تأملات

بقلم
محمد الصالح ضاوي
العرض الدرامي في القرآن... التنوع والتفرد
 يحتوي القرآن على عشرات المفاصل التي تمثل عروضا درامية، متنوعة ومتفرّدة، من خلال الخطاب الإلهي المعجز. ونكاد نجزم، أن كلّ آية من آيات القرآن، فضاء للسّياحة العقليّة والقلبيّة، ومسرح للحواس الظّاهرة والباطنة، تكشف لنا عن عروض تجمّع بين الحسّي والبرزخي، العقلي والرّوحي التّجريدي. ولعلّه من المفيد الكشف عن التنوّع والتفرّد القرآني للمشاهد والعروض الدّرامية، من خلال أنواع التّقسيمات التي يمكن إدراجها فيها، لنعلم ثراء الخطاب الإلهي (الشّفاهي) والنّصّ القرآني (المكتوب).
(1) التقسيم الموضوعي للعرض الدّرامي(1) : 
ونقصد بالموضوعي: موضوع العرض وقالبه النّصّي. فمن خلال استعراض سريع للآيات القرآنيّة، نجد أنّ القرآن ينقسم، دراميّا، إلى ثلاثة أقسام:
القسم الحسّي: وتمثّله نصوص القصص المختلفة التي تروي أحداثا تاريخيّة، بأسلوب متميّز ومعجز. وهي قصص تعتمد على الحسّ أساسا، إلى جانب احتوائها على مستويات معرفية أخرى، تتداخل فيها من خلال اللّغة والسّياق. وتندرج في هذا القسم، قصص خلق آدم عليه السّلام (البقرة 30-38)، وبناء الرّسول إبراهيم للبيت (البقرة 124-134)، وقصّة ابني آدم والغراب (المائدة 27-31) وقصّة نوح (هود 25-49) وقصّة أصحاب الكهف والرّقيم (الكهف 9-26)... الخ.
القسم البرزخي: وتمثّله النّصوص التي تحتوي على الأمثال، أساسا. حيث نكتشف، من خلال فعل القراءة والتّكرار، عروضا دراميّة عقليّة ونفسيّة، تعتمد على إدراك الحكمة (الفلسفة) من خلال عبارات قليلة وصور برزخيّة. وتندرج في هذا القسم، آيات الرّؤى والمنامات، والمشاهد الأخرويّة أيضا. ومن هذا القسم: مَثل المستوقد نارا (البقرة 17) ومَثل النّور والظلمات (الأنعام 122) ومَثل إخراج الموتى (الأعراف 57) ومَثل الكلب (الأعراف 175) وعرض الرّؤى (سورة يوسف)... الخ.
القسم التجريدي: وتمثّله النّصوص المرتبطة بالرّوح والعرفان، وكذلك فواتح السّور وآيات التّوحيد. مثل عرض ميثاق النّبيين (آل عمران 81) ومشهد: «ألست بربّكم» (الأعراف 172) وآيات التّوحيد والأسماء وفواتح السّور.
(2) تقسيم حسب مستويات التدخل:
تظهر مستويات التّدخل في المشاهد الدّرامية في القرآن من خلال بعض التّجليات الخاصّة التي تؤكّد انتماء المشهد أو العرض إلى حضرة وجوديّة معيّنة. من ذلك:
المستوى الألوهي أو الأسمائي: وهو يشمل عروضا يتدخّل فيها الله عن طريق أحد أسمائه، بحقائقه، فيضفي على المشهد تجلّيا خاصّا بذلك الإسم، مثل عرض موسى والنّار، حيث كلّم الله موسى تكليما (القصص 29-35) وعرض الحوار الإلهي الملائكي بخصوص خلق آدم (البقرة 30) ومشهد الحوار الإلهي مع إبليس (الحجر 28-44).
المستوى الملائكي الرّوحي: وهو يظهر في المشاهد الدّرامية التي تتدخّل فيها الملائكة لتصنع الحدث المفارق للطبيعة والمتماهي معه في نفس الوقت. نذكر من ذلك مثال مسرحيّة الأخوين في محراب داود (ص 21-25)، ومشهد تمثل جبريل للسّيدة مريم (مريم 16-21)، والعرض الملائكي عند إبراهيم ولوط (هود 69-81).
المستوى الجنّي النّاري: وهو يشير إلى تدخل أجسام ناريّة جنّية في الحدث، لتستحوذ عليه، أو تحاول ذلك، مثل عرض: «وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا...» (البقرة 102)، وعرض سليمان والعفريت من الجنّ (النّمل 39)، وعرض حواريّة إبليس والربّ، المتكرّر في أكثر من مشهد قرآني (الإسراء 61-65).
المستوى الحيواني: وهو أحد مستويات الوجود، ويظهر في عروض قرآنية عديدة، تتجلى منها الحكمة والموعظة والعرفان، مثل: مشهد الهدهد وسليمان (النمل 20-28)، ومشهد النملة مع سليمان (النمل 17-19)، وعرض الغراب أمام ابن آدم قاتل أخيه (المائدة 31)، وعرض الفداء الإسماعيلي (الصافات 103-111) وعرض البقرة مع بني إسرائيل (البقرة 67-73) ... الخ.
