9 أسئلة

بقلم
موسى المودن
التجربة الروائية والقصصية للأستاذ أحمد المؤذن بين وهج الإبداع والأثر المتميز
 تبقى المراقي بين الدروب أمرا عاديا، لكن أن يتجاوز الإنسان خطوط المراقي إلى التميز فذاك من النوادر، فقد برزت في الساحة المشرقية وجوه أدبية عديدة، عبرت عن طموح الإنسان وأساليب العيش ونوع الشعور. وبين هذه التعابير تألقت تجارب عديدة، عبرت عن وهج أدبي وفني متصاعد، يعضده بروز وجوه شابة أخذت مشعل التألق، فمزجت بين نفحات المواضي ودروب المراقي. وفي خضم هذا الوهج الإبداعي يتألق خط مبدع ((بحريني)) من بلاد الخليج المثمر، ليتألق خط هذا الإبداع بين الدروب، فيكشف لنا عن خبايا الواقع وأفقه. ليثمر هذا الأثر تجارب روائية تارة، وقصصية تارة أخرى. 
عن تجربة الرّوائي البحريني «الأستاذ أحمد المؤّذن» في ميدان العمل الرّوائي والقصصي، انطلقنا معه في حوار هادئ، نكشف فيه عن خصوصيّة المشهد الأدبي والفنّي البحريني، وعن أهم الأمور التي شجّعت وتشعّ الكتابة المشرقيّة، وكذلك عن أهم العوائق التي تقف أمام الكثير من أحلام الإبداع والتّألق. فكان الحوار على الشّكل التّالي:
(1)
لكلّ منّا سيرة، يبني عليها أفقه، فمن هي شخصيّة أستاذنا «أحمد المؤذن»؟ 
شابّ من عامّة النّاس ينعزل بين وقت وآخر بين رفوف كتبه، يبحر في عوالم أخرى بين القصّة والرّواية والمقال. يحبّ فعل الخير بلا مقابل، يفضّل الانشغال بأخطائه بدل تفتيش نوايا النّاس أو محاكمتهم، يحبّ العمل التّطوعي، يتورّط في دنيا الثّقافة محاربا في كلّ الاتجاهات ولا يتوقّف عند محطّات التّعب والإحباط. الثّقافة لديه أسلوب حياة وعقيدة راسخة في تكوينه الوجداني، ينطلق محاولا تغيير العالم بلغة الحبّ علّه يترك أثرا يستحقّ أن يُـروى عنه بعد رحيله. يتحفّظ في شيء من الرّيبة عند كلّ زاوية فرح لكونه يعرف أنّ فرح هذا العالم قليل وحزنه أكثر، يحبّ الصّدق حتّى لو دفع فواتير خاسرة في التّوقيت الضّائع، يعمد إلى التّضحية ما دامت تصنع فارقا إيجابيّا وإن كان ضمنها جنديّا مجهولا. هذا هو المؤذّن !
(2)
 لا بدّ لأيّ توهّج إبداعي أثر قديم، يجعل الإنسان يستمرّ من جهة، ويطوّر جهوده من جهة أخرى، ليحوّل هذه الدّفقات الخارجيّة والدّاخلية إلى طاقة إبداعيّة تمرّ على كلّ أعمال أدبيّة. فكيف اكتشف أستاذنا ذاته في خضمّ التّجربة؟
اكتشاف الذّات أمرٌ عصيّ، ماذا تريد من هذا العالم ؟! أأنا متفرّد وسط هذا المحيط الإنساني متلاطم الأمواج؟ تساؤلات عديدة تلحّ على الفرد بالأخصّ حينما يكون كاتبا أو مثقّفا، خضمّ التّجربة مع كونك كاتبا، يجعلك تتأمّل ما حولك ثمّ تبدأ بمحاولة فهم هذا العالم وفي لحظة الكتابة أنت تعمد إلى قراءة أو ترجمة ما يتوارى في الذّات لتسقطه على مفردات الكون حولك، بعد هذا تكتشف تدريجيّا خارطتك الدّاخلية وتتعرّف على «أناك» وتختبر مختلف ألوانها في تقلّبات الظّروف والأحوال. التّجربة هي التي تشكّل طينك الأول في فرن الحياة حينما تصهرك بنار التّعب وحزن المسافات التي تختبر عزيمتك في الدّروب الوعرة، فليس هناك تذاكر مجانيّة تهبك إيّاها الحياة كي تبلغ أمانيك. 
