خواطر

بقلم
أ.د انيس الرزقي
حين تكفّ الأرض عن الدّوران
 أكرمني ربّي منذ عقد من الزّمن تقريبا بالإقامة والعمل بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكنت طوال فترة إقامتي بالمدينة المنوّرة، كثيرَ التّردد على مكّة المكرّمة لتأدية مناسك العمرة، وبرغم إلتزامي بتلك المناسك سمعا وطاعة لله وإتباعا لسنّة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، كنت أحاول في كلّ مرّة بعد آدائها أن أتفكّر فيها ليس من باب التّرف ولكن رجاءً من الله لعلّه يفتح عليّ من علمه، فيريني شيئا من وجاهة تلك المناسك، اقتداء بعمر رضي الله عنه الذي خاطب الحجر الأسود قائلا: «والله إنّي لأقبلك، وإنّي أعلم أنّك حجر، وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك».
في هذا السياق كنت دائم التّساؤل عن الحكمة من وراء الطّواف حول الكعبة والسّعي بين الصّفا والمروة لسبعة أشواط ؟
الطّواف عكس عقارب السّاعة:
لسائل أن يسأل لماذا اتّفق الجميع منذ زمن بعيد على أن تدور عقارب السّاعة من اليسار إلى اليمين؟. في الواقع يغلب على ظنّ الكثير من المؤرّخين أنّ السّبب يعود إلى أنّ أول ساعة تمّ استخدامها هي السّاعة الشّمسية وهي تدعى «المزولة»(Sundial) وقد استخدمت تقريبا منذ 1200 سنة قبل ميلاد المسيح من قبل علماء الفلك البابليين والمصريّين[1]. وباعتبار أنّ كلّا من مصر والعراق تقعان في النّصف الشّمالي من الكرة الأرضيّة، حيث تشرق الشّمس - في حال توجّهنا إلى الشّمال - من اليمين وبالتالي فإنّ ظلّ عمود «المزولة»  يتحرّك عكسيّا من اليسار إلى اليمين وهكذا تمّ تثبيت هذا الدّوران على أنّه دوران عقارب السّاعة الرّسمي إلى اليوم «clockwise sense». وتجدر الإشارة إلى أنّه لو كانت أول ساعة شمسيّة في التّاريخ صُنعت في النّصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة لكانت عقارب السّاعة تدور من اليمين إلى اليسار،علما أنّه توجد وإلى اليوم في بعض المتاحف في أستراليا ،على سبيل المثال[2]، ساعات شمسيّة معكوسة، تدور عقاربها من اليمين إلى اليسار «counterclockwise» كما يمكن أيضا اقتناء ساعات حديثة عادية معكوسة من الأسواق. 
إذا عدنا إلى سؤالنا الأساسي حول حكمة الخالق سبحانه من الطّواف حول الكعبة عكس عقارب السّاعة، فإنّ تواجد مكة المكرّمة في النّصف الشّمالي من الكرة الأرضيّة يجعلنا ننظر إلى الطّواف حول الكعبة على أنّه دوران عكس الزّمن. وبالتّالي فإنّ سؤالنا حول سبب الطّواف عكس عقارب السّاعة بات أكثر مشروعيّة.
حين تكف الأرض عن الدّوران: 
لا يخفى على أحد أنّ دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس هو الذي يجعل الزّمن يتعاقب ومن هنا يأتي المعنى الرّمزي للطّواف عكس الزّمن، إذ وكأنّ الله جلّ شأنه يدعونا للوقوف مع ذواتنا ومع الله في غفلة من الزّمن. والحال أنّ المطلوب خلال الطّواف هو الدّعاء حيث أنّ الدعاء يمكن إعتباره شكلا من أشكال الحوار المفتوح مع الخالق يريده الله لنا أن يكون خارج الإطار الزّماني. ويأتي هذا في تناغم مع باقي طقوس العمرة من ترك الملابس والإلتزام بالإحرام الذي جعله الله خاليا من أيّ إشارة إجتماعيّة أو ثقافيّة في إطار التّجرّد أكثر من الذّات ومن الثّقافة. 
