تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مرافعات
 أصبح السّؤال متداولا : «اليوم بعد إقالة المدير العام وتعيين المدير الجديد، ما مآل المدير القديم؟» لماذا يطرح هذا السّؤال أصلا والجواب بيّن في شروط التّعيين في الخطّة الوظيفيّة وشروط الإعفاء منها؟ نقطة الاستفهام هذه قد تبقى قائمة اليوم وغدا طالما لم تنطلِ الثّورة على عقول بعض التّونسييّن وبعض آخر يرى أنّ كلمة «ثورة» لا تناسب ما حدث. 
لم نتعوّد أن يعود المدير العام السّابق إلى سالف نشاطه بمكتبه الذي كان يشغله، أوّلا لأنّه شُغِل ظنّا منه أن لن يعود إليه وثانيا لأنّ هذا الظنّ كان قبل الثّورة يقينا. أمّا اليوم، وإذا ما صدق حمّة القائل « اليوم صارت ثورة»، أليس من الأجدر إعادة التّفكير وإصلاح حالنا فيعود المدير العام السّابق إلى مكتبه في أريحيّة تمكّنه من مزاولة نشاطه في مجال اختصاصه، فيفيد المؤسّسة بما توفّر لديه من خبرة وتجارب خاضها في أعلى مستوى ويسهم في رسم الأهداف وتحقيقها يد في يد مع الإدارة الجديدة.
إن كانت الثّورة لا تعني هذا، فلا بارك الله فيها.
كنّا نظنّ أنّ بعد الثّورة التي قامت على الفساد والتّسلّط واستغلال النّفوذ، أصبح المسؤول يُسأل وأن لا أحد فوق القانون، وهو ما صدّقه كلّ عاقل حسن النيّة، بل هناك من ذهب أبعد فتوقّع أن يتخلّى مسؤولون عن مواقعهم خوفا من المساءلة والتّتبع. ولكن هيهات. فالأحزاب السّياسية كبيرة كانت أو صغيرة رأت في هذه الثّورة آفاقا واعدة، ومتحرّرة من كلّ قيد، وجدت نفسها أمام فرصة ثمينة لتثبّت قواعدها. ولكن بأيّ الوسائل في غياب الخطاب الذي تعوّدت به شعوبنا في تجربتها التّحررية وما بعدها؟ من ينسى خطابات الزّعماء بورقيبة، فرحات حشاد وجمال عبد الناصر وغيرهم، ما اعتلوا منبرا إلاّ ليتحدّثوا بلسان صدق اهتزّ إليه من حولهم، فما زادوهم إلّا إيمانا.
عديدة هذه الأسئلة، ولا يمكن للسّاسة اليوم إلاّ السّكوت حذرا أو الصّمت كرها ولكنّ التّدافع، سواء أقرّوه أو استنكروه، دفعهم إلى شراء من يحسن الخطاب. ولكن عن أيّ خطاب نتحدّث؟ خطاب الإقناع والدّعوة للتّعبئة لبناء مقومات هذا المجتمع الثّائر على الفساد والذي يرنو إلى العزّة والكرامة أم الخطاب الاستئصالي عنوانه «أنا أو لا أحد»؟
 تمرّ البلاد بفترة كساد وبطالة تطول كلّ شرائح المجتمع. ولكن يبدو أنّ قطاع المحاماة والقضاء سوقه مزدهر والمحامون لا يشكون بطالة هذه الأيام. البيع كالشّراء نشط. والمرافعات من كثرتها فاضت وخرجت من تحت أبواب قصر العدالة لتنتصب على قارعة الطّريق تفوح رائحتها النّتنة تحت عنوان حقّ التّمتع بالدّفاع لضمان محاكمة عادلة. وتحت عناوين أخرى مثل المساهمة في إدارة الشّأن العام  عبر المجتمع المدني أو عبر الفعل السّياسي. لهذا كلّه، تمّ انتداب مستشارين قانونييّن في صلب الأحزاب لا للدّفاع عن حقّ مهضوم ولا لبيان حقيقة تنير العدالة ولكن فقط لإرضاء الحريف الموكّل تحت راية «الحريف هو الملك». فهل نجح المحامون اليوم في تبرير  كساد المحاماة بارتفاع الحناجر دفاعا عن الشّيطان؟ 
هؤلاء محامــون أهملوا قضايــا موكّليهم البسطــاء وارتخى لسان الدّفاع لديهم وارتموا في أمواج تتلاطم، يخوضون فيهــا بسلاطــة اللّســان وسفاهة البرهان فلا يزيدون هذه الأمواج العاتية إلاّ عنفا. محامون نجدهم كذلك دون حرج يتصدّرون منابــر الجمعــة شيوخا خطباء أو على المنابر الإعلاميّة يجادلون أكاديمييّن علماء وفلاسفة. أكلّ هذا بفعل ما تلقّوه من دروس في مادّة العلــوم السّياسيـة؟ طبعــا لا . أصبح الشكّ يقينــا. إنّ ما يميّز محامو هذا الزّمان هو أساليــب المرافعة التي ارتكزت على طلاقة اللّسان والصّوت العالي وتصلّب الأوداج. المرافعة في ظاهرها إقناع ببيان الحقيقة وفي باطنها تأثير وإخفــاء لنفــس الحقيقــة التي لا تخدم مصالح الموكّل.
نعم، ضمّت كلّية الحقوق منذ نشأتها العلوم السّياسية، فأنارت عقول المحامين الطّلاب وأعدّتهم لخوض التّجارب ومكّنت عددا منهم ليتصدّروا المنابر ويُدلوا بدلوهم في الشّأن العام والخاصّ. ولا أحد ينكر فضل هذه الكلّية في تكوين أجيال آمنت بالحرّية وتشبّثت بها. شرف نالته المهنة بشهادة تاريخ هذه الأمّة. وكم تمنّيت أن تُدرّس مادّتي الحقوق والعلوم السّياسية في الكلّيات الأخرى طبّ وصيدلة ولم لا الهندسيّة. 
ماكينة الحرّيــة تدور ولا تتحـــرّك وتطحــن كلّ مــن يعترضهــا وكذلك من يحاذيها ويسايرها من شرفاء هذا البلد.