تراثنا

بقلم
الميلود كعواس
التعريف بمخطوط: نوازل ابن الحاج الشهيد
 مقدمة
حظي تراثنا منذ ظهور المطبعة الحديثة بالبلاد الإسلامية بعناية كبيرة من حيث طباعته وتحقيقه، إلا أن عددا ضخما منه لا يزال مركونا في بطون الخزائن الخاصة والعامة، ينتظر من ينقذه من أسر الجدران ونهش الأرضة وتخريب الإنسان. ولعل أول ما يعين على إنقاذ تلك الكنوز؛ هو خلق وعي فكري وثقافي يرتكز على التعريف بها أولا، ثم لفت الأنظار إلى أهميتها وقيمتها المعرفية والتاريخية والحضارية والفنية والجمالية، ثانيا. وهذا يحتاج إلى إيجاد مؤسسات علمية متخصصة، تتولى هذه المهمة وتشرف عليها، وهو ما تحاوله عدد من الهيئات في المشرق والمغرب.
ومن أجل الإسهام في التعريف بما خلفه الأسلاف، اخترت في هذه المقالة أن أطلع القارئ الكريم على كتاب يعتبر من عيون ما ألف في فقه النوازل عامّة وبالأندلس خاصّة، لا يزال إلى اليوم ينتظر من يخرجه من درج الرّفوف إلى عالم الطّباعة. إنّه كتاب «النّوازل» لابن الحاج الشّهيد؟ فمن هو الرّجل؟ وما قيمة مصنّفه؟
من هو ابن الحاج الشهيد؟
هو أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبي الأندلسي الشهير بابن الحاج. ولد عام 458هـ. فتح الرجل عينه بقرطبة وهي يومئذ سوق نافقة في مختلف أنواع العلوم وفنون الأدب. فتتلمذ على كبار علماء عصره، فسمع من محمد بن فرج، وأبي علي الغساني، وابن الخشاب البغدادي، وأبي جعفر ابن زرق، وأبي الحسن بن حمدين، وغيرهم (1) . 
استطاع الرجل بجده واجتهاده أن يرتقي سلم المعرفة سريعا، فصار «من جلة الفقهاء، وكبار العلماء، معدوداً في المحدثين والأدباء، بصيراً بالفتيا رأساً في الشورى. وكانت الفتوى في وقته تدور عليه لمعرفته وثقته وديانته»(2) .
ونظرا لمكانته هذه فقد تقلد القضاء بقرطبة مرتين، وكان في ذاته ليناً صابراً طاهراً حليماً،لم يحفظ له جورٌ في قضية. ولم يزل على هذه السّيرة إلى أن قتل يوم الجمعة ظلماً بالمسجد الجامع بقرطبة وهو ساجد، في صفر سنة (529هـ) (3) .
كتاب «النوازل» لأبي عبد الله ابن الحاج الشهيد (ت529هـ). 
يعتبر هذا الكتاب من أعمدة فقه النوازل بالأندلس خاصة والغرب الإسلامي عامة، فقد كان متداولا بين الناس معروفا، وسندا يتكئ عليه في الفقه والفتوى(4) . كما حظي بالعناية والاهتمام من لدن العلماء عبر التاريخ، حيث قام بعض العلماء بترتيب محتوياته؛ كعبد الله بن أحمد بن محمد الغافقي (ت731هـ)، الذي رتبه في كتاب سماه «المنهاج في ترتيب مسائل أبي عبد الله بن الحاج»، كما رتبه أيضا عبد الرحمن بن محمد القيسي (ت737هـ) (5) . 
وقد سلمت نسخ من هذا المصنف من عوادي الدّهر، إذ توجد منها عدّة نسخ في الخزائن والمكتبات منها: 
- نسخة تامّة، تقع في خمس ومائتي لوحة، محفوظة ضمن مجموع بمدرسة أزاريف بآيت حمد بإقليم تزنيت بالمغرب، تحت رقم:23. وهي مكتوبة بخط جميل مقروء، وقد طمس الجانب الأيمن من اللّوحة الأولى، والجانب الأيسر من اللّوحة الثانية. كتب على صفحتها الأولى: «نوازل الفقيه الإمام المشاور قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن الحاج». وهي خالية من المقدّمة والخاتمة، وذكر اسم الناسخ وتاريخ النسخ.  
