في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الحرية المستعبدة في عصر الحداثة وأمراضها
 تعلي الثقافة الغربية من مفردة «الحرّية» كإله لعصر الحداثة، والحقيقة أنّه شعار فقط يخفي وراءه أن الاستعباد هو آلة العصر الحديث، فأنت لاتعدو عن أن تكون ترسا متناهيا في الصّغر مستعبدا في مسارك في آلة جبّارة اسمها الحداثة، وتكتسب قيمتك من التزامك وخضوعك للقوانين المدنيّة «الطّبيعة» من حولك والتي تحولك مع الزمن وبحثا عن الأمثلية في الآداء والإنتاج من حالة الضبط التحكّمي باهظ الثمن ومن المراقبة الخارجية في المجتمع الحداثي إلي حالة الضبط الذاتي والمراقبة الداخلية في المجتمع ما بعد الحداثي وأن تحوي بداخلك برنامجا للتشغيل الذاتي، وهو يعكس الفلسفة الغربية الحديثة بأكملها من أن الله خلق الكون ثم رفع يده عنه تماما وتركه يعمل آليا دون تدخل منه، «تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا». 
هذه الحرّية التي تجعل من الحرب على الآخر مباحة دون سبب إلاّ أنّها حتميّة لدوران هذه الآلة الإله، هي إذن ليست حرّية بقدر ماهي استسلام لقوانين الطّبيعة، ومن يتوقّف عن الدّوران في تلك الآلة فليس له إلاّ الانسحاق والفناء.
المجتمعات الحداثية
لا أقصد بالمجتمعات الحداثية تلك المجتمعات التي قطعت شوطا باتجاه التحديث فقط كعملية تحضر يخضع فيها الإنسان الطبيعة لخدمته من خلال صياغته لقوانين يفهم بها حركة الطبيعة من حوله، لكني أقصد بداية جعل الإنسان نفسه كتلة خاضعة لنفس القوانين. هذه الحقبة الزمنية التي تعقدت فيها المجتمعات من ناحية الرّوابط والعلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على المستوى الفردي والجماعي مع تدخّل الدّولة كوسيط وأحيانا كطرف اعتباري لضبط تلك العلاقات ابتداء ثمّ الهيمنة عليها لصالح الكتلة المؤثرة في المجتمع ثم انتهاء بعملية برمجة للإنسان كآلة صماء لخدمة القوي. في هذا الجو المركب بالعلاقات والمكهرب بالمجالات لا يمكن أن تتفق رغبات كلّ النّاس بحال من الأحوال، وهذا هو الذي يجعل الحرّية تنتقص كلّما زاد تعقيد المجتمع، فلا بدّ من قيود شئنا أم أبينا وذلك لضرورة العيش المشترك ولعدم إمكانيّة الرّجوع عن طريق التّحضر. 
في هذه المجتمعات تتآكل الحرّية وتنقص الإنسانيّة داخل الإنسان وتزداد مساحة العبوديّة للبشر وهو المرض اللّعين الذي يصيب المرء حين يحرص على الحياة -أيّ حياة- على حساب المبادئ، وطبيعي جدّا أن يوجد أفراد من هؤلاء في كلّ مجتمع في كلّ زمان ومكان، ولا يضرّ المجتمع وجودهم، فهم كالتّرياق من مرض استرقاق المرء نفسه لغيره من البشر، لكنّهم اذا زادوا عن نسبة محدّدة، كانوا نذير شؤم على المجتمع كلّه. 
فيروس العنف الكامن في الحداثة
بنيت المجتمعات الحديثة على المبادئ المادّية الصّرفة للإنسان الغربي، وفي ظلّ تغييب متعمّد «للروح» المكون الميتافيزيائي للإنسان، بدءا من تهميش الإله، إلى تطهير الأرض من ظلال الإله، إلى إعلان موت الإله، وإنتهاء بموت المؤلّف، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ولضبط هذه المجتمعات من الدّاخل لابدّ من ماكينة تولد سلطة رهيبة تضبط إيقاع الذّرات «أعني البشر»، ووظيفتها اختزال الإنسان فقط في عدد ذرّات الصّوديوم والبوتاسيوم وباقي عناصر الجدول الدّوري الحديث داخل الإنسان، ومن ثمّ في اكتشاف العلاقات التي تحكم هذا العدد. 
