مدارس إسلامية

بقلم
محمد ديان
خصائص المعرفة الصوفية «الجزء الثاني»
 تطرقنا في المقال الأول إلى خمس خصائص للمعرفة الصّوفية جعلتها متميّزة ومتفرّدة عن غيرها من المعارف التي تحصل لغير المتصوّفة. ونواصل في هذا المقال (الجزء الثاني والأخير) الحديث عن خاصيتين  أخريين وهما ارتكازالمعرفة الصوفية على عدم الفتور عن الذّكر وتوظيف الرّمز خاصّة في الشّعر
سادسا- مرتكزها عدم الفتور عن الذكر
أهمّ قضيّة في المعرفة الصّوفية هي معرفة الله ومحبتّه جلّت قدرته، ومن أحبّ أحدا أكثر من ذكره. جاء عن ذي النّون المصري (ت 245هـ): «الذّكر هو غيبة الذّاكر عن الذّكر»(1)، ولم يقتصر على هذا القول، وإنّما طفق ينشد:
«لا لأنّي أنساك أكثر ذكرا ...................ك ولكن بذاك يجري لساني» (2) .
فمن أحبّ الله تعالى مفروض عليه أن يكثر من ذكره باللّسان والجنان والأركان. وعليه، فـ«الذّكر بالقلب هو المطلوب، والجوارح وسيلة إليه، وذكر الله بالقلب لا يحصل إلاّ بعد تطهيره من حبّ الدّنيا والجاه وغير ذلك» (3) ، وأيضا مطلوب منه أن يداوم ويواظب على الذّكر دون أن يفتر، لأنّ «صقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله» (4)، ولأنّه كذلك معراج روحاني للقرب إلى الله والأنس به، واستحضار عظمته وخشيته في القلب، والمبادرة إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه. وفي هذا الصّدد يقول القشيري (ت 465هـ): «الذّكر ركن قوي في طريق الحقّ سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطّريق، ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلاّ بدوام الذّكر» (5). ومفهوم الذّكر واسع وشامل، ذلك أنّ «فضيلة الذّكر غير منحصرة في التّسبيح والتّهليل والتّحميد والتّكبير ونحوها، بل كلّ عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى، كذا قاله سعيد ابن جبير رضي الله عنه وغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه الله: مجالس الذّكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلّي وتصوم وتنكح وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا» (6). وحاصل الأمر التّقوى، ولرّبما لهذا الاعتبار فإنّ الصّوفية يرون أنّهم يحصلون من الذّكر على معرفة خاصّة ومحبّة قلبيّة تجعلهم يتنعمون ويتلذّذون في حضرة الذّات الإلهيّة العالية بالأنس والقرب، وحلاوة المناجاة. وفي هذا الشّأن، يقول محمد الواسطي (ت 331هـ) لمّا سئل عن الذّكر: «الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف وشدّة الحبّ» (7) وفي ذات النّقطة أنشد دلف الشّبلي (ت 334هـ) الأبيات التالية:
«ذكرتـك لأنّي نسيتـــك لمحـــة
وأيسر ما في الذّكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى
وهام عليّ القلــب بالخفقــــــان
فلمّا أراني الوجد أنّك حاضــري
شهدتك موجودا بكلّ مكــــــان
فخاطبت موجودا بغير تكلّــــــم
ولاحظت معلوما بغير عيـــان»(8)  
 ويخرج علينا ذو النّون المصري بكلام يتقطّر على القلب شهدا مفاده: «من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كلّ شيء، وحفظ الله عليه كلّ شيء، وكان له عوضا من كلّ شيء» (9) .