فكأنّ الله سبحانه وتعالى يدعونا من خلال ذلك الطواف أن نخفض من سرعة الحياة ومن نسقها المرهق بجعلنا ندور عكس عقارب الساعة أي عكس الزّمن وذلك كي نتمهّل من أجل أن نتأمّل أكثر ونتساءل أكثر ونحن في بيت الله وبين يديه سبحانه. إنّ حتمية الزّمن وأثره في الإنسان هي من المسائل التي أعجزالله بها الإنسان، إذ لا يمكن تحدّي الزّمن أو إيقافه أو تأخيره أو العودة به إلى الوراء. فمنذ تمكّن الإنسان من العلوم والتكنولوجيا وهذا الحلم المستحيل يراوده، وأنظر إلى الكمّ الهائل من الرّوايات والأفلام الهوليودية التي تحاكي تمكّن الإنسان من التّحكم في الزّمن أو السّفر فيه. 
إن من أعظم صفات الجنّة التي وعد الله بها عباده الصّالحين الخلود أي عدم الخضوع إلى الزّمن حتّى أنّ الشّيطان قد «خدع» سيدنا آدم حين وعده بالخلود، فقد قال الله تعالى «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ» [3] 
يمرّ الزّمن ولا سبيل إلى إيقافه، ويمرّ معه العمر وتنهار قوّتنا شيئا فشيئا ونضطرّ إلى التّخفيف من نسق حياتنا وسرعتها ومراجعة لائحة أولويّاتنا مرارا وتكرارا حتّى نقلّصها إلى الحدود الدّنيا الممكنة. سرعان ما يدرك العقلاء منّا أنّ في التّأني حكمة ومتعة، فمع التّخفيف في نسق الحياة والتّركيز على الأهمّ تتّضح لنا الصّورة أكثر ونبدأ بالتّأمل أكثر في حكمة الله وعظيم خلقه وهذا هو الأهم على الإطلاق. 
لا يكفّ الزّمن على المضي بنا إلى الأمام حتّى يوصلنا إلى نقطة السّرعة صفر، نقطة التّوازن كما يحلو للفيزيائيّين تسميتها “Equilibrium State”، حينها تكفّ الأرض عن الدّوران وتكفّ معها عقارب السّاعة عن الدّوران وحينها بالضّبط تُفتح بصائرنا ونتأمل الأشياء من حولنا في صمت مطلق من دون أيّ تشويش، فندرك حينها ما لم نكن ندركه طيلة حياتنا ويتّضح لنا كلّ شيء! وهنا يأتي قول الله تعالى « لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» [4]. حينها يصبح الموت نعمة. نعم، نعمة كشف الحقيقة المطلقة ونعمة التخلّص من الجسد المنهك وكل المعوقات التي تحول دون التأمّل والتبصّر في خلق الله!
قول في السعي:
تعود سنّة السّعي بين الصّفا والمروة إلى زمن النّبي إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، حيث كانت سيدتنا هاجر هي أول من سعت بين الصّفا والمروة، عندما تركها سيدنا إبراهيم في مكّة، بواد غير ذي زرع ولا ماء، فكانت تسعى بين هضبتي الصّفا والمروة تلتمس الماء لابنها الرضيع النّبي إسماعيل، فكانت تصعد الصّفا ثم تنزل وتسعى حتّى المروة، وتجدر الإشارة إلى أنّ المسافة التي تفصل بين الهضبتين هي تقريبا 400 مترا وقد كرّرت ذلك سبعة أشواط، حتّى وجدت الماء عند موضع زمزم، فشربت وأرضعت ولدها. وعملا بقول الله تعالى: «إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ» [5] أصبح السّعي بين الصّفا والمروة من مناسك الحجّ والعمرة . ومن دون الدّخول في تفاصيل وجوب السّعي من عدمه في العمرة والحج نودّ الوقوف عند هذه الشّعيرة العظيمة والتّفكر في السّؤال الذي ذكرناه في مقدّمة حديثنا: «لماذا عظّم وخلد الله هذه الحادثة؟»