- نسخة أخرى محفوظة بالخزانة الوطنية بالرباط المغربية تحت رقم: ج 55. وهي نسخة غير تامّة، لكنّها هي النّسخة المشهورة والمعتمدة عند جمهور الباحثين والمتخصصين.
- نسخة أخرى محفوظة بالخزانة الوطنية بالرّياض، تحت رقم: 448. وهي مكتوبة بخطّ جميل مقروء، خالية من المقدّمة والخاتمة، وذكر النّاسخ وتاريخ النّسخ. وتقع نسخة الرّياض في ستّ وستين لوحة، تتضمّن كلّ لوحة منها صفحتين. وهي مبتورة الآخر وتعتريها خروم كثيرة. وميزة هذه النّسخة أنّها مرتّبة حسب أبواب الفقه، وكتب في رأس الصّفحة الثّانية منها: «مسائل جمعتها من كلام الفقيه «أبي عبد الله ابن الحاج» رحمة الله عليه ورضوانه لديه». ويتبيّن من صيغة العنوان أنّ هذه النّسخة ليست مكتوبة بيد ابن الحاج، فيحتمل أن تكون مكتوبة بيد أحد تلامذته أو من جاء بعدهم، وقد تكون هذه النّسخة هي الكتاب الذي رتّبه «الغافقي»، أو «عبد الرحمن القيسي» الآنف ذكرهما.
قيمة الكتاب وأهميته: 
إن لنوازل «ابن الحاج» فائدة جليلة جدّا، فهي لا توفّر لنا مادّة فقهيّة تتمثّل في فتاوى لها صلة بأسئلة معينة تعود إلى عصر المؤلف فقط، وإنّما تقدم لنا فائدة عظيمة يستفاد منها في مختلف الدّراسات الفقهيّة المعاصرة، نظرا لما تتضمّنه من مبادئ في صياغة الفتوى وتنزيلها، وضوابط مراعاة المآلات والمقاصد، وقواعد في الفقه والأصول، وأسس  معتمدة في الاستنباط والتّنزيل والتّخريج الفقهي، التي يعزّ وجودها في مصادرها المتخصّصة، ناهيك عما تحفل به من الإشارات التّاريخية الاجتماعيّة؛ كعادات الأفراح والأقراح، وتقاليد الملبوسات والمطعومات، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة السّائدة خلال تلك الحقبة التّاريخيّة؛ ممّا يجعل فائدتها غير مقصورة على المشتغلين بالفقه وعلومه فحسب، بل تتعدّاهم إلى غيرهم من المتخصّصين في سائر العلوم الإنسانيّة، والدّراسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّاريخيّة (6) .
رغم هذه الأهمية، فلم يجد الكتاب بعد طريقه إلى نور الطباعة، ونرجو أن يخرج إلى الوجود قريبا، خاصة وأنه قد حقق مؤخرا من قبل الدكتور أحمد اليوسفي، الذي نال به درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين بتطوان المغربية.
الهوامش
(1) الصلة، تر: 1286، 844-845.  أزهار الرياض، 3/61-62.  المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي، ص: 118-119. الغنية، ص: 47-48. تاريخ قضاة الأندلس، ص: 134. فهرست ابن خير، 2/595.
(2) الصلة، تر: 1286، 844-845.  
(3) الصلة، تر: 1286، 845. تاريخ قضاة الأندلس، ص: 134. فهرست ابن خير، 2/595. الغنية، ص: 48.
(4) أزهار الرياض، 3/62
(5) نيل الابتهاج، تر: 288، ص: 244. الديباج، تر: 286، ص: 230.
(6) أنظر مثلا الدراسة التي قام بها أحمد اليوسفي شعيب بعنوان: أهمية الفتاوى الفقهية في كشف وقائع التجربة الأندلسية: نوازل ابن الحاج نموذجا. وأنظر ما كتبه مصطفى بن سباع ومحمد عبود تحت عنوان: جوانب من المجتمع الأندلسي خلال عصري الطوائف والمرابطين من خلال نوازل ابن الحاج. كما استفاد من المخطوط من الوجهة التاريخية إبراهيم بوتشيش في كتابه: المرابطون: المجتمع والذهنيات والأولياء.