(3)
لا بدّ للإنسان من سند يسير معه، ويحمل عنه بعض ما يؤرّقه من هموم ويساعده على تجاوز بعض العثرات. فهل وجد أستاذنا من يأخذ بيمناه في محيطه الأسري من جهة، ومحيطه الأدبي والمؤسّساتي من جهة أخرى؟
أوّل من شكّلني كقاصّ وزرع بي حبّ الحكاية هي أمّي «السّيده نجيبة» حيث كانت ولاتزال تروي حكاياتها الشّعبية عليّ، كما أنّها حضرت معي لتشريف حفل تدشين مجموعتي القصصيّة الثّانية «من غابات الأسمنت». هي من ساندتني بذات الوقت في استبدال حاسوبي القديم حتّى لا أتوقّف عن الكتابة، فهي وقفت معي في الكثير من المحطات وأعتبرها الدّاعم المعنوي لي في المقام الأول. ضمن محيطي لا يمكن أن أنسى فضل الأستاذ «علي باقر»عليّ، فهذا المربي الفاضل أخذ بيدي وساعدني على نشر تجاربي القصصيّة الأولى. أمّا على صعيد المؤسّسات التي وقفت معي وآمنت بتجربتي وتبنّت تمويل بعض إصداراتي فأذكر مركز «جدّة حفص الثّقافي» ومركز «كرزكان الثقافي والرياضي» و«أسرة الأدباء والكتاب» بالبحرين. 
(4)
الواقع الأدبي يشير إلى تراجع متواتر في خطوط الإبداع، فهل يروقك واقع المبدع والإبداع في وطنك البحرين وباقي البلدان العربيّة، وهل ترى أيّ أفق لعودة النهضة الأدبيّة العربيّة ؟ 
واقع المبدع في البحرين لا يزال دون الطّموح، يتلقّى الدّعم وإن بوتيرة محدودة. في الأعوام الماضية كانت السّاحة الثّقافية من حيث الأداء العام أفضل في استيعابها للمثقف البحريني عندما كانت هناك جائزة التّميّز للكتّاب في القصّة والرّواية والشّعر. أمّا اليوم، فالمبدع المحلّي يشقى ويتعب كي يصدر كتابه الأول. صحيح أنّ الدّعم المؤسّساتي موجود لكنّه ضيّق ومحدود. من جهة أخرى لا نستطيع أن نطلق جزافا على كلّ ما يُـطرح في سوق المكتبات (إبداعا) حيث أنّ روح الحماسة لدى الأقلام الشّابة يجانبها الصّواب أحيانا وتستعجل النّشر قبل أن تنضج تجاربها بالشّكل الكافي سواء في الشّعر أو القصّة أو الرّواية. و يرتبط واقع الإبداع على صعيد البلدان العربيّة، بجوانب تنموية تتعلّق بكيفيّة زرع حبّ الثّقافة في الأجيال الشّابة وكيف نترجم وننفّذ سياسات ممنهجة وصحيحة تخدم المناخ الثّقافي الحضاري الذي نطمح إليه حتّى نبلغ حلم النّهضة العربيّة التي لاتزال مجرّد شعارات لا رصيد لها في الواقع وسط حالة عدم الاستقرار التي تضرب دول العالم العربي. لا نتشاءم ولكن هناك ثمّة أمل في نهاية النّفق، بناء النّهضة العربيّة ممكن بتفعيل إرادتنا السّياسية مع الحرص على رصّ الصّف العربيّ خارج الإملاآت الدّولية المهيمنة ولكن البقاء في خندق التّنظيرات الإعلاميّة بلا حراك فعليّ على الأرض لا يثمر شيئا سوى الثرثرة الاستهلاكيّة كالتي تنتجها الملتقيات والمؤتمرات الدّولية وتُغدَق عليها الميزانيّات بلا رصيد حقيقي يغيّر من واقعنا العربي.
