إقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
في مُواجهة الفقر (1)
 مقدّمة
رغم الجهود المبذولة لمُواجهة الفقر على الصّعيد الدّولي والمحلّي، تظلّ النّتائج محدودة إذ أنّها لم تقدر على إخراج فئات عريضة من المُجتمعات البشرية من الفقر بأبعاده المختلفة المادّية منها والبشريّة، إذ لايزال 1.2 بليون شخص في العالم يعيشون في فقر مدقع وواحد من كلّ خمسة أشخاص في المناطق النّامية يعيش على أقل من 1.25 دولار يوميا أغلبهم من جنوب آسيا وافريقيا وجنوب الصّحراء الكبرى ويُعاني واحد من كلّ أربعة أطفال دون الخامسة من العمر في العالم من قصر القامة مُقارنة بعمره. كما وقع تسجيل، خلال عام 2013، رحيل 32000 شخص عن منازلهم يوميّا بحثا عن الأمن وطلبا للحماية من جرّاء النّزاعات في كثير من بُلدان العالم.(1)
 ولم تقدر الجهود الدّولية على الحيلولة دون أن تتوارث الأجيال القادمة آفة الفقر خاصّة حين يستهدف النّشاط الاقتصادي الدّولي البيئة والأثر السّلبي لذلك على الطّبيعة وعلى القطاع الزّراعي الذي يعتبر مورد الرّزق لمعظم فقراء العالم.
 كما أثبتت الأحداث التي تفتك بمنطقة الخليج والشّرق الأوسط وبعضٍ من منطقة المغرب العربي عدم قدرة تلك الجهود الدّولية التي يُقابلها صراع على النّفوذ بين محاور، على منع اتساع دائرة الفقر.
ولقد اتبعت البشرية مناهج عديدة للقضاء على الفقر من نهج الرّفاه الى نهج الاحتياجات الأساسيّة مرورا بنهج الموارد البشريّة ووصولا الى نهج التّنمية البشرية، إلاّ أنّ جميعها، وإن استطاعت الحدّ منه نسبيا، لم تقدر على استئصاله أو رفع التّحديّات الثّلاثة سابقة الذّكر.
وتَعُود اسباب محدودية أثر تلك المناهج الى المقاربة التّقليدية التي انبثقت عنها جلّها والتي تنظر من خلالها للفقر وإلى السّياسات التي تمّ إتباعها والآليات التي وقع استعمالها للحدّ منه.
فعلى مستوى المفهوم، نُظِرَ للفقر على أنّه «فقر الدّخل» وعلى مستوى السّياسات، تمّ الاعتقاد في النّمو الاقتصادي بمفرده كمخلّص وحيد من آفة الفقر، أمّا الآليّات فقد تمّ استعمال الإعانات والتّمويل الأصغر الذي لم يسلم هو الآخر من آفة الفقر حين افتقر لتدفّق الأموال نظرا للنّظرة الى المال التي اتبعها حيث اعتبرته سلعة تُباع ُوتُشترى ولجعل الاقتصاد خادما له بدل أن يكون هو في خدمته.
وبعد أن حصل تطوّر على مُستوى النّظرة الى الفقر وعلى مستوى الوعي بحاجات الفقير، وبعد أن تمّت ملاحظة محدوديّة الاعتماد على النّمو الاقتصادي بمفرده على مواجهة الفقر فضلا عن العوائق الجمّة التي اعترضت آلية التّمويل الأصغر لتحقيق أهدافه في دمج الفقراء ماليّا، اهتدت البشريّة الى منهج التّمكين الاقتصادي علّها تقدر به على مقاومة الفقر الذي لم يخل منه عصر من العصور أو منطقة من العالم.
 فعلى مُستوى النّظرة الى الفقر، حصل تطور من اعتباره فقرا في الدّخل الى اعتباره حرمانا من القُدُرات الأساسية كما رآه الفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا صن حين قال «يُمكن اعتبار الفقر حرمانا من القدرات الأساسية وليس مجرد تدنّ في الدّخل, وهو المعيار السائد لتحديد الفقر»(2)
وعلى مستوى الوعي بحاجات الفقير حصل وعي بتعدُّدِ حاجات الفقير بحيث أصبح يُنظر إليه على أنّه ليس مقصيّا فقط من التّمويل بل أنّه مقصي كذلك من الفرص الاقتصاديّة ومن الولوج الى نوادي رجال الأعمال ومن التّمتع بخدمات البنى التّحتيّة الضّروريّة.