المستوى الإنساني الكامل: وهو آخر المستويات الوجوديّة ظهورا، وأرفعها مقاما، وتظهر في عدّة عروض دراميّة ومشاهد مسرحيّة، تتفاوت في الكمال، ولكنّها مثّلت عناصر محدّدة وموجّهة للحدث، سواء كانت رسلا أو أنبياء أو أولياء أو صدّيقين، مثل: عرض الصدّيقة مريم المتكوّن من عدّة مشاهد: في المحراب/ مع الرّوح/ مع قومها/ مع زكريّا/ (سورة مريم) وعروض سورة الكهف مع أصحاب الكهف، والخضر صاحب موسى، وذي القرنين (الكهف) وعرض مؤمن آل فرعون (غافر 28-45) ورسل التّعزيز إلى أصحاب القرية (يس 13-27)... الخ. 
(3) تقسيم حسب الصّراع العقائدي:
يعتبر الصّراع بين التّوحيد والشّرك جوهر النّص القرآني والمشاهد الدّرامية المستوحاة منه. ويحفل الكتاب المقدّس عند المسلمين بعروض عديدة إيمانيّة وكفريّة، صوّرها الخطاب القرآني من أجل حضور اللّحظة الصّانعة للحدث، وشهود الانقلاب الإيماني التّوحيدي ضدّ الكفر والشّرك. وعليه، نجد:
عروضا كفريّة: جسّدتها الآيات القرآنيّة بدقّة وإيجاز،من وراء حجاب الرّسالة والنبوّة، بحيث يستحيل إحياء المشهد الكفري من أجل التّعاطف معه والتّماهي مع روحه... بل على النّقيض من ذلك، يبدو المشهد دائما من وراء الأخلاق والمبادئ التي يجسّدها الرّسل والأنبياء. نذكر على سبيل المثال: عرض السّامريّ والعجل (طه 85-98)، وسحرة فرعون قبل إسلامهم (الشعراء 41-44)، ومشهد إلقاء إبراهيم في النّار (الأنبياء 68-69)، ومحاولة اغتيال عيسى (النساء 157)، ومحاولة قتل يوسف أو تغييبه (يوسف 7-18)، وعروض مجالس فرعون مع موسى (طه 49-73) وعرض عقر ناقة صالح (هود 65)... الخ.
عروضا إيمانية: وهي العروض التي يجسّدها الأنبياء والرّسل والأولياء والصدّيقين والصّالحين... وكذلك يشترك فيها الجنّ والملائكة... وهي أكثر المشاهد القرآنية. نذكر منها: إنصات الجنّ لتلاوة من القرآن (الأحقاف 29-32)، وعرض هاروت وماروت العرفاني العجائبي (البقرة 102).
(4) تقسيم حسب طبيعة العرض:
كلّ أنواع العروض الدّرامية المعروفة لدينا اليوم، موجودة في القرآن، بصفة ظاهرة... فالتّراجيديا صبغت مشهد ابني آدم وصراعهما الدّموي (المائدة 27-32). وكذلك مشهد سوق إبراهيم لابنه إسماعيل إلى التلّة لتقديمه قربانا (الصافات 100-111)، وكذلك مشهد غرق فرعون وهو يستجدي النّجاة (يونس 90-92)، ومشهد موسى وهو يصارع العجل وكفر بني إسرائيل من جهة، ويسعى إلى ارتقاء درجات الميقات للفوز بالحضرة الرّبانية (طه 83-98/ الأعراف 155). 
أمّا الكوميديا، فتظهر في مشهد تحدّ بين إبراهيم وملكه، من خلال حوار بينهما، يدّعي الملك فيه أنّه إله، يحيي ويميت، فلم يناقشه إبراهيم في معاني الإحياء والإماتة، ومستوياتهما، بل ذهب مباشرة إلى تعجيزه بموضوع آخر، يتعلّق بشروق الشّمس، حيث طالبه بتغييره مائة وثمانون درجة. قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(2). وكان التّعبير المرتسم على وجه الملك، إثر جواب إبراهيم، باعثا على الضّحك منه: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ».
وليس بصعب، اعتراض مشاهد متنوّعة، فيها الحركة (عرض تحطيم إبراهيم للتّماثيل) والرّعب (عرض ذبح إسماعيل) والإيروسيّة (عرض مشاهد من قوم لوط) والخيال (عروض مشاهد الجنّة والنّار) والحكمة (عرض لقمان) والعجائبيّة (عروض النّبي سليمان)... الخ.
الهوامش
(1) يرجى مراجعة مقال سابق لنا : «الضاوي، محمد الصالح: العرض الدرامي من خلال القرآن المفاهيم والرموز» - العدد 129 من مجلة الإصلاح - أفريل 2018.
(2) سورة البقرة - الآية 258