تجليات

بقلم
عادل دمّق
الوحي الإلهي والوعي الإنساني
 إضاءات
* « أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1).
* « تبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا» (2)  
* «أرأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (3).
* « نجد العقل يسعى بلا كلل وراء المطلق الضّروري ويرى نفسه مضطرّا الى التّسليم بوجوده، دون أن يكون لديه وسيلة تمكّنه من تفهم طبيعته، وما أشدّ ما تكون سعادته لو وفق الى العثور على التّصوّر الذي يتّفق مع هذا الافتراض» (4).
* « لو أمعنّا التّفكير في الفشل المحزن الذي تمنى به اجراءاتنا للوقاية من التّعاسة لشرعت تراودنا الشّكوك بأنّ ثمّة قانونا ما للطبيعة التي لا تقهر يتوارى هنا أيضا عن الانظار، وأنّ هذا القانون يتعلّق هذه المرّة بتكويننا النّفسي بالذّات» (5).
ما أوّل الزّمان؟ وما أوّل المكان؟ 
وما أوّل الإنسان؟ وما أوّل الوعي؟ 
هذه أبرز الأسئلة المركزيّة التي شغلت الفكر الإنساني على الإطلاق، ولأنّ الإنسان ليس خالق نفسه، ولا مصدر ذاته، ولا منبع هدايته، فإنّه بطريق الاضطرار يعود في تفسير الكينونة للعلاقة بينه وبين قوةٍ وسلطةٍ خارجةٍ عنه، ويظلّ يحاول الجمع بين الحقائق الماثلة أمام بصره وبين مايرى أنّه الحقّ في بصيرته، لكنَّ ابتعاده عن هداية الوحي(6) في كثير من المحاولات التّفسيريّة والتّنظيريّة - يقع في محاولة التّرجيح بين أقوال نُظَّارٍ سبقوه في محاولة الجمع بين طرفي العلاقة، ويجد نفسه في الغالب بين ثلاث طرائق تفسيريّة، اثنتان منهما حدّية، والثّالثة توفيقيّة، فالأولى طريقة من شعر بالعجز في أمام القوى المطلقة، فانطلق من مشيئة الخالق وتجاهل كينونة المخلوق، وضدّها طريقة من وثق في قوّة الذّات، فعظم العقل -كما يدّعي- وتجاهل واهب العقول والمعقول! والثّالثة الطّريقة التّوفيقيّة وهي التي حاولت الجمع بين سلطة ومنطوق الخالق من جهة، وسلطة ومنطق المخلوق من جهة أخرى، فأعملت فكرها في النّص المقدّس السّماوي أو ما يسمى «النّقل»، وفي التّصوّر والانطباعات البشريّة أو ما يسمّى «العقل»، وحاولت التّوفيق والمصالحة بينهما.
لو تأمّلنا قصّةَ آدم عليه السّلام أوّل البشر، لوجدنا أنّ الله بعد خلقه له ونفخه الرّوح فيه، ألهمه وعلمه وخاطبه. ألهمه الأوليات والقوى الضّرورية، وعلّمه الأسماء كلّها، وخاطبه بالأمر والنّهي، وهذه كلّها داخلةٌ في مفهوم الوحي الإلهي للأنبياء عليهم الصّلاة والسلاّم، ومن هذه النّقطة تحديداً نكتشف جوهر الصّلة، وأُسّ المسألة، وأصل العلاقة بين الوحي والوعي؛ إذ أنّ الوحي الأول هو خطاب الله تعالى لآدم، وبهذا الخطاب اجتمع الخلق والأمر الإلهي في آدم؛ فالله خلقه ونفخ فيه الرّوح، فتجلّى فيه الكمال من جهة الخلق، ثم خاطبه وحياً بالأمر والنّهي والوعد والوعيد، فتجلّى فيه الكمال من جهة الأمر؛ وبقي على آدم الاجتهاد في الاتباع في كلّ حياته وحالاته، وهكذا انتقلت هذه العلاقة وهذه المعادلة إلى بني آدم، ولم ولن تنفك عنهم أبداً؛ ولذا فإنّ كلّ موافقةٍ لمراد الخالق سبحانه في أمره تنطق بها ألسنة البشر أو تتّجه لها مراداتهم أو تقع عليها أعمالهم، هي من بركة هذا الأصل وهذه الصّلة، وهي دليلٌ على بقاء خِلْقَةِ الله وفطرته وأصل مراده وحكمته في النّفوس التي لا يمكن أن تتبدّل وإن طالها التّغيير واجتيال الشّياطين، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن الله - تبارك وتعالى - : «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا»(7) 
هذه هي الصّلة الأولى، التي ينبغي تدبّرها وتأمّلها جيداً، ويجب الانطلاق منها في بناء المفاهيم لنظام الوحي الإلهي والوعي الإنساني، وإن وصف الوحي الخاتم لاصطفاء الله لآدم وتعليمه وأمره ونهيه وابتلائه، واستخلافه في الأرض، واستجابته، وسلوكه في الجنة، ومعصيته، وتوبته. 