سابعا- توظيف الرّمز خاصّة في الشّعر:
يخيّل إلى من يقرأ كلام الصّوفية، كأنّه يتعامل مع طلاسم أو ألغاز لا تفكّ شفرتها. وحقّ له هذا الانطباع، لأنّ كلام الصّوفية ترميز وتلميح. وهم يستعملون الرّمز ليبقى أمرهم وسرّهم محفوظا بينهم. وبما أنّ العبارة تضيق عن استيعاب أفكارهم، فإنّهم يلجؤون إلى الإشارة، ثمّ عندما لا تسعها الإشارة يعمدون إلى الرّمز، الذي هو مقارنة مع العبارة والإشارة ألطف وأدقّ وأرقّ لكونه يوغل ويغرق في استعمال المجاز والاستعارة ممّا يخرج العبارة عن حقيقتها اللّغوية. وتوظيف الرّمز حاضر بقوّة في الظّاهرة الشّعرية التي تنقلنا من عالم المادّيات والمحسوسات إلى عالم النّفس والعواطف والمشاعر، ويستثمره بدرجة أعمق وأكبر الشّعر الصّوفي المحلّى بصبغة وجدية، والموشى بإشراقات عرفانيّة روحانيّة، يظهر ذلك في: 
(1) المحبة ومعاناتها:
جاء في رسالة من سرى السقطي (ت 253هـ) إلى الجنيد السّالك (ت 297هـ):
«ولمّا ادّعيت الحبّ قالت كَذَبتنــــي...................فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحبّ حتّى يلصق القلب بالحشا................... وتذبل حتّى لا تجيب المناديـــــــا
وتنحل حتّى لا يبقي لك الهـــــــوى...................سوى مقلة تبكي بها وتناجيـــــــا» (10)
وأنشد إبراهيم النّصر آباذي (ت 369هـ):
«ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة...................فإنّي من ليلى لها غير ذائـــــق 
وأكثر شـيء لُمتــه مــــن وصلهــــــا...................أماني لم تصدُق كلمحة بـــارق» (11)
إنّ الأبيات تنمّ عمّا يحسّ به المحبّ إزاء محبوبته ومعشوقته من كلف وهيام تصحبه معاناة وتوجع وتفجع. وهذه ضريبة الحبّ الباهظة، «فالمحبّة نار حطبها أكباد المحبّين» (12) . 
وكذلك المحبّ لله تعالى يكاد يحترق شوقا إليه، فيملأ عليه الحبّ الإلهي الأركان والجنان، والجوانح والجوارح، فيعمل على مجاهدة النّفس ورياضتها حتّى يصل إلى حقيقة محبّة الله تعالى، حيث كلّ شيء في سبيلها يهون.
(2) السّكر من شدّة المحبّة:
لقد تناول الصّوفية هذه النّقطة كثيرا في أشعارهم، ولصعوبة حصر كلّ ما ورد عنهم في ذلك، سأكتفي بنموذجين. فها هو أبو علي الدّقاق أستاذ القشيري يفشي سرّه، ويطلعنا على ما فعلت به المحبّة من خلال بيت شعري طالما تغنّى به:
«لي سكرتان وللندمان واحدة...................شيء خصصت به من بينهم وحدي» (13) .
وفي الموضوع ذاته، يمتعنا أبو مدين (ت594هـ) ببيتين شعريين يكشفان عن أسلوب صوفي مفعم بالعواطف المشبوبة والأحاسيس الرقيقة رقة ما ترمزان إليه:
«تقول أناس قد تملكه الهوى...................أجل لست في ليلى بأول من جنا
خفيت بها عن كل علم الورى...................وأظهر لبنى والمراد سوى لبنى» (14)  
الأبيات لها حمولة من العواطف الجيّاشة التي تفور فورانا، بسبب المعاناة التي يكابدها المحبّ خصوصا عندما  ينشب الحبّ مخالبه في شغاف القلب، فلا يملك المحبّ حولا ولا طولا إلاّ أن يستسلم لقدره، إذ في زعم بعض الصّوفية «من أحبّ النّساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهي»(15). والحقيقة أنّه لا دليل من الشّرع على هذا التّقوّل والتّخرّص.
وبالرّجوع إلى ما رشح عن الشّاعرين من أبيات، يظهر أنّها ترمز بالحبّ الذي أفصحا عنه إلى الحبّ الإلهي الذي يشغل المرء عن كلّ شاغل، ويجعله يفقد الإحساس بالذّات، ناهيك عن غيرها. والغريب العجيب أنّ المحبّ يستعذب معاناة الحبّ وسكره فيصير كلّ ذلك لديه نشوة وحلاوة وسعادة، وإذا كان هذا حال المحبّ للمخلوق، فما بالك بحبّ الخالق؟ الأمر سيكون طبعا أكثر وأشدّ، ذلك أنّ «نعيم المحب(16) في الدّنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنّة في الآخرة، بل هو جنّة الدّنيا. فما طابت الدّنيا إلاّ بمعرفته(17) ومحبّته، ولا الجنّة إلاّ برؤيته ومشاهدته، فنعيم المحبّة دائم وإن مزج بالآلام أحيانا. فلو عرف المشغولون بغير الحقّ سبحانه ما فيه أهل محبّته وذكره ومعرفته من النّعيم، لتقطعت قلوبهم حسرات، ولعلموا أنّ الذي حصلوه لا نسبة له إلى ما ضيعوه وحرموه» (18) .