أما دور النّمو الاقتصادي في الحدّ من الفقر، فقد اعتبر البنك الدّولي في تقريره لعام 2016 «أنّ النّمو الاقتصادي الذي يدفع الى الحدّ من الفقر المدقع مازال مخيّبا للآمال، والمخاطر الضّخمة لتراجع الاقتصاد العالمي قائمة، كضعف الطّلب وتقييد الأسواق الماليّة وتراجع النّشاط التّجاري وأسعار النّفط المنخفضة وغيره من السّلع الأوّلية وتقلّب تدفّقات رؤوس الأموال، كما يواجه العالم أيضا تهديدات حرجة معقّدة للرّخاء على المدى البعيد، بما في ذلك الصّراعات وأوضاع الهشاشة المحلّية التي شرّدت ملايين البشر قسرا، وتفشّي الأوبئة وغيرها من المخاطر الصّحيّة في مختلف المناطق، وتأثيرات تغير المناخ التي قد تعرض الأمن الغذائي في كثير من البلدان لصدمات الأحوال الجويّة الشّديدة وتوقّف الإمدادات، وستلحق جميع هذه المخاطر أكبر الأضرار بالفقراء والضّعفاء»(3)
وقد ذكر ذات التّقرير ما يؤكّد ما ذهب اليه من أنّ النّمو الاقتصادي الذي يدفع الى الحدّ من الفقر المدقع مازال مخيّبا للآمال حين قابل نسب النّمو الاقتصادي في مناطق العالم المختلفة سواء في إفريقيا والشرق الأوسط أو آسيا وأوروبا وأمريكا بنسب الفقر وذلك بالاعتماد على معطيات دقيقة وتقييمات خاصّة حول الأوضاع، وفيما يلي جدول يعكس بعض من هذه المقابلة يشفع باستنتاج.
رأينا إذا كيف أنّ الانشغال بالثّراء المادّي والاعتماد على نهج محوره الاقتصاد واتّخاذ زيادة الدّخل كهدف والنّمو الاقتصادي كمقياس لم تفلح في الحدّ من الفقر والتّفاوت داخل المجتمع الواحد اذ اعتبر النّمو الاقتصادي مخيّبا للآمال في مجال الحدّ من الفقر.
وتفاعلا مع هذه النّتيجة اتجهت المجموعة الدّولية الى البحث عن آليّات أخرى في تعاطيها مع ظاهرة الفقر تكون أكثر نجاعة للحدّ منها وذلك من خلال وضع سياسات وطنيّة ضمن استراتيجيّة من أربعة محاور:
1) الوصول الى الفقراء بسياسات تعميم التنمية بما يُصحّح التّفاوت في التّنمية حتّى يستفيد الفقراء من ثمارها.  
2) اتخاذ تدابير لفائدة المجموعات ذات الاحتياجات الخاصّة.
3) تمكين الفقراء.
4) تحصين منعة التّنمية البشرية.
ولقد اصطلح على تسمية هذه الاستراتيجيّة وهذا النهج الجديد بـ «التمكين الاقتصادي» فما هو هذا النّهج وهل له من المُقومات ما يسمح له بالاستمرار وبتحقيق أهدافه في دمج الفقراء اقتصاديّا واجتماعيّا أم أنّ هذا النّهج سيظلّ كسابقيه أسير مقاربة تفتقر للأصل الثّابت لتحرم البشريّة في مرحلة أخرى من الزّمن من المنهج الذي يخرجها من شقاء الحرمان الى سعادة العطاء؟ أسئلة حارقة سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال على جزءين لأنّنا نرى أنّ هذا الموضوع ما لم يصبح ذا أولويّة قصوى وما لم يحظ باهتمام العلماء والخبراء والباحثين وصناع القرار في بلادنا، فإنّ قطار التّنمية سيظلّ متعطّلا فيها. 
التّمكين الاقتصادي: مقاربة منقوصة 
يعتبر التّمكين الاقتصادي منهجا لمُواجهة الفقر إذ يجعل للفقير موقعا راسخا في المجال الاقتصادي بهدف دمجه اقتصاديا واجتماعيّا وذلك عبر تقوية قُدرات التّصرف لديه وولُوجه الى الفُرص الاقتصاديّة من استثمار وعمل وتوزيع من جهة والى شبكات رجال الأعمال والبُنى التّحتية الضّرورية والتّمويل من جهة أخرى.
ولتجسيد التّمكين الاقتصادي للفُقراء لابدّ من بيئة تمكينيّة فكريّة وتشريعيّة وسياسات تنفيذيّة وقنوات تجعل الفقير قادرا على ولوج الفرص الاقتصادية والبنى التحتية الضرورية والتّمويل كمؤسّسات التّمكين الاقتصادي.