في هذه المجتمعات الحديثة - ومجتمعاتنا متأثّرة جدا بها - يكمن فيروس العنف ويبدأ بإجبار النّاس على تقبّل ثقافة السّجن داخل العمل وداخل المدرسة وداخل المستشفي حتّى يصل السّجن إلى داخل النّفس[1]، حتّى عبّر عن ذلك صراحة أحد علماء الاجتماع وهو «زيجموند باومان»، بأنّ العنف كامن في فرديّة الحداثة والمسافة الإنسانيّة التي تخلقها العلاقات التّعاقدية في المدينة. في هذا السّياق يبتلع النّاس طوعا أو كرها أطنانا من الأشياء غير المرغوبة، يبتلعونها لأجل الحفاظ على دخل ومستوى معيشي أو حالة معينة من الرّفاهية، مضحّين في سبيل ذلك بزيادة مساحة التّعاسة والاكتئاب التي تقتحم حياتهم كلّ يوم، يبيضون هذه المساحة السّوداء بزيادة مساحة التّبرير أمام النّفس لكلّ فعل لا يجدون له جدوى، وإذا اختلّت هذه المعادلة وقع صاحبها إمّا فريسة للانتحار إذا زادت مساحة الاكتئاب على مساحة التبرير المقنع للنفس، يؤيّد ذلك تزايد معدلات الانتحار في الدول المتقدمة ذات الدخل الفردي المرتفع، وإما فريسة للسرقة والجريمة إذا استطاع تبرير كل الأشياء غير المرغوب فيها حتى على المستوى الفردي. وفي الوقت نفسه يعلم الناس - وما أبرئ نفسي - أن المسؤول الأعلى يجبرهم على ابتلاع هذه الأطنان من القهر كي يحفظ بذلك كرسيه بل ويمتطي صهوة كراسي أخرى أعلى وهكذا المسؤول الذي فوقه إلى سلسلة طويلة تنتهي في حالة البلدان المتخلفة بالمستعمر المختفي خلف جبال تحضّره وإيهامك أنت أيها الشعب الذي أمتّ نفسك بنفسك أنّ سبب تخلّفك هو ثقافتك عبر سلسلة من الفساد والمفسدين ووكلاؤهم بين ظهرانينا. 
وفي البلدان المتقدمة نفس السلسلة الطويلة لكنها تنتهي بأصحاب الرأسمالية المتوحشة المتزوجين سفاحا من السلطة. تلعب البيروقراطية والتقدم التكنولوجي في المجتمعات الحديثة المتقدمة تكنولوجيّا دورا كبيرا في قهر الحرية الإنسانية، يؤكد ذلك كتابات ماكس فيبر، وكتابات هربرت ماركيوز التي أكدت على أن المجتمع التكنولوجي الحديث بدأ يختزل الذات الإنسانية. كما يسجل صمويل هنتنجتون في كتابه «نهاية التاريخ» أن الحضارة الغربية بلغت غايتها وذروتها ومن ثم يسجل بداية انهيار النظام الاجتماعي والأخلاقي لها في كتابه «نهاية النظام» [2].