وتجليات قصة آدم عليه السلام وأبعادها لهي مفاتيح يقينية أوّلية لفهم علاقة الله بالإنسان، وصلة الوحي الإلهي بالوعي الإنساني، وإنّ كلَّ فلسفةٍ تتجاهل هذه الأوليات اليقينيّة التي دلّ عليها الوحي لتجد نفسها في مرحلة من المراحل مضطرةً إلى ابتداع ما يحلّ محل هذه الأوليات ويقوم مقامها من تصوّرات ظنّية، ومفاهيم محتملة، تثمر جملةً من الفرضيّات والمصطلحات المضطربة، وإنّ وصف الوحي الخاتم لإهباط الله تعالى لآدم وزوجه وإبليس إلى الأرض هو مفتاح فهم قصّة الإنسان في الأرض، ونشأة المجتمع البشري، وعلاقة الإنسان بظرفه المكاني والزّماني والحالي، واجتهاده في الاستجابة لهدى الله تعالى وترجمة هداه ضمن هذا الظرف.
ولذا فإن النظريات التي لم تنطلق من مركزيّة قصّة آدم ما قبل الإهباط إلى الأرض اضطرّت لابتكار عالمٍ للمثل ومدنٍ خياليّة للحقّ والخير والجمال. والنّظريات التي لم تنطلق من مركزيّة قصّة آدم ما بعد الإهباط اضطرت لابتكار أصل الوجود الإنساني في الأرض. والنظريات التي لم تنطلق من مركزية المستقر والمتاع وقعت في الجدليّات الزّمانيّة والمكانيّة. والنّظريات التي لم تنطلق من مركزيّة العداوة مع الشّيطان تباينت في تفسير الشّر الواقع في العالم وتحديد العدوّ ومعيار العداوة. والنّظريات التي لم تنطلق من مركزيّة الهداية الإلهيّة اضطربت في ابتكار مناهج ومفاهيم ومضامين بشريّة لدلالة البشر على الكمالات والمعاني!
وفي موضوع المعنى والمفهوم الملازم لكينونة الإنسان وحياته، نجد أنّ الإنسان منذ وُجِد وهو دائرٌ بين مطلوب من خارجه، ومرغوبٌ من داخله، وأعلى مطلوبٍ ماكان من الخالق سبحانه، وأَدنى مرغوبٍ ماطلبته النفس ووسوس به الشّيطان، فهو بين سلطتين، وبين خطابين، ويبقى فعلُ الإنسان واختياره متردّدا بين ذا وذاك، وذلك بحكم سنةٍ وحكمةٍ كونيّة قدرية تجمع بين إلهيّة الخالق وعبوديّة المخلوق، وبين أمر الرّب واختيار العبد، وبين الإلهام القسري والكسب الطّوعي، وبين هداية الوحي واستجابة الوعي، وهذه العلاقة هي عينها ما يُفسر ما وقع لأبينا آدم عليه السلام في أول الأمر، قال الله: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ»(8) .
ومع ظهور استقلال فعل الخالق وطلاقته، وتبعيّة فعل المخلوق ومحدوديّته، وظهور التّوافق بين الكوني والشّرعي في هداية الوحي، إلاّ أنّ كثيراً من الأطروحات الفلسفيّة ضخّمتْ الكلام عن حالات النّشاز، وصور اختلال العلاقة، وكثيرٌ منها قائمٌ على افتراض التّكافؤ أو التّنازع بين طرفي العلاقة، فظهرت النّظريات الوجوديّة التي لاتؤمن بالإله، والمادّية التي لاتؤمن بالقدر، والعبثيّة التي لاتؤمن بالحكمة، والنّسبية المطلقة التي لاتؤمن بقيمةٍ مركزيّة في الوجود، وظهرت منظوماتٌ معرفيّة فيها ألوانٌ من الوهم البشري المُنْبَتّ عن حقائق الوحي وهداية السّماء، والتي لازال جديدها ينقض قديمها بشكلٍ يدعو لإعادة النّظر في أصل العلاقة، وجوهر الصّلة.