إن الإغراق في حبّ الله تعالى نعيم مقيم، وسعادة غامرة ولذّة روحيّة لا يعيشها ولا يتقلّب في أحضانها وبحبحتها إلاّ من غمر الله سبحانه قلوبهم بشهد محبّته. 
(3) الجمال والحسن:
الإنسان مجبول ومفطور على حبّ الجمال بكلّ أشالكه، ولاغرو إذا ألفينا الشّعراء قد تغنّوا بالجمال وأفردوا له قصائد، لكنّ أكثر ما تغنّوا به هو جمال المرّأة لما وهبها الله من الجمال والبهاء والرّقة والعذوبة. وعلى الخطّ نفسه سار المتصوّفة، فجادت قرائحهم بروائع أطارت الألباب، كما أبانت عن ذوق رفيع وإحساس رهيف كان وقوده في ذلك – إذا صحّ التعبير- الكلف والهيام والغرام. ولنأخذ نموذجا ابن الفارض(ت 632هـ) من خلال تائيته الكبرى:
«ووصف كمال فيك أحسنُ صورة...................وأقومُها في الخلق منه استمـــــــدت
ونعت جـــلال منك يعذُب دونــــــه...................عذابي، وتحلو عنده لي قتلتـــــــــي
وسر جمــــال عنك كـل ملاحــــــة...................به ظهرت في العالميـــــــن وتمــت
وحسن به تسبــى النهـــى دلنــــــي...................على هوى حسنت فيه لعزك ذلتـــي
ومعنى وراء الحسن فيك شهدتــــه...................به دق عـــن إدراك عيـن بصيــــرة 
لأنت منى قلبي وغاية بغيتـــــــــي...................وأقصى مرادي واختياري وخيرتي» (19) 
أبيات تفيض بعاطفة صادقة في وصف وتوصيف جمال المرأة. والحقّ يقال: إنّ ما كتبه ابن الفارض في الغزل الصّوفي يعدّ في رأي ثلّة من الباحثين: «أرقى وأسمى ما وصل إليه الغزل الصّوفي العربي من دقّة الوصف ورقّة الشّعور وخفة الرّوح» (20). والمحبّ الولهان «إذا تحقّق في مقام وجد الموجود، وظهرت عليه آثار الشّهود، يشهد محبوبه في سائر الذّوات، وصفاته مع سائر الصفات»(21). هذا هو المصرّح به في الأبيات، لكنّ المرموز إليه هو الذّات الإلهيّة التي جمعت ووعت كلّ جمال، لأنّه كما هو معلوم في عرف الصّوفيّة: «الحسن هو الكمالات المجتمعة في ذات واحدة، ولا يكون ذلك إلاّ للحقّ تعالى»(22). وأنّه أيضا «لا يسمّى الجمال المبدع جمالا إلاّ من حيث النّظر إلى موجده، وأمّا بالنظر إلى ذاته فهو مجاز محض»(23). 
(4) التجلّي: 
الصّوفيّة من منطلق اعتمادهم التّلميح دون التّصريح، قد تغنّوا في أشعارهم بكلّ تجلّيات الجمال حيثما كان وكيفما كان، لكنّ تغنّيهم بجمال الأنثى كان أشدّ وأكثر وأبرز باعتباره - في نظرهم - معراجا إلى الجمال الإلهي وتجلّيا له. والنّموذج دائما ما رشح عن ابن الفارض في تائيته المشهورة 
«فكل حُسن حسنُه من جمالهـــــا...................مُعار لـه بل حُسن كــل مليحــــة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشــق...................كمجنون ليلى أو كثيْر عَــــــــزة
وتظهر للعشاق في كل مظهـــــر...................من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنـــــى وأخرى بثينـــةَ...................وآونة تدعــــى بعــــزة عــــزت
وما القوم غيري في هواها وإنما...................ظهرتُ لهم للبس في كل هيئـــــة
ففي مرة قيسا وأخـــرى كثيـْـــرا...................وآونة أبدو جميل... بثينــــــــــــة» (24) 
ومما يعلم عن بعض الصوفية «الصورة الجميلة المحسوسة المشاهدة على الأرض، إنّما تفيض عن جمال الذّات الإلهيّة، ويستغرقون في تأمّل هذه الصّورة الجزئيّة لا إعجابا بها، بل لأنّها تدلّ على جمال الحقيقة الإلهية، وتشير إليها» (25) .