 وإن كان هدف التّمكين قاسما مشتركا لكلّ من يحترم الذّات الاجتماعيّة للإنسان إلاّ أنّ ما يستحقّ النّظر والوقوف عنده هو عدم اختلاف هذا النّهج عن سابقيه رغم قوله بمحورية الإنسان وذلك من حيث افتقاره لأرضيّة فكريّة ذات أصول ثابتة تُعطي معنى للوُجود وتجعل الإنسان بالفعل محورا للنّشاط الاقتصادي. فمحوريّة الإنسان كنوع لا تستقيم في مناخ من التّمييز تغيب فيه المساواة ولا معنى لها في ظلّ علاقات سُلطوية غير عادلة ومنظومة فساد لاتزال شبحا يقُضّ مضجع الأمن والسّلام في البلاد. إن عناوين التّمكين من قدرة على التّصرف وحرّية ومشاركة في هكذا مناخ لا معنى لها.
فالمُساواة لا معنى لها حين يحتاج الإنسان الى إنسان آخر أو حين يعتقد الإنسان في أنّ حاجته لا يقضيها إلاّ إنسان آخر، بل يتأكّد معناها حين يشعرالإنسان أنّه يتساوى مع غيره أمام قاضٍ وحيد للحاجات(الصّمد) يفتقر الجميع له، وهذا المعنى لا وجود له في مقاربة «التّمكين» المُرَوّج لها ولذلك سيظلّ التّمييز واللاّمساواة معيقين لهذا «التمكين» وتبعا لهما سيظلّ الفقرُ والحرمان ما دام اعتقادٌ في الفقر الى النّوع البشري. ويتأكد ذلك حين نستحضر حبّ الإنسان الشديد للخير لنفسه ولأقربائه أوّلا بأول وما ألهمت نفسه من فجور. 
لذلك تُصبِحُ الحاجة متأكّدة للإيمان بـ «الصّمد» أي قاضي الحاجات لجميع النّاس وبالافتقار إليه من طرف النّاس أجمعين، لتتوفّر ضمانة إقرار المساواة وعدم التّمييز بين أفراد النّوع البشري وذلك درْءًا لعلاقات سُلطوية مُوَلِّدة للفقر.
 إنّ النّظرة للفقير في نهج «التّمكين الاقتصادي» خارج التّصور الإسلامي وإن تطوّرت من اعتباره كُلفة ومُستهلكا للقيمة المضافة الى منتِج لها، فإنّ كلَّ ما تؤديه هو خلق بيئة تسمح لهذا الفقير بولوج السّوق دون أن تلج الى جوهر التّمكين. فجوهر التمكين هو مسار تحوّل اجتماعي ينتج عنه تحويل علاقات السّلطة بما يضمن لكلّ فرد الحفاظ على كرامته وتحقيق ذاته الإنسانيّة والاجتماعية من خلال مساواة حقيقية وعدم تمييز وهذا ما يضمنه التّصور الإسلامي الذي يشعر فيه الجميع بالمساواة في الفقر الى الله «الصّمد» ويؤمن بالتّقوى التي الهمه الله إيّاها وما تعنيه من إيمان بكرامة الإنسان وبالأخوّة والتّشاور والتّعاون على الخير بين جميع النّاس وبإتقان للعمل وإعمار الأرض.
إنّ علاقة الإنسان بالإنسان، إذا هي علاقة أخوّة وتعاون وتشاور، لا ينظر أحد من خلالها الى الآخر على أنّه قاض لحاجته أو فقير له بل الكلّ يعتقد في الفقر الى الله انسجاما مع الآية القرآنية «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » (4) ويعتقد كذلك أنّ الفقر وعد «الشّيطان» له لذلك هو يتخذه عدوا في انسجام أيضا مع التّوجيه الإلهي «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ» (5) وأمْرُهُ المُقِرُّ بعداوته للإنسان والقاضي باتخاذه عدوّا «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا»(6)  
كما يعتقد الجميع في أن الفضل وعد الله لهم انسجاما مع الآية القرآنيّة «اللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(7) لذلك وجب علينا تلمّس الطّريقة التي وضعها لنا الله حتّى نقي أنفسنا الفقر ونستقيم عليها. ألم يعدنا «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا»(8) فما هي مرتكزات هذه الطريقة وما هي أهم ملامحها؟ 
ذلك هو السّؤال الذي سنحاول معالجته في العدد القادم عبر تحديد مفهوم التّمكين الاقتصادي من منظور إسلامي ومعرفة عناوينه والوقوف عند شروطه بالإضافة إلى تحديد من هو المُمَكِّن من خلال النظر في آيات الذّكر الحكيم.
الهوامش:
(1) موقع الامم المتحدة :http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar/povert.
(2) «التنمية حرية» منشورات اكسفورد الجامعية – نيودلهي 2000 /ص113 ماي 2004 الكويت ترجمة شوقي جلال. 
(3) تقرير البنك الدولي لعام 2016 / ص11
(4) سورة فاطر - الآية 15
(5) سورة البقرة - الآية 268
(6) سورة فاطر - الآية 6
(7) سورة البقرة - الآية 268
(8) سورة الجنّ - الآية 16