إنّ الإنسان بحاجة للتّجديد عموماً، وفي المفاهيم المركزيّة على وجه الخصوص، بحاجة للتّجديد الذي يقرّبه من الحقائق ويباعده عن الأوهام، ويكشف له البصر ويجلّي له البصيرة أكثر من ذي قبل ليرى الواقع ويهتدي للمتوقّع، ولا تجديد إلاّ بالعودة لأصل الكينونة، وأوّل الأمر، ثمّ النّظر في المفاهيم والمقاربات التّاريخية وتقييم علاقتها بالكينونة، وفاعليتها للظّرف الكائن، وصلاحها لما سيكون، عنئذٍ لا وصاية إلاّ للحقّ، ولا نكاية إلاّ في الباطل، وما بينهما مجال متفاوتٌ للنّظر والاجتهاد المتجدّد، ومتسعٌ للوعي والفكر المستوعب، الذي يقترب بحسب اجتهاده من الحقّ والحقيقة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحالٍ دون حال.
إنّ الوحي هو مصدر أوليّات الإنسان والحياة والكون، ومن رحمة الله بنا أن تكون هذه الأوليّات مدعومةً بنظمٍ عدّة، فالخلق نظام، والتّسوية نظام، والرّوح نظام، وتعليم الأسماء نظام، والعهد والإشهادُ نظام، والفطرة نظام، والآيات نظام، والنّبوات نظام، وكلّ ذلك متضمّنٌ في الوحي الخاتم ولاشكّ. ألا يحقّ لنا أن نجدّد مفهوم الوعي، ونراجع الصّلة بالوحي، بعد كلّ هذه الأنظمة المتعلّقة بالكينونة الإنسانيّة؟! وكيف يجوز لنا أن نركنَ إلى فرضيّاتٍ ومقولاتٍ بلا أنظمة كونيّة ولادعائم فطريّة، ثم نسمّي هذا عقلاً ومنطقاً فطريّاً، ثم نُجهِدُ أنفسنا في موائمة مفاهيم النّقل حتّى يقبلها هذا العقل!.
« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»  - «رُبّ مُبلّغ أوعى من سامع» 
بين الوعي والعلم وفاقٌ وافتراق، فهو مرادفٌ له في الجملة، لكن هناك فرقٌ بين مطلق العلم بالشيء والوعي به، فمطلق العلم أوّله: ارتفاع الجهل الجزئي، وقانونه السّلطان والحُجة والبرهان، وغايته الأظهر والأقرب الخشيةُ، إذ أنّه كلّما زاد فضاء علم الإنسان انحسرت رقعة المجهول لديه، وقام باعث الاعتراف بالخالق المدبّر العليم الخبير وسعة علمه وإحاطته فيثمر ذلك تواضعاً وخشية في نفس الذّات العالمة ولابدّ.
وأمّا الوعي فأوله العلم الكلّي بالشّيء على وجه الاستيعاب، وقانونه الفهم المتجدّد بتجدّد الهداية والدّراية، وغايته الأظهر والأقرب البصيرة، إذ كلّما تجلّت الكلّيات وتجمّعت في الذّهن، ظفر الإنسان بما يَلُمُّ عقله وشتاته بنواميس وقوانين منسجمة تحكم عالمه المتنوّع والمتمازج، ومع تعاضد هذه الكلّيات، وانتظام هذه القوانين يمنح الإنسان خبرةً وبصيرةً وتذكرةً في التّعامل مع ما فوقها حجماً، ومابعدها وقوعاً، ولذا قال الله تعالى «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» (9)، بعدما قصّ علينا قصّة ثمود وعاد وفرعون ومن قبلهم، والمؤتفكات بالخاطئة وماحصل لهم.
والوعي المطلوب هنا ليس لازمُهُ العلم التّفصيلي بأخبار هذه الأقوام، بل شرطه العلم الكلّي الذي ينقلك من التّصديق والتحقّق إلى المقصود والمعنى الحقّ وهو العبرة والاتعاظ والتّذكر، وذلك أن قانون العلم التّمييز، وقانون الوعي التّرميز القاصد للمعنى المشترك، فإذا أردت العلم بشيءٍ فلابدّ أن تميّزه عن غيره، وكلّما زاد تمييزك له عن غيره زاد علمك به، ولذا فإنّ العلم يجنح للسّؤال عن الجزئي والتّعمّق فيه وسبر أغواره، ويعتمد على الحفظ وأدواته أكثر من اعتماده على الفهم وأدواته، أمّا أن تتحوّل هذه الأشياء لتصبح جملةً ملمومةَ الشّتات ومعنىً كليّاً ورمزاً للدلالة على أمرٍ حيويّ مستمرّ يصدق على كلّ مثال قادم مهما انقطع سبب المثال الأول أو داعيه فهذا هو الوعي.
