كلام على كلام

بقلم
الخامس غفير
حديث في السياسة مع جيران متحزبين
 علّمنا الحبيب المصطفى آدابا وأخلاقا ينبغي أن نتحلّى بها مع من نعرف ومن لا نعرف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ، بل أكثر من ذلك دلّنا الحبيب المصطفى عليه أزكى الصّلاة و التّسليم على أبواب عدّة للخير من بينها : إفشاء السّلام ، والابتسامة ،.....
ولهذا كنت كلّما خطوت خطوة إلى المسجد، وممرت بمقرّهم كنت أبادلهم التّحيّة، فأسلّم على بعضهم، ممن أعرف وممن لا أعرف، ولا أخفيكم سرّا أنّني كلّما سلّمت على أحدهم إلاّ وينتابني شعور غريب. لكن ما كان يثيرني هو ذلك الجمع الغفير من الرّجال والشّباب في أوقات محدّدة من اليوم، وكأنّي بهم يختارون موعد اجتماعهم زمن عودة النّاس أو المارّة إلى بيوتهم أو خروجهم منها لقضاء مأربهم.
وقبل أن تسترسلوا في التّساؤل، ما الذي تريد قوله؟ أقول لكم إنّ من حقّ أيّ إنسان أن يختار الاختيار الذي يريده، ومن حقّ الإنسان أن يكون مرفوع الهامة، ويمشي منتصب القامة وهو يعبّر عن مواقفه، ويسير بمنتهى الثقة ويتحدّث بصوت الواثق في برنامجه ويدافع عن مبادئه وقيمه .
نعم ، أحسب نفسي أيضا من هذه الطّينة، بل أكثر من ذلك فأنا في النّهاية رجل من هذه الأمّة، وأعتزّ بمغربيتي وأفتخر بقيمي، بل تشّربت بصحبة الخلاّن معاني العزة، واستقرت في أذناي منذ عرفت الحقيقة، قيم من قبيل «العزة»، و«الكرامة» و«العدالة»، و«الأخلاق»، لكنّي مع كلّ موسم من المواسم الرّسميّة لا أفهم نفسي، ولا أعي جيّدا لماذا تنفر نفسي من هذه العبارات كلّما وصلت إلى مسامعي بصوت عال، وبموسيقى صاخبة، وبهرجة ورقص، أبتعد عنها كلّما تمّ التّرويج لها بالطّبول و«الغياطة» و«العياشة» و«البلطجة»...
لقد قادتني معرفتي ببعض الأحزاب ودكاكينها الموسميّة، وببعض المنتسبين إليها من تجار الانتخابات، والذين يتحدّثون عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، أنهم مجرّد ببغاوات يردّدون عبارات رنّانة، ومصطلحات طّنانة، يتخلّون عنها عند انتهاء الحملة الانتخابيّة، وينسونها بمجرد تلقّيهم تقطيبة حاجب، ونظرة ناظر من المخزن العجيب والغريب، بل يسيل لعاب بعضهم لامتياز بسيط ووعد كاذب، كسيلان صاحب «بافلوف» لمثيره الخارجي.
تستطيع أن تجلس في وسط جوقة من بعض رجال الانتخابات دون أن تعبّر عن انتمائك، ومن دون أن تعبّر عن أفكارك حتى تكتشف الحالة المعروفة عند البادي والعادي، أنّ سبب اجتماع هؤلاء ليس على برنامج حقيقي، ولا على خدمة الوطن وأبنائه، بل تصل مباشرة إلى أن الهمّ الحقيقي والمشترك عندهم هو المصلحة الشخصيّة، والمائة والمائتي درهم هي الهدف، والمنصب المالي هو الغاية والمبتغى...
إنّنا في وجود هذا الجوّ، لا نبدّل من قناعاتنا، ولا ينبغي أن نضع مقصّ الرّقابة على عباراتنا، ولا يصحّ أن نرتدي ثياب الممثّل البارع ، كما لا يحقّ لنا أن نلعب دور الفنّان المخادع، ولا نتقمّص دور المجامل الفارغ، بل الواجب هو أن نسميّ الأسماء بمسمّياتها ونقول للباطل باطل، وللانتخابات المغربيّة مسرحيّة وكفى.
وبالعودة إلى الحدث، مرّت الأيام وأنا على حالي مع أصحاب المقرّ من جيراني، أسلّم عليهم، أبادلهم التّحية، وهم كذلك يبادرون في كثير من الأحيان، بل ذهب بعضهم إلى المبالغة في مجاملتي، وأقدّر لهم صنيعهم، وأحترم فيهم أدبهم معي .
وأنا على نفس العادة، فإذا بأحدهم يناديني بصوت عال: «أستاذ، أستاذ» ..التفت اليهم مبتسما ومرحّبا.
فقال: «تعال اجلس معنا قليلا». تدخل الأخر : «نعم اجلس معنا، مرحبا بك».
أجبتهم بهدوء: « شكرا جزيلا ، معذرة أنا مشغول الآن» . فقال أحدهم: «نعم، هذا الأستاذ يسلّم علينا، ويمرّ علينا مرور الكرام».ابتسمت مجاملا : «اسمحوا لي أنا مشغول ولي التزامات كثيرة». فكانت إجابتهم: «لا،لا اجلس معنا وخذ لك كأس شاي، إنّنا نحترمك ونقدرك». قلت : «بارك الله فيكم ولكن لنتركها لوقت أخر». 
لا أخفيكم سرّا وجدت نفسي في منطقة مريبة، وفي ساحة ملتبسة، التي من الصعب تحديد من سيكون اللاعب الماهر فيها، ولا من سيكون القادر على مداراة من فيها وما تحمله من مفاجأة، الرابح هنا هو الذي يجيد حسن التّخلص كما يحكي أصحاب «التّواصل الفعّال».
الجرئ منهم، توجه إليّ بسؤال كنت أنتظره، وهذا هو الواقع لأنّنا في فترة معينة، وفي زمن محدّد، وأمام فضاء معلوم، قال لي : «من أي حزب أنت؟» وقال صديقه الذي يرافقه في عمليّة «الاستقطاب السّياسي»: «لمن ستصوّت ؟». قلت وأنا أتمتم مستغربا: «لندع هذا النقاش للقادم من الأيام».
بدأت الثقة تظهر على محيّا بعضهم بل الكثير منهم، وقال لي زعيمهم: «نحن من حزب (....)، لنا ولنا، وسنقوم بـ (....)». تبسمت، وقلت: «معذرة، عليّ أن أذهب حالا وعلى وجه السّرعة».
وفي لحظة، اعتقدت أنّ النّقاش قد انتهى، بادرني الرّجل الأول: «هل أنت من حزب كذا وكذا؟».قلت مختصرا الجواب: «لا، ثم لا داعي للتوضيح» .
وقال لي منتشيا: «المهمّ صوّت لحزبنا، فهو الأقدر على تطبيق برنامجه وخدمة ناخبيه». كانت هذه العبارة كافية لأنجر إلى نقاش كنت أرغب في تجاوزه، نظرا للظّرف والمكان، وحتّى لا أشوّش عليهم، بالرّغم من أنّني كرّرت على مسامعهم لندع النّقاش إلى ما بعد الانتخابات .... 
فالحاصل، دخلت معهم في حديث مقتضب جدّا وقلت متسائلا: «استحلفكم بالله، هل بإمكان أيّ حزب في المغرب أن يطبق برنامجه السياسي؟». قالوا: «لا يمكن». قلت: «هكذا إذن سنكون قد خذلنا من وضع ثقته فينا». ثمّ سألتهم: «هل بإمكان أيّ حزب سياسي أن يشكّل حكومة بمفرده وبالاعتماد على إمكاناته الذّاتية، وعلى « كوادره» الحزبية؟»،قالوا: «هذا مستحيل». 
قلت: «إذن لا يمكن لأيّ حزب بمغربنا العجيب أن يفوز بالأغلبيّة التي تخوّل له تشكيل الحكومة». قالوا: «أجل هذا صحيح». قلت: «إذن،لا يمكن الحديث بالبتّ والمطلق عن التّعاقد مع الشّعب، ولهذا فالفعل السّياسي لا يقتصر على المشاركة الانتخابيّة فقط».قالوا: «نعم» وباستغراب تام. 
قلت: «لا بدّ إذن من التّمييز بين المشاركة الانتخابيّة والمشاركة السّياسية». قالوا: «وكيف ذلك؟ مزيدا من الوضوح». قلت: «قد تكون مشاركا انتخابيا ولست مشاركا سياسيا، لأنّك في النّهاية ستطبق برنامجا ليس ببرنامجك، هذا إذا سلّمنا أنّك شكلّت الحكومة وعقدت العزم على العمل والفعل والإصلاح من داخل المؤسّسات، ولكن في المقابل قد تكون مشاركا سياسيّا (والأمثلة كثيرة وشاهدة على ذلك) ولست مشاركا انتخابيا ولا من داخل المؤسّسات».
في هذه اللّحظة التي اشتدّ فيها النّقاش، وجدت نفسي أتحدّث إلى جموع غفيرة من داخل حزبهم وأمام عدد كبير من أعضائهم.
توقّفت عن الحديث وتركت لهم حقّ الرّد، ولم أحتكر الكلام في القضايا السّياسية، ومصير بعض الأحزاب السّياسية، بل جعلت النّقاش مرنا، فيه أخذٌ وعطاء، وقبول ورفض وردّ، لأنّه يبقى في النّهاية رأي وتقدير أعتقد أنّه الأنسب والأصلح في ظلّ غياب المراقبة النّزيهة لعملية الانتخابات، وفي ظلّ تحكّم الأجهزة المخزنيّة في دواليبها ومسارها الدّيمقراطي، ولعلّه أمام هذا المشهد من العبث بأموال وعقول المغاربة بات الحلّ الأمثل هو المقاطعة لكلّ أطوار العمليّة درءا للمفاسد الجمّة التي تهدّد البلاد .
إنّنا ندعو إلى مقاطعة الانتخابات، فقط لأنّنا نعتقد جازمين بأنّها لن تكون نزيهة ولن تخدم مصالح الشّعب المغلوب على أمره طالما أنّها ليست بيده، بل بيد غيره من أزلام نظام لا يعرف للدّيمقراطية طريقا، بل نظام يعيد تشكيل نفسه ويكرّر ذاته، إمّا بنفس الآليات أو بوسائل مختلفة تتماشى وعصره .
إنّ الدّعوة إلى مقاطعة الانتخابات هي دعوة للقطع مع الفساد والاستبداد والالتفاف على مطالب الشّعب المغربي، ودعوة إلى الحسم مع مؤسّسات معيّنة وغير منتخبة تمارس سلطتها وهيمنتها على مؤسّسات منتخبة، وهذا يعنى أننّا لسنا ضدّ مقاطعة الأحزاب ولن نكون في يوم من الأيام ضدّ العمل الحزبي الذي يتمتّع بكافة الحقوق والحرّيات، ولن نختلف مع الممارسة الحزبيّة النّبيلة التي تفكّر في مصير البلاد والعباد وتسعى إلى توسيع هامش الحرّية وتؤمن بحق التّداول الدّيمقراطي على ممارسة السّلطة الفعلية في التدبير والتسيير والاقتراح والتأطير...
هكذا إذن، أجمعوا في النّهاية على أنّ الحقيقة لا يمتلكها أحد، وأنّها ليست مطلقة، والاختلاف في الرّأي لا يفسد للودّ قضيّة، والواقع واضح وجليّ ولا يرتفع . والحقيقة التي بتنا نؤمن بها جميعا هي أنّ المتحكّم في مصير البلاد والعباد معروف. ومن المعلوم بالضّرورة في مجال السّياسة المغربيّة أنّ المهندس الفعلي لمشهدنا السّياسي عموما، ولمشهدنا الانتخابي على وجه الخصوص ليس بشبح ولا تمساح، وليس بجنّ أو عفريت، بل إنّه منّا ومن بني جلدتنا .
وقبل أن أغادرهم لكي أتوجّه في سبيلي، صاح أحدهم وبصوت مرتفع: «نعم إنّي أعرف هذا الأستاذ جيّدا ، إنّه (.....)». ابتسمت في وجوههم وغادرت المكان على أمل انتظار القادم من الأيام بعد الانتخابات الهزليّة.