من العنف إلى الإبادة 
يبلغ مرض العنف مداه إلى أن يصبح مرض «إبادة الآخر الضعيف» دينا يتقرب به إلى إله الحداثة وما بعد الحداثة. فمثلا تتعامل الحضارة الغربية مع دول العالم الثالث على أنها الآخر الضعيف الذي يجب إبادته بمنهج القتل الرحيم. و تتمثل منهجية الإبادة في أن يكون دفن الأشياء غير المرغوبة داخل بطون المستضعفين ثقافة مرعية حتى يتم التخلص منها ومنهم، هذه الأشياء ليست بالضرورة جامدة بل تشمل كل ما يطلق عليه شيء. فدفن النفايات النووية الخطرة جدا في أراض المستضعفين هي من هذا القبيل، وحتى يكونوا أصحاب الأيادي البيضاء في إفناء البشر بالموت البطئ والرحيم يجب أن يقدموا معونات ومساعدات وعقود حتى تتسم عملية الإبادة هذه بالحيادية بل وربما تعود بالنفع الظاهر والعاجل على الضحية تماما مثلما صورها شاعر العربية العظيم أبو القاسم الشابي في رائعته «فلسفة الثعبان المقدس»
أنِّي إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الــورى
ظلِّي، وخافوا لعنَتي وعقابي
وتقدَّوموا لِي بالضحايا منهمُ
فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ
وَسَعَادة النَّفسِ التَّقيَّــــة أنّهــا
يوماً تكونُ ضحيَّة َ الأَربابِ
ومن ذلك أيضا التّخلص من خصوبة الهنود الحمر بتعريض فتيانهم لجرعات خطرة من الإشعاع تؤدّي إلى تعقيمهم واستئصال مبايض فتياتهم، ومن ذلك أيضا دفن الحرّية في أراضينا حتى يتمّ استخراج جيل العبيد الجدد.
أمراض الغني الفاحش والفقر المدقع
تنتعش الإنسانية في ظل وجود تمايز نسبي بين النّاس، فليس البشر كائنات وحيدة الخلية كلها نسخ لصورة واحدة، لكن هذا التمايز يجب أن لا يكون مثلا من نوع الفارق بين الملائكة والشياطين، فهذا النوع فتاك بالإنسانية أصلا. وعلى هذا فليس للغنى أو للفقر في حدّ ذاتهما أمراض معينة، وبعيدا عن نوعية طعام كل منهما والتي تؤدي إلى أمراض جسدية بعينها، هي من عينة غذائه، فأمراض الغني غنية وأمراض الفقير فقيرة. لكن إذا تعامل الفقير مع فقره بمنهج الكسل والسّخط [3]، وإذا تعامل الغني مع غناه بمنهج الجشع واسترقاق العمال والبطر، فهذا هو عين المرض المؤدي إلى تبرير الغني لذبح الفقراء في مذبح الجشع أو إلي تبرير أكل أموال الناس بالباطل ممّا يؤدّي في النهاية إلى تكوين دولة المستوطنات «قصور فارهة تحميها الجدر العازلة العالية من جماجم الفقراء وأولادهم» أي ولادة هويات جديدة جنسيتها المال. يقول أفلاطون: «إن المجتمع الذي ليس فيه فقراء أو أثرياء سيحظى دائماً بأنبل المبادئ»، وبما أنّه لا يمكن أن يتساوى كلّ النّاس في الفقر والغنى فإنّ المقصود هو التقارب في المستويات أو هو في الشعور الصحي بالآخر، لكن حين يتفاحش الغنى يطغى صاحبه وحين يصير الفقر مدقعا يذل صاحبه ويصير كلاهما مرضا بلا أدنى شكّ وهو مرض الخوف من الفقر للغني ومن شدة وطأته للفقير، ويبدو أن ظهور الفقر المدقع والغنى الفاحش في العصر الحديث هو ناتج بالأساس عن طمع الطبقة الرأسمالية المتوحّشة عبر التعسف في احتساب أجر العامل وسرقة المال العام من جهة، وكسل الآخرين وخوفهم وعدم توحدهم في المطالبة بحقّهم في توزيع الثروة من ناحية أخرى، وتكتمل الحلقة السوداء بمرض لعين آخر يتمثل في تدجين المثقفين ضمن حظيرة النظام. إلى أن يصل المرض بالإنسان الغني كما يقول سقراط: «لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى، ويفضلون معه أن يلقوا بثرواتهم