إنّ الصّوفيّة من خلال ممارستهم وسلوكهم الصّوفي قد تتولّد وتنشأ لديهم معرفة خاصّة بصبغة خاصّة، وذوق خاصّ لا يطعمه إلّا الخاصّة من الخاصّة. وهم  يعنون بذلك –طبعا- أنفسهم ومن أراد أن يتذوّق أو يتحقّق، فما عليه إلاّ سلك طريق وطريقة هؤلاء الذين حاولوا جاهدين تصفية وتنقية وتخلية أنفسهم من أدران المعاصي، وتحليتها وتزكيتها بكلّ ألوان الطّاعة حتّى وصل بهم الأمر إلى التّورع عن المبيحات لعلّهم يحظون بالقربة والاصطفاء من قبل الله عز ّوجل، فتنهال عليهم المعارف والعلوم وابلا صيبا وغيثا نافعا طيّبا، فتروي ظمأهم الرّوحي وتشفي غليلهم الذّوقي والوجدي الذي يبني ويؤسّس لمعرفة صوفيّة تتميز بالخصائص التّالية: 
- اعتبارها لبّ العلم وجوهره.
- تجاوزها العقل دون أن تلغيه أو تنفيه.
- شمولها لكلّ علم.
- حصولها عن طريق التلقّي المباشر.
- سبيلها التّجربة الشّخصيّة.
- تميّزها بالجدليّة والدّهشة.
- قوامها المداومة على الذّكر.
- ارتكازها على التّوظيف المكثّف للرّمز خاصّة في الأشعار.
الهوامش
[1] الرسالة القشيرية، ص: 223.
[2] المصدر نفسه، ص: 224.
[3] كنز الأسرار، لابن عجيبة، ص: 117، قسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط برقم: 2841 كز.
[4] اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية، لابن عجيبة، ص: 19، مخطوط رقم: 301، قسم الوثائق بتطوان.
[5] الرسالة القشيرية، ص: 221.
[6] الأذكار، للنووي، تحقيق: د. حامد أحمد الطاهر، ص: 17، دار الفجر للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى: 1424هـ/ 2003م.
[7] الرسالة القشيرية، ص: 222.
[8]  الرسالة القشيرية، للقشيري، ص: 223.
[9]  المصدر نفسه، ص: 223.
[10]  المصدر نفسه، ص: 324.
[11] الرسالة القشيرية، للقشيري، ص: 323.
[12] المقدمة في التصوف، لأبي عبد الرحمن السلمي، تقديم وتحقيق: الأستاذ يوسف زيدان، ص: 23، دار الجيل، بيروت لبنان، الطبعة الأولى: 1429هـ/ 1999 م.
[13] الرسالة القشيرية، ص: 71.
[14] أبيات من قصيدة أبي مدين التلمساني، مخطوط ضمن مجموع برقم: 622، مكتبة الأزهر.
[15]  فصوص الحكم، لابن عربي، ص: 218، دار الكردي، مصر، س ط: 1388هـ.
[16] أي المحب لله تعالى.
[17]  أي معرفة الله تعالى. 
[18] مدارج السالكين، لابن القيم، دراسة وتحقيق: ناصر بن سلمان السعوي وصالح بن عبد العزيز التويجري وعلي بن عبد الرحمن الفرعاوي وخالد بن عبد العزيز الغنيم ومحمد بن عبد الله الخضيري، ص: 3536، دار الصميعي للنشر، الرياض السعودية، الطبعة الأولى: 1432هـ/ 2011م..
[19] أبيات من التائية الكبرى من ديوان ابن الفارض، مطبعة البابي الحلبي، مصر.
[20]  ابن الفارض والحب الإلهي، ص: 139، للدكتور محمد مصطفى حلمي، دار المعارف مصر، س ط: 1971م.
[21]  مشارق أنوار القلوب، ومفاتح أسرار الغيوب، لابن الدباغ، ص: 37، تحقيق المستشرق: هـ ريترط، دار صادر، بيروت لبنان، س ط: 1379 هـ.
[22] مصطلحات الصوفية، لفخر الدين إبراهيم الهمذاني العراقي، تحقيق محمود درويش، ص: 411، طهران.
[23]  مشارق أنوار القلوب، لابن الدباغ، ص: 48.
[24] أبيات من التائية الكبرى من ديوان ابن الفارض.
[25]  فلسفة الجمال، لمطار حلمي أميرة، ص: 10، دار المعارف القاهرة.