بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
الإله والإنسان اليوم
  يبدو التباعد بين الإنسان والإله والتّقابل بينهما من أهمّ علامات الواقع المأزوم في صورته المعاصرة، وذلك بسبب نزوع الفكر إلى أنسنة الإله ونزوع الممارسة إلى تأليه الإنسان في ظلّ هيمنة الاتجاه الطّبيعي عليهما. وتشكّل النّزعتان تحريفا أو تشويها للحدّين بالنّظر إلى ما تفرضانه عليهما من وجوه الإكراه والإغراء أو من وجوه الخفض والرّفع. 
إنّ الإله المؤنسن، إله ليس له إنسان. وبالمقابل يكون الإنسان المؤلّه، إنسانا ليس له إله. وكلاهما صورة مشوّهة للوجود اللاّمتناهي والوجود المتناهي، وليسا تجسيدا للوحدة الأصليّة التي تلغي التّعارض بين الجزئي والكلّي أو بين المتناهي واللاّمتناهي. ذلك أنّ الأنسنة بالخفض والتّأليه بالرّفع نزعتان استسهاليتان تعبّران عن عمق الأزمة التي انقادت إليها الذّات الإنسانيّة، إمّا بدافع القصور الذي أصابها فجعلها تخفض الإلهي وتبشّر بموته، وإمّا بدافع الغرور الذي تملّكها فجعلها ترفع الإنساني وتشرّع لسيادته وخلوده. 
 قد يكون شعور الإنسان بتزايد سيطرته المعرفيّة على العالم المحيط به وعلى نفسه وعلى الآخرين، وشعوره بتقدّمه الدّائم نحو الكمال أنساه تناهيه وضياعه بين اللاّمتناهيين (في الصّغر وفي الكبر). لكنّ هذا النسيان لا يعطيه في الواقع الحقّ في أن يتصرّف كما لو كان سيّدا ومالكا للطّبيعة بالتّعبير الدّيكارتي، بل يمنحه سعادة تكتمل باستمرار كلّما تقدّم في طريق سيره إلى الإله. وهي في الواقع سعادة الموجود الذي يصبو إلى أن يكون على صورة الواجد في كمالها وإطلاقيتها. وبما أنّ الإنسان المتناهي الوجود لا يمكنه أن يتمثّل الإله اللاّمتناهي الوجود إلاّ على نحو ما يتمثّل به الأبعاد اللاّمتناهية في المقادير الرّياضية، فإنّه لا يمكنه أن يتمثّل هذا الإله إلاّ من خلال أمثلته رياضيّا ليصير إنسانا بعيدا بدرجة لا متناهية أو بعدا إنسانيّا لا متناهيا.
لكن هل يعني هذا أنّ الإنسان السّعيد هو ذاك الإنسان الذي يكون بالفعل على صورة الإله أم هو ذاك الإنسان الذي يرى نفسه وحسب، على صورة الإله؟ ثمّ ما الذي استحال إليه الإله في حضرة الإنسان السّعيد؟ هل نقول إنّه صار بالفعل إنسانا كاملا أم نقول إنّه يرى نفسه وحسب، على صورة إنسان كامل؟ وإذا قبلنا بأن يكون الإله إنسانا بعيدا بصفة لا متناهية، فهل لنا الحقّ بعد ذلك في تعريف الإنسان بالإله القريب بصفة متناهية؟ وهل أنّ أمثلة الإله رياضيّا تلبّي الرّغبة في تجسير المسافة بين المتناهي واللاّمتناهي وتساهم في تقليص حدّة التّوتر بين الإنسان والإله؟
تكشف لنا هذه المؤشّرات أنّ مجاوزة الإله لقواعد الظّهور أو التّجلي يمكنها أن تكون أقصى كيفيات القصديّة، حتّى لكأنّ ظهور الإله بالنّسبة إلى الإنسان ظهور متحرّر من كلّ الانتظارات ومن كلّ آفاق الإمكان، أي متحرّر من كلّ الشّروط. ولعلّ هذا بالذّات يحملنا على استبعاد الدّيانات التّعددية في الحديث عن الإله بحجّة أنّ الآلهة بالجمع موضوعات تنتمي إلى العالم المباشر المحيط بنا، ولا تختلف في واقعيتها عن واقعية الحيوان أو الإنسان. ومن ثمّ فإنّ ظهورها منتظر وليس متحرّرا من الشّروط الموضوعية. 
قد نعثر في دمج الإطلاقيّة الإلهيّة الدّينية والإطلاقيّة الإنسانيّة المثاليّة ما ييسّر لنا اجتياز صحراء التّباعد بين تناهي الإنسان ولا تناهي الإله في اتجاه إضفاء المعنى على التّجربة الإنسانيّة بوصفها تجربة كدح نحو الإله تكشف الإنسان لذاته وللآخرين، لكن رتق الفتق بين اللاّمتناهي والمتناهي لا يقبل أيّ صورة من صور الدّمج. فالدمج يفترض التّجانس بين العناصر المدمجة والحال أنّ الإلهي والإنساني ليسا كذلك. 
ويبدو الفكر الصّوفي محرجا في قوله بالحلول وبخاصّة عندما يتعلّق الأمر بالفضائل والرّذائل حيث يرتدّ منطق الحلول حسيرا. وهو عين الحرج الذي عاشه من قبل أفلاطون في نظريّة المشاركة التي لم يجد فيها مكانا للقذارات. فعالم المثل أو الحقائق المطلقة يضيق عن استيعاب الأوساخ والقذارات التي تفرض وجودها الواقعي وتجبر العقل على الاعتراف به رغم غيابها في قائمة المعقولات.
لا ينبغي للكدح الإنساني إلى الإله أن ينسينا بداية هذا الكدح ونهايته، فالإنسان لا يمكنه أن ينكر وضعه الأصلي ومنتهاه الفعلي وما يتوسّطهما من إفرازات. فهو في الأصل نطفة مذرة يحمل في جوفه العذرة وآخره جيفة قذرة. وهو في الواقع وضع يتجاوز حدود إرادته المتناهية بين بدء ضروري ومنتهى قسري تقرّره الطّبيعة الطّابعة للإله. وهذا يعني أنّ الإنسان والإله ليسا بحاجة إلى أيّة صورة من صور الدّمج في وعي النّاس بل هما بحاجة إلى المحافظة على مسافة التّباعد بينهما حتى يكون للكدح معنى وللدّعاء وجاهة ومشروعية.