فتمييزك لمكان عن مكان، وزمان عن زمان، وحال عن حال، هذا علمٌ بالمحدّدات المكانيّة والزّمانية والحاليّة، لكن أن يتحوّل المكان أو الزّمان أو الحال ليصبح رمزاً للدّلالة على معانٍ ومراداتٍ كليةٍ مقصودةٍ تبقى في الذّهن حاضرةً مستمرّة وإن غابت محدّداتها الثّلاث فهذا وعيٌ، وارتباطٌ بالكلّي حتّى مع غياب الجزئي، وهو مرتبة فوق العلم ولاشكّ، وتأمّل معي حديث أبي بكرة رضي الله عنه، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: «أتدرون أي يوم هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظنّنا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النّحر؟» قلنا: بلى، قال: «أيّ شهر هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، فقال «أليس ذو الحجّة؟»، قلنا: بلى، قال «أيّ بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال «أليست بالبلدة الحرام؟» قلنا: بلى، قال: «فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربّكم، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللّهم اشهد، فليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ مُبلّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» (10)
التفريق بين العلم والوعي جليى؛ اذ أنّ النّبي عليه الصّلاة والسّلام أراد إيصال معنى كلّي حيويّ مستمر، هو من جوهر البلاغ النّبوي الذي يُشهد أمّته عليه، ألا وهو «إنّ دمائكم وأموالكم عليكم حرام»، ولذا لم يقصد للإدلاء بهذه المعلومة مباشرةً، بل ربطها ربطاً ثلاثيّاً بالوعاء الذي قُدّر لابن آدم العيش فيه، ربطها بالحال «يومكم هذا» الذي هو يوم النّحر، والمقصود أنّ أظهر حالهم في هذا اليوم هو نحر الهدي والأضاحي، ولذا سمي بـ «يوم النّحر»، وبالزّمان «شهركم هذا»، وبالمكان «بلدكم هذا»، ليصل بهذا الثّلاثي الظّرفي إلى المعنى والغاية والمقصود الكلّي: «إنّ دمائكم وأموالكم عليكم حرام»، وماهذه الثّلاث مجتمعة إلاّ رمز لهذا التّحريم إذ أنّها محرّمة في ذاتها، فذي الحجّة من الأشهر الحرم المميّزة عن باقي الأشهر بالتّحريم، ومكّة محرّمةٌ عن باقي البقاع، والحاجّ متلبّسٌ بالإحرام حتّى يؤدّي النّسك فيصبح حلالاً، ولذا فعلم الصّحابة رضوان الله عليهم بمكانهم وزمانهم وحالهم هذا علمٌ أوّل، وسماعهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ دمائكم وأموالكم عليكم حرام» علمٌ ثاني، والوعي بالدّور المطلوب والغاية المقصودة، والحرص على بقاء المعنى الكلّي الحيويّ بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّاس هو علمٌ ثالث قد لا يستوعبه كلّ من شهد اللّحظة، لكن قد يعيه من غاب عنها ونُقل له، ولذا كان الحاضر «شاهداً» و«سامعاً» وهما كفيلان بالوعي إذا حضر القلب، لكن أقل أحوال هذا الأول أن يكون «مبلغاً» لهذا العلم إلى من كان غائباً لعلّه أن يكون «أوعى» له ممّن سمعه أوّل مرّة، فالعبرة بمن هو «أوعى» أي أكثر وعياً بهذا المعنى الكلّي والمقصود الأعظم مهما تغيّرت الأبعاد الثلاثيّة، لأنّه قد يقع في النّاس من يكون عارفاً بالشّهر الحرام والبلد الحرام واليوم الحرام ويرجع مُلحداً يستبيح الدّم والمال!
الهوامش
(1) سورة النور - الآية 64 . 
(2) سورة الفرقان - الآيتان 1 و2 .
(3) سورة الفرقان - الآيتان 43 و44  .
(4) كانط ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق؛ فصل : ملاحظات ختاميّة
(5) فرويد، ضنك في الحضارة.
(6) «لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (سورة الأنبياء - الآية 10) و«وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (سورة الشورى - الآية 52)
(7) ﺼـﺤﻴﺢ ﻤﺴـﻠﻡ.  الحديث 2956 
(8) سورة البقرة - الآيتان 35 و36.
(9) سورة الحاقّة - الآية 12. 
(10) فتح الباري شرح صحيح البخاري. كتاب الحج،باب الخطبة أيام منى الحديث 1652 - ص671