نقاط على الحروف

بقلم
امحمد رحماني
ترجمة القرآن الكريم : تعبير عن حرف أم تعبير عن معنى ؟
 أول ترجمة عرفها القرآن الكريم هي التّرجمة إلى الفارسيّة، ومع ما كان لهذه التّرجمة من فوائد عظيمة جدّا إذ قرّبت هذا الكتاب العظيم إلى فئة كبيرة من أناس كان يحجزهم عن القرآن حاجز اللّغة والفهم. أمَا وقد وقعت ترجمته فقد أُزيل ذلك الحاجز بحيث أصبح العديد من غير النّاطقين بالعربية قادرين على قراءة وفهم ما جاء في القرآن الكريم، إلاّ أنّ لترجمة القرآن جوانب أخرى هي أحرى بالدّراسة والتّحليل لأنّها ستُسقط عاجلا أم آجلا الكثير من هؤلاء الذين قرّبتهم إلى القرآن الكريم بعد أن كانوا ممنوعين عنه، ستسقطهم في كثير من المزالق الفكريّة والمنهجيّة والعلميّة وذلك راجع لطبيعة التّرجمة أهي ترجمة «حرف» أم ترجمة «معنى»، وهذا يدفعنا إلى التعرّض في هذا المقال لمسألة حروف القرآن ومعانيه.
فالقرءان الكريم حرفا ومعنى هو من عند الله عزّ وجل، فحروفه ولو نطقها بشر فهي إلهية ومعانيه ولو أدركها النّاس فهي إلهية أيضا، وما ذاك الإدراك إلاّ توفيق من الله «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّذَّكِرٍ»(1) بمعنى أنّ القرآن من عند الله سبحانه بحروفه ومعانيه، وهنا تطرح إشكاليّة التّرجمة، إذ نجد تارة التّرجمة ترجمة لحرف بدون معنى وتارة أخرى ترجمة لا مراعاة فيها للحرف العربي.
والقرآن الكريم أمران :
حرف عربي : فقد تميّز القرآن الكريم ببراعة الأسلوب وفصاحة البيان وبلاغة التّعبير، وفي كثير من آياته ترتبط المعاني الإلهيّة بالإعجاز اللّغوي والبلاغي، فلابدّ من الالتفات إلى الأسلوب اللّغوي المستخدم للوصول إلى المعنى الإلهي الباهر المراد الوقوف عليه، فقد يكون تجاهل اللّغة سببا من أسباب فَقْدِ وإغفال المعنى المراد إيصاله لعموم المخاطبين، وقد كتب الكثير من أهل العلم في علاقة المعاني باللّغة العربيّة كـالزّجاج في «معاني القرآن وإعرابه». كما كتب فيه أيضا المستشرقون كـالألماني «كريستوف لوكسنبرغ» في «كتاب معاني القرآن على ضوء علم اللّسان»(2).
 فمثلا حينما تكلّم الله سبحانه عن المناجاة بالإثم والعدوان قال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ»(3) فجاءت كلمة المعصية مبسوطة التّاء فتكون دلالتها أنّ معصيتهم للرّسول معصية عامّة، فلم يطيعوه في شيء بعكس لو كانت بتاء مربوطة تكون معصية مقيّدة، يطيعونه في شيء ويعصونه في شيء آخر، فهذا معنى قد يستفاد من ربط وبسط التّاء فكيف يفعل المترجم لإدراك هذا المعنى وهو يترجم بلغة لا تعرف بسطا ولا ربطا؟ فاللّغة العربيّة لغة حيّة ليّنة متجدّدة(4) تدرك ذلك حتّى من تنوّع خطوطها وكثرتها، فهذا خطّ النّسخ وخطّ الثّلث وخطّ الرّقعة وهذا الخطّ الكوفي والمغربي والدّيواني والفارسي. وأنت تكتب الحروف العربيّة تدير يدك يمنة ويسرة صعودا وهبوطا خطّا ودائرة، تحسّ كأنك ترسم وأنت تكتب، أمّا غيرها من اللّغات كالانجليزيّة والفرنسيّة فهي لغة خشبيّة بالدّرجة الأولى تكثر فيها خطوط مستقيمة تشكّل بها حرفا، أقصى ما تجده دائرة أو نصف دائرة.
معنى إلهي : ولا شكّ أنّ هذه الحروف والكلمات العربيّة القرآنيّة حاملة لمعاني إلهيّة مباركة كريمة شرّفت بها العربيّة دون غيرها من اللّغات، ومن ثمّ فلن تستطيع أيّ لغة كيفما كانت أساليبها وجذورها وجذوعها وكلماتها أن تحمل المعاني الإلهيّة العظيمة، وهذه خاصّية تختصّ بالعربيّة فقط فهي الوحيدة التي تستطيع أن تدرك المعنى المراد من الآية(5) ، بل قد تدعوك إلى معان أخرى غير ظاهرة فتحصل على معان تتعلق بالسّياق أو بالعموم أو بالإجمال أو بالكناية أو بالمجاز ، فمثلا قوله تعالى «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ»(6) فهو دعوة إلى سؤال أهل القرية وأصحاب العير برفع المجاز طبعا، وقد يقتضي السّؤال كذلك دعوتهم له بالنّظر في حال القرية وأوضاعها المادّية والاقتصاديّة والاجتماعيّة وحال العير ووضعها الجسدي والصّحي من هزل وسمنة، فتكون الحالة معبّرة أكثر من المقال، فهذه المعاني وغيرها قد تدرك أثناء التّدبّر والتفكّر والتّذكّر، ومن ثمّ لا زال القرآن في كلّ قرن يفسّر وكلّ تفسير يغاير التّفسير السّابق، وأهل العلم يتحدّثون اليوم عمّا يقارب 5000 تفسيرا للقرآن الكريم، بمعنى أنّه في كلّ عصر يحتاج القرآن لتفسير وكأنّ المعاني الإلهيّة متجدّدة ومستمرة ومتولّدة وهي كذلك، فقد يفسّره عاِلم اليوم وكأنّه أُنزل اليوم ويقرأ الأية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكأنها تنزل عليه الآن. هذا الأمر يطرح إشكالا للتّرجمة التي من علاماتها الرّكود والحصر والإقبار، فالتّرجمة تقيّد حرف بحرف آخر مغاير له، وإذا اختلف التّعبير عن حرف بحرف آخر فلا شكّ يختلف المعنى بل قد يصار إلى التّضاد والتّقيض كمن ترجم قوله تعالى «هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ» (7) حرفا بحرف فجعل النّساء سروالا يلبسه الرّجال، والرجال فستانا تلبسه النساء. الأمر الذي استدعى بنا الوقوف على هذا الإشكال : هل التّرجمة تعبير وترجمة عن حرف أم معنى؟ فإن كانت ترجمة لحرف – وهي كذلك – فإنّها مجحفة بحقّ معاني القرآن التي تكون مراده أكثر من الحروف والمباني، فلا شكّ أنّ المسلم لا يتمسّك بحرف القرآن ليضيع معناه، وإلاّ لما عمل عامل بالقرآن، فيكفي كلّ واحد منا أن يكتب القرآن بماء ذهب زوجته وكفاه ذلك، لكنّ المراد فهم القرآن وتدبّره والعمل به.وإن كانت ترجمة لمعنى – وقد حاول بعضهم فعل ذلك – فإنّها ستجحف بالأسلوب اللّغوي والبلاغي الذي قد يحمل أكثر من النّصف في بيان المعنى الإلهي، فإذا أغفلت التّرجمةُ الحرفَ وترجمت للمعنى تكون بذلك قد تخلّت وأغفلت نصف المراد وهو إشكال في حدّ ذاته .
ومن ثمّ فالتّرجمة لا تعدو أن تكون معبّرة عن شيء ممّا جاء في القرآن معنى فقط، أمّا حرفا فأنّى لها ذلك لأنّها لن تترجم العربيّة بالعربيّة، فلا كلام عن الحرف إذن وإنّما الكلام عن المعنى. ولهذا فعلى المترجم أن يكون متقنا للّغة العربيّة اتقانا يمكنه من فهم التّقابل والتّضادّ والمجاز والكناية والجناس والطّباق وغيرها حتّى يستطيع أن يصل إلى المعنى تعبيرا وترجمة، فتكون التّرجمة فقط مقرّبة للمعنى لا معرّفة به ريثما يتعلّم المخاطب لغة الخطاب، فالتّرجمة فعل مرحليّ يستغنى عنه في لحظة تعلّم النّاس للغة القرآن فلا يتعامل معها معاملة القرآن.
الهوامش
(1) سورة القمر - الاية 17 .
(2) Die syro-aramäische Lesart des Koran. Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache.Das Arabische Buch, Berlin 2000
(3) سورة المجادلة - الآية 3 .
(4)  وهي فكرة أخذتها من شيخنا العلامة مصطفى بنحمزة في أحد دروسه حيث يقول أن تنوع الخطوط العربية وأشكالها وطرق رسم الحروف دليل على حياة اللغة وليونتها بل حتى دليل على نفسية وحساسية اللغة العربية .
(5)  للتوسعة في ذلك راجع مقالنا «اللغة العربية أفضل اللغات على الإطلاق» وهو عبارة عن تفريغ محقق لأحد أجوبة شيخنا مصطفى بنحمزة على سؤال طرح عليه في اللغة العربية .
(6)  سورة يوسف الآية 28 .
(7)  سورة البقرة الآية 187 .