إنّ كل من زار مكّة يلاحظ من دون عناء أنّ جغرافيا المكان قاسية وموحشة وأنّ الطّقس فيها شديد الحرارة معظم أيام السّنة وهي مكان لولا أنّ الله سبحانه وتعالى قدّسه لكان ربّما خاليا من السّكان ولكنّه اليوم وبفضل الله وحكمته لا يخلو من الحجّاج على مدار السّاعة طوال كامل السّنة ! ربّما جعل الله مكّة صحراويّة وموحشة حتّى لا يأتي الحجّاج للأستجمام والإستمتاع بجمال المكان، إذ يريدنا الله أن نترك الدّنيا وراءنا عندما نهب لزيارة بيته. يأتي هذا في إطار أشمل وأعم ألا وهو العمل والإجتهاد طوال الحياة حتّى الوصول إلى سبيل الله والمقصود هنا بالعمل ليس فقط التّعبد الطّقوسي وإنّما كلّ عمل مفيد للشّخص نفسه ولمحيطه. ويمكننا الإستدلال على هذا المعنى بالآية الكريمة: «يَا أَيُهَا الإنْسَانُ إنكَ كَادحٌ إلى ربكَ كدحًا فملاقيهْ»[6] . والدّعوة للكدح في الآية تشمل العمل المادّي الصّالح كما تشمل العمل المعنوي والنّفسي، بمعنى أنّ كلّ إنسان، مهما كان مستواه الأكاديمي، هو مدعو إلى فهم ذاته والتّعرف عليها أكثر فأكثر خلال مسيرة حياته. ويعتبر التّعرف على الذّات أحد أهمّ السّبل للمضيّ قدما في مسيرة التّعرف على الخالق الأعظم وهو الهدف الأهمّ في حياة الإنسان المؤمن. من هنا نأتي إلى مسألة إدراك الخالق والتّيقن من وجوده عز وجلّ. ولا يخفى على أحد أنّ هذا الإدراك يتفاوت من شخص إلى آخر وقد يكون الوصول بالنفس إلى أعلى درجاد اليقين بوجود الخالق أهمّ المقاصد الإيمانية. وكلّما إزداد الإنسان يقينا، كلّما كان أقرب إلى الله وكلّما إنشرح صدره أكثر وازداد طمأنينة وسكينة. 
لقد كانت ولازالت مسألة التّدرج في السّلم المعرفي من الإدراك إلى الشّكّ إلى المعرفة إلى اليقين مسألة مهمّة بالنّسبة للفلاسفة عموما والمختصّين في علوم التّربية على وجه الخصوص. فقد قال روسو «Rousseau»:
«Conscience! Conscience ! Instinct divin, immortelle et céleste voix ; guide assuré d›un être ignorant et borné mais intelligent et libre; juge infaillible  du  bien  et  du  mal, qui  rends l›homme semblable  à Dieu.» [7].
وفي ربطه بين الإدراك والوجود قال ديكارت «Descartes» :
«Je suis, j›existe, est nécessairement vraie, toutes les fois que je la prononce ou que je la conçois en mon esprit. » [8].
ونأتي هنا إلى ما نعتقد أنّه إجابة على سؤالنا الثّاني حول سبب تخليد الله عزّ وجل سنّة السّعي بين الصّفا والمروة. ففي الواقع يغلب على ظنّنا أنّ سيدتنا «هاجر» قد تكون أكثر مخلوق أدرك يقينا وجود الخالق وقدرتة اللاّمحدودة، سبحانه وتعالى عمّا يصفون، على وجه الأرض وعبر التّاريخ. لقد أدركت سيدتنا «هاجر» ومن دون أدنى شكّ اليقين بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يرزقها الماء لها ولإبنها إسماعيل بالرّغم من تواجدها في إطار مكاني «يستحيل» على غير الموقن بالله التّصديق بأنّ فيه ماء!. ولهذا السّبب أعزّ الله ذكرى سيدتنا «هاجر» بالخلود لكي يذكّرنا نحن باقي البشر بأنّه قادر مقتدر على كلّ شيء مهما بدا لنا مستحيلا بحسابات الدّنيا. وهذه الدّرجة من اليقين مطلوب من أيّ مؤمن السّعي لإدراكها وهكذا يكون السّعي بين الصفا والمروة أثناء الحجّ أو العمرة أحد السّبل لتدعيم اليقين بالله سبحانه.
المراجع:
[1] Aaboe, Asger. «The culture of Babylonia: Babylonian mathematics, astrology, and astronomy.» The Assyrian and Babylonian Empires and other States of the Near East, from the Eighth to the Sixth Centuries B.C. Cambridge University Press, (1991).
[2]: http://www.compassmuseum.com/sundials/sundials.htm
[3] سورة طه - الآية 120 . 
[4] سورة قاف - الآية 22
[5] سورة البقرة - الآية 158
[6] سورة الإنشقاق - الآية 6
[7] : Jean-Jacques Rousseau: Emile ou de l’éducation. 1762. 
[8] : René Descartes : Méditations Métaphysiques. 1647 -Traduction Françaises du Latin.