(5)
لا بدّ لأي عمل من مناخ (عادات، تقاليد، دين، أعراف..) يؤثّر في دواليبه، وتأثير هذا المناخ قد يقيّد هذا الإبداع، فهل أحسست وأنت تؤثّث لمشاهدك الإبداعيّة بأيّ من هذه السّلط؟
أول عهدٍ لي بالكتابة وأنا أبحث عن قراءة القصّة القصيرة أو الرّواية، رفضت فكرة الأدب الوعظي في محاولة من أساتذتي (لقولبتي ) ضمن هذا التّوجه في وقتها، فضّلت ممارسة القراءة ثمّ الكتابة بحرّية. قال لي النّاشر البحريني السّيد «موسى الموسوي» ذات يوم : « لتكتب بحرّية.. اجعل رقيبك الدّاخلي تحت قدمك!» بلا شكّ فإنّ عمليّة الكتابة تمرّ بمراحل معقّدة في ذهن المثقّف قبل أن يتمّ إفرازها على الورق لكن في تصوّري، لا يمكن أن نعول على إبداع حقيقي بدون حرّية، لا أقصد من وراء هذا الخطاب أنني أضرب بعرض الحائط «تابوهات» المجتمع الذي أنتمي إليه ولكنّي أجد أنّه بمجرّد المشاكسة والتّلميح المضمر في حدود الممكن، نستطيع تجاوز الخطوط الحمر التي تفرضها سلطـة المجتمع أو الدّين أو العادات والتّقاليد بحيث نمسك العصا من النّصف على أحسن تقدير ونبلغ الرّسالة التي نريد للمتلقّي، مهمّة الكاتب ثقافيّا مشكوك في مصداقيتها إن لم يشاغب أو يتمرّد، ليس هذا مجرّد « تغريد خارج السّرب» مبرّره محاولة التّفرد للفت الأنظار وحسب، بل لممارسة مسؤوليّة فضح ما هو مسكوت عنه في مجتمعاتنا العربيّة.
(6)
لحضرتكم الكثير من الأعمال الأدبيّة المميّزة، فحبّذا لو سردت لنا بعض التّفاصيل عنها، وخاصّة عملك المثير رواية « وقت للخراب القادم»، الذي تضمن الكثير من الرّؤى حول صراع العوالم وإشكاليّة الخير والشّر كسؤال فلسفي يكتسي طابعا سياسيّا دراميّا كما هو واضح من العنوان، عن أي خرابٍ تتحدّث هنا؟ 
ربّما يطول الحديث حول أعمالي الأدبيّة المنشورة ولكن بصورة عامّة. أنجزت خمس مجموعات قصصيّة قصيرة وهي: (أنثى لا تحبّ المطر / من غابات الأسمنت / رجل للبيع / وجوه متورّطـة / الرّكض في شهوة النّار). عملي الرّوائي «وقت للخراب القادم» هو العمل الأول لي في عالم الرّواية، حقيقة هذا العمل تحدث عن ثمن الدّيكتاتوريّة وما يمكن أن تدفعه الشّعوب من فواتير مستقبليّة تحرق مستقبلها وأحلامها وأمانيها وأمنها وسعادتها وهنا تقع ثيمة «الخــراب» في موقع محوري من احتدام الصّراع على مختلف المسارات والتقاطعات.
محطّات كثيرة تمرّ بها هذه الرّواية التي كُـتب عنها الكثير بما يناقض قلّة الاكتراث بها محلّيا إلى درجة مصادرتها من قبل جهة رسميّة (...... ) ومن ثمّ إعدامها كأيّ كتاب غير مرغوب! بالرّغم من ذلك حقّقت الرّواية انتشارا أفضل وحصدت عام 2013 المركز السّادس في الكتب الأكثر مبيعا في معرض الشّارقة الدّولي للكتاب. نزلت إلى الأسواق في طبعتها الأولى عام 2009 في دمشق ثم الطّبعة الثّانية والثاّلثة في القاهرة 2013 - 2014 م.
(7)
كيف تقرأ أفـق التّجربة الرّوائية والقصصيّة بمملكة البحرين، وهل انفتاح المرأة البحرينيّة في نظــرك سيساهم في كسر الطّوق؟
متفائل بهذا الأفق في ساحة ثقافيّة نشطة تقدّم عطاءاتها بغضّ النّظر عن الصّعوبات التي يواجهها المثقف البحريني، الأجيال الشّابة التي تؤسّس تجربتها بشكل صحيح إن كان على صعيد القصّة أو الرّواية مثل.. ( فتحية ناصر، فواز الشّروقي، عبد العزيز الموسوي، حسين عبد علي خليل، أيمن جعفر، خديجة هارون) مع أسماء أخرى كبيرة العمر والتّجربة مثل ( الرّاحل عبد الله خليفة، فريد رمضان، جمال الخياط، أمين صالح، عبد القادر عقيل، محمد عبد الملك، حسن بوحسن، مهدي عبد الله، رسول درويش، نعيمة السماك، فوزية رشيـد ) وأسماء أخرى لا تحضرني الآن جلّها تؤثّث المشهد السّردي المعاصر في مملكة البحرين وهي بمثابة رافعة لهذا المشهد تؤكّد حضورها الإبداعي ولاسيما « الراحل» عبد الله خليفة حيث إصداراته لاتزال تتواصل مع السّاحة رغم غيابه عنا.
اليوم. انفتاح المرأة البحرينيّة لا أحد يشكّ في حراكه، فالمرأة لها حرّية الكتابة على صعيد السّاحة الأدبية ولا أعتقد أنّها محاصرة، يبقى هناك ثمّة إشكاليّة يفرضها الرّجل عندما يمارس سلطته الذّكوريّة ويمنع زوجته من الكتابة في الصّحافة المحلّية أو أن يمنعها من إصدار كتاب أو الظّهور في الملتقيات الثّقافية، هذا يحدث ولكن على نطاق ضيق، الصّورة العامّة تخبرك أن المشهد الثّقافي البحريني يحتفي بالمرأة البحرينيّة ويحسن تكريمها على مجهوداتها.
(8)
ماذا تعني لك هذه الكلمات في نطاق الإبـداع والحياة: ( التقاليد، الدّين، المرأة، الحبّ، الحرّيـة ) ؟ 
التّقاليد: نستطيع دراستها ومن ثمّ دمجها ضمن عمليّة الكتابة كي نخبر ( الآخر ) عن هويتنا الثّقافية لا أن نتوقّف عندها ونجعلها حائط صــدّ في سبيل تقدّمنا ومواكبة العصر.
 الـدّين: حاجة فطريّة وروحيّة تحفظ للإنسان توازنه العقلي والنّفسي ومن جهة أخرى لا يجب أن « نؤدلج» أو « نطأفــن / طائفية» هذا الدّين حتّى نبلغ مرحلة الصّدام والمواجهة التي تجرّ الويلات والحروب على بني البشر، يريد الله تعالى لنا الخير والسّلام عندما نؤمن، فلماذا نتقاتل ؟! 
المرأة: لولاها لما كتبت القصائد أو اخترعت الألوان والعطور والأزياء، فبدونها تصعب الحياة على وجه الأرض.
الحبّ: نسائم الحياة على الأرض والثّدي الأول الذي أرضع الإنسانيّة معنى الكينونة وفهم الذّات، حيث لا يمكن أن نكتب بلا لغة الحبّ أو نمارس حياتنا في دائرة الرّوتين بلا أو كسجين الحبّ.
الحرّية: صعبة المنال وعصيّة على الامتلاك، أريق في سبيلها أنهار من الدّم والدّموع وكانت ولا تزال محور صراعات شتّى لا تستثني حرّية الكاتب الذي يسلخ من جلده كي «يكون» فإن نجح في الاختبار يكون جديرا بالألقاب التي تسبغ عليه، لا أن تكون « مجانية»  بلا رصيد من التّضحية الحقيقية! 
(9)
كلمة أخيرة للأستاذ أحـمد المؤذن: 
أوجه شكري لك ولأسرة تحرير مجلة «الإصلاح التونسية» على إتاحة هذه الفرصة الطّيبة، حيث من المهمّ هنا تقريب المسافات بيننا في الخليج العربي والمغرب العربي بغية لمّ شمل المشهد الثقافي العربي من المحيط إلى الخليج وهذا تماما ما نحن في حاجة إليه حينما تتعذر فرصة اللّقاء المباشر عن طريق الأعراس والفعاليات الثّقافية التي تكرّس في أغلبها حالة الشّللية ولا توفّر المناخ الملائم كي نلتقي على بساط المحبّة والبساطة، هي بادرة جميلة من منبركم «مجلة الإصلاح التّونسية» تؤسّس لحدث أكثر جمالا ذات يوم عندما نزور ضفاف البحر الأبيض المتوسط ونحن نحمل لكم رائحة نخيل ديلمون وأهازيج « جلجامش».