِاستحسان واعتباره اتباعا للهوى وشهوات النّفس وفي هذا يقول « والِاستحسان هو ما اشتهته النّفس ووافقها كان خطأ أو صوابا» [22].
- الدّعامة السّابعة: استنكار مبدأ التّقليد حتّى ولو كان المقلّد صحابيا، معتبرا التّقليد بدعة من البدع التي جاءت بعد عصر النّبوة. وفي هذا  يقول: «فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النّبي،صلى الله عليه وسلم، والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد، فإن وجدوا حديثا عنه صلّى الله عليه وسلّم عملوا به واعتقدوه، ولا يقلّد أحد منهم أحدا البتّة، فلمّا جاء أهل العصر الرّابع تركوا ذلك كلّه، وعوّلوا على التّقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم، فاتّبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة، وأصحاب مالك مالكا، ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما» [23] .
هذه إذاً الأصول العامّة لمذهب ابن حزم الذي يمنع التّقليد ويرفض مبدأ الاجتهاد بالرّأي ويبطل القياس وتعليل الأحكام ويستنكر مبدأ الِاستحسان. 
(سنتطرق في الجزء الثاني إلى الآراء العقدية والكلامية لابن حزم وموقف السلطة السياسية من المدرسة الحزمية واندثارها)
الهوامش
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ مدينة السلام، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت،الطبعة الأولى، 2001، الجزء 9 ص 348
(2) إبراهيم (زكرياء)، ابن حزم الأندلسي، الدار المصرية للترجمة و النشر، بدون تاريخ، ص 181 
(3) ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس،  الدار المصرية للتأليف و الترجمة، بدون تحقيق، 1966، القسم الثاني, ص 144 
(4) ابن بشكوال، الصلة ، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة بيروت،  الطبعة الأولى، 1989، ص 866
(5) ابن بشكوال، نفسه، ص 866
(6) الحميدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس،الدار المصرية للتأليف و الترجمة، 1966، ص 308 
(7) إبراهيم (زكرياء)، ابن حزم الأندلسي، مذكورسابقا، ص 19 
(8)  محمود ( أحمد بكير)، المدرسة الظاهرية بالمشرق والمغرب، دار قتيبة، بيروت دمشق، الطبعة الأولى 1990, ص 63 
(9) محمود ( أحمد بكير)، نفسه، ص 61
(10) الشوكاني، إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول, طبعة دار الفكر, بدون تحقيق, بدون تاريخ, ص 204 
(11) محمود ( أحمد بكير)، المدرسة الظاهرية بالمشرق و المغرب- مذكور سابقا, ص 62 
(12) ابن حزم، النبذة الكافية في أصول أحكام الدين، تحقيق أحمد حجازي السقا- مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة، الطبعة الأولى، 1981، ص 19
(13) جاء  في الإحكام ( الجزء الأول، ص 47): «الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة  فهو ما تيقن أن جميع الصحابة قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم  وليس الإجماع شيئا في الدين غير هذا».
(14)ابن حزم، النبذة الكافية، مذكور سابقا - ص 38 
(15) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام, تحقيق احمد محمد شاكر- منشورات دار الافاق الجديدة، بيروت، الجزء 1, ص 26.
(16) المصدر السابق - ص 28 
(17) اعتبرت أن الأخذ بالمنهج العقلي من دعائم المدرسة الفقهية الحزمية بالنظر إلى كون ابن حزم قد اعتبره كذلك وخصص له بابا مستقلا في كتاب الإحكام وهذه المسألة حسب ظني تحتاج وقفة مستقلة. انظر باب إثباب حجج العقول (الإحكام, الجزء الأول, ص 14)
(18) ابن حزم، الإحكام، مذكور سابقا - ص 46 
(19) ابن حزم، الإحكام، مذكور سابقا- الجزء الأول- ص 4
(20) المصدر السابق -ص 44 
(21) ابن حزم، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية- تحقيق إحسان عباس- دار الحياة بيروت- الطبعة الأولى- ص 169
(22) ابن حزم، الإحكام، مذكور سابقا- الجزء الأول- ص 45
(23)ابن حزم، الإحكام، مذكور سابقا- الجزء6 - ص 142