معمارنا

بقلم
محمد العشّي
عمارة المدن و القيم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة
 العمارة هي قبل كلّ شيء شأن هندسيّ يتمثّل في تدخّل الإنسان مستعملا ما يتاح له من موادّ أوّليّة كالحجارة والطّين والخشب والحديد والزّجاج لإقامة منشآت تستجيب لحاجاته الماديّة والمعنويّة كالحاجة إلى التّوقّي من الحرّ والبرد والحاجة إلى ممارسة طقوس العبادة الجماعيّة في المعابد أو للتّرفيه في فضاءات عامّة مثل الملاعب والمسارح أو لاقتناء الحاجيّات في الأسواق أو لإكرام الأموات في المقابر والمزارات والأهرامات... 
 و يحفظ لنا التّاريخ التّجارب البشريّة التي تطوّرت فيها العمارة من بيوت الطّين و القصب إلى بيوت الخرسانة و ناطحات السّحب. وليست غاية هذا المقال رصد التّطوّرات الهندسيّة في علاقتها بتطوّر المواد الأوّليّة وتطوّر المعرفة العلميّة والتكنولوجيّة، بل غايته بيان العلاقة الوطيدة بين الهندسة كنشاط بشري يمارسه الإنسان لسدّ حاجيّاته اليوميّة والمعيشيّة وبين الهندسة كنشاط يعبّر من خلاله الإنسان عن تمثّلاته للكون والحياة والإنسان ولموقعه في هذا الوجود ودوره فيه ولعلاقته بالطّبيعة وما وراء الطّبيعة، أي باختصار عن علاقة الهندسة بالثّقافة وعلاقتها بالقيم الحضاريّة المشتركة.
لقد دأب الإنسان منذ بدأَ محاولاته الأولى في العمارة والتشييد في عهود البابليّين والكلدانيّين والفراعنة والإغريق على الرّبط الواضح بين المنشآت المعماريّة من ناحية والمقدّسات الدّينيّة من ناحية ثانية ونلمح ذلك بوضوح في المعابد والأهرامات، ولكنّ سائر البيوت والمنشآت الأخرى لم تخلُ بدورها من تأثير ثقافي، قيمي. وهذا ما سنحاول تبيّنه في إطار خصوصيّات العمارة العربيّة الإسلاميّة. وسننطلق في ذلك من نموذج دالّ يتمثّل في فضاء المدينة/القرية، محاولين تبيّن الخيط الرابط بين المعمار والقيم.
من المعلوم أنّ أوّل مدينة أسّسها المسلمون هي «المدينة المنوّرة» التي أنشئت على أنقاض يثرب، وقد كانت أوّل خطوة قام بها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هي تأسيس المسجد النّبوي الجامع، الذي سريعا ما تحوّل إلى الإطار الأوّل للنّشاط الاجتماعي والثّقافي في المدينة، فالمسجد هو المركز الأساسي للقاء المسلمين كلّ يوم وهو مركز تلقّي العلم الشّرعي وتعليمات الوحي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما أنّه مركز اتخاذ القرارات السّياسيّة الهامّة مثل إقرار السّلم أو إعلان الحرب... ومن الطّبيعي والحالة تلك أن يكون المسجد الجامع القلب النّابض للمدينة وقطب الرّحى الذي تنتظم داخله ومن حوله كلّ المناشط الاجتماعيّة بدءًا بالتّعليم فالتّجارة فالصّنائع وانتهاء بالسّكن. فالمسجد الجامع في المدينة/القرية الإسلاميّة هو بمثابة النّواة التي تدور حولها إلكترونات المجتمع.
وعند انطلاق المسلمين في الفتوحات أسّسوا مدنا جديدة بعضها كان قبل ذلك قرى صغيرة وبعضها أنشئ إنشاء مثل البصرة (14هـ) والكوفة (17هـ) والفسطاط (21هـ) والقيروان(50هـ)... وقد اختار الفاتحون في كلّ المدن/القرى التي أسّسوها أن يكون المسجد الجامع في مركز المدينة ومحورها ثمّ أن تحيط به دائرة الأسواق فدائرة المنازل فدائرة الصنائع.
ووجود المسجد الجامع- أي الكبير الذي تقام فيه صلاة الجمعة- في قلب المدينة لم يكن أمرا اعتباطيّا من قبيل الصّدفة، فهو بدءا كان اتباعا لما فعله الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة من باب أنّ تصرّفاته هي جزء من الوحي والتّشريع، كما كان استجابة لتصوّر محدّد للحياة ولموقع الإنسان في الكون؛ فالمسلم يحرص دائما على الموازنة بين الشّأن الرّوحي و الشّأن العملي، بين دواعي الدّنيا ودواعي الآخرة، بين التّصرّفات اليوميّة البشريّة النّسبيّة و بين القيم العليا التي ضبطها الوحي المتعالي... 
وإذا كانت الوظيفة الأولى للمسجد الجامع هي تمكين عموم المسلمين من أداء فريضة الصّلاة بشكل جماعي، فإنّها لا تخلو من وظائف أخرى لها علاقة مباشرة بعالم القيم في فضاء المدينة/القرية.
أولى تلك الوظائف أنّ إقامة الصّلاة وخاصّة بالمسجد تساعد على مقاومة نوازع الشرّ والجريمة في نفس الإنسان، وقد ورد في سورة العنكبوت قوله تعالى « اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ»[1]. ومرتاد المسجد مطالب بأداء صلاة الجمعة التي تتضمّن عادة تذكيرا بالفضائل ودعوة إلى الامتناع عن أنواع الرّذائل والمنكرات مثل السّرقة والرشوة والاعتداء على أموال اليتامى والاعتداء عل الأعراض قولا أو فعلا...
ولا يكون النّهي عن الفحشاء و المنكر عبر خطب الجمعة فقط، بل يكون أيضا عبر قراءة القرآن وتدبّر آياته الكثيرة التي تدعو إلى الالتزام بمكارم الخلق وفضائل الأعمال. وكثيرا ما يوفّر المسجد فرصة لتداول معاني تلك الآيات مع أهل الذكر والمعرفة. 
ويمكن أن ننظر إلى المسألة من زاوية نفسيّة/اجتماعيّة فنقول إنّ مرتاد المسجد يقيم علاقات تعارف وتحابب وأخوّة مع سائر المصلّين. وتتحوّل تلك العلاقات تدريجيّا إلى نوع من الرقابة الداخليّة التي تجعل الفرد يمتنع عن المنكر حتّى لا تهتزّ صورته الإيجابيّة التي صار معروفا بها في المسجد.
وقد يحصل أن تتغلّب نوازع الشرّ على أحدهم فيجعل ارتياد المسجد قناعا لإخفاء حقيقته ومخادعة الآخرين. غير أنّ ذلك القناع لا يمكن أن يستمرّ طويلا لأنّ الذي يخطئ في حقّ الآخرين لا بدّ أن يُكشف أمره. وفي هذه الحالة فهو سيواجه رفض الجماعة في المسجد، فإمّا أن يتوب ويقلع عن أخطائه وإمّا أن يُعزل ويصبح مثل «البعير المعبّد».  
الوظيفة الثانية التي لها علاقة بالقيم والتي يؤمّنها المسجد هي وظيفة التّكافل والتّآزر والتّماسك الاجتماعي وخاصّة في أوقات الشدائد والأزمات. ففي المسجد يعرف النّاس بعضهم ويتعاونون في مناسبات كثيرة في السرّاء والضرّاء؛ فقد يتعاونون لتأمين نفقات زواج أحدهم أو لمساعدة مريض في توفير مصاريف العلاج أو لتوفير ما يدخل الفرحة على أبناء أحد الفقراء في يوم العيد... وإضافة إلى ذلك كثيرا ما يكون المسجد إطارا لفضّ بعض النّزاعات الاجتماعيّة التي تحصل مثلا بسبب شطط في القول يؤدّي إلى تباغض وقطيعة... وتتمّ المصالحة عادة بتدخل الإمام أو الفضلاء من روّاد المسجد...
وفي هذا السّياق يكون المسجد الجامع طرفا مهمّا في إقرار السّلم الاجتماعي وفي مقاومة مظاهر الانحراف والجريمة، وفي سيادة حالة من الأمن والطمأنينة داخل فضاء المدينة/القرية.
ويتعزّز دور الجامع في فضاء المدينة الإسلاميّة بجملة من القيم التي حرص الإسلام على تثبيتها في المجتمع مثل التسامح والمحبّة وحسن الجوار. وقد رُوي في ذلك المعنى الحديث المشهور «مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ ضَيْفَهُ» [2] 
وترتبط معاني حسن الجوار والمعاشرة الطيّبة بتخطيط البيوت في المدينة/القرية حيث تكون البيوت متلاصقة وتكون الطرقات داخل الحيّ السكني ضيّقة. فلا مناص من أن يتعرّف الجيران على بعضهم البعض، وأن تنمو بينهم العلاقات الاجتماعيّة التي كثيرا ما تتّخذ أشكالا مختلفة من التّعاون والتآزر في السرّاء والضرّاء حيث يتحرّك الجميع كالجسد الواحد في المآتم والأفراح وما شابه ذلك من المناسبات، فلا يجد الفقير عنتا في تجهيز جنازة ولا في تحمّل نفقات عرس. ولا شكّ أنّ ذلك ينسجم مع قيم التّكافل التي نجد صداها في الحديث النّبوي المعروف «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» [3]
ولا يمكن لمدينة متقاربة المنازل أن تسود فيها قيم التّعايش السّلمي والتآزر الاجتماعي إلاّ إذا آمن أفرادها بحقّ كلّ فرد في المدينة في الاطمئنان على نفسه وماله وعرضه «إنّ دماءكم وأموالكم و أعراضكم عليكم حرام» [4]  
وتحصينا لأهل المدينة الواحدة من أخطار الفتن والاحتراب الدّاخلي على أسس عرقيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة أكّدت القيم الإسلاميّة على أهميّة التّعارف بين الشّعوب والقبائل رغم اختلافاتهم الكثيرة في العادات وطرق العيش حتى يتحوّل الاختلاف إلى عامل إثراء وقوّة و ليس إلى عامل انقسام وفتنة. وصار المقياس الحقيقي للتفاضل بين النّاس ليس اللّون أو الحسب أو المال بل الفضائل المعنويّة والارتقاء الأخلاقي. وقد جاء مصداق ذلك في خطبة حجّة الوداع [5] « يا أيّها النّاس ألا إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [6] 
إنّ مدينة مثل هذه تقوم العلاقات فيها على قيم التّعارف والتّعايش والتّكافل ويأمن فيها الفرد على نفسه وماله وعرضه، لهي جديرة أن تنخفض فيها الجرائم إلى درجة تقارب الصّفر وخاصّة في جرائم السّرقة والنّهب والاغتصاب، كما تحقّق لنفسها حاجزا معنويّا متينا يقيها من شرّ الفتن التي تقسّم النّاس على أسس طائفيّة وعنصريّة وتدفع بهم إلى التّطاحن والتّقاتل «والفتنة أشدّ من القتل» [7] 
ومن القواعد الأساسيّة التي تقوم عليها هندسة البيوت وغيرها من المنشآت في فضاء المدينة العربيّة الإسلاميّة، قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» [8] ويعني الحديث أنّ المسلم يجب ألاّ يُضرّ بنفسه وألاّ يلحق الضّرر بغيره. ويترتّب على ذلك المبدأ عدّة اعتبارات لها علاقة بالعمارة مثل عدم أحقيّة الجار في فتح نافذة جديدة تطلّ على بيت جاره، إذا كان الجار ينزعج من ذلك، كما يلحق بذلك كلّ التّصرّفات أو التّغييرات التي يمكن أن تلحق الضّرر بالآخر. وقد ورد عن الإمام مالك قوله في هذا المعنى « ليس له (السّاكن) أن يحدث على جاره ما يضرّه وإن كان الذي يُحدث في ملكه» [9]  
والواضح أنّ قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» التي تمثّل أساسا من أسس حسم الخلافات بين الجيران في المسائل المعماريّة، هي تأكيد على أهميّة بعض القيم الأساسيّة المرتبطة بالتّعايش بين السكّان مثل احترام حرمة الجار واحترام حقّه في الرّاحة والسّكينة فالمسكن سكن للإنسان، ولا يجوز لأيّ طرف باسم الجوار أن يسبّب الأذى المادّي أو المعنوي لجاره.
وقد روعيت تلك القاعدة في اختيار مكان الصّنائع في أطراف المدن أو في أماكن خاصّة حتّى لا يتأذّى عموم السكّان بضجيج أصحاب الصّنائع المختلفة.
ويؤدّي احترام هذه القاعدة إلى بناء علاقات متينة بين الأجوار لا يحسّ فيها أيّ طرف بالأذى والضّيم من قبل جاره الذي قد يكون أكثر مالا ونفوذا ولكنّه ليس أكثر حقوقا من غيره.
ونخلص في الأخير إلى أنّ عمارة المدن عموما والمدن الإسلاميّة خصوصا ليست بمعزل عن تصوّر المسلمين لمنهج الحياة وللقيم التي يجب أن تسود في المجتمع، لذلك اتخذت الشكل الذي يلائم تطلّعاتهم وتصوّراتهم وحاجيّاتهم الماديّة والروحيّة.
الهوامش
[1] سورة العنكبوت - الآية 45
[2] صحيح البخاري - حديث رقم 6019
[3] صحيح البخاري - حديث رقم 6011
[4] من خطبة الوداع
[5] مسند أحمد حديث رقم 23536
[6] سورة الحجرات - الآية 13
[7] سورة البقرة - الآية 191
[8] حديث نبوي ورد في موطأ مالك و في مسند أحمد
[9] المدوّنة الكبرى للإمام مالك - رواية سحنون عن ابن القاسم - طبعة  دار الكتب العلميّة - بيروت1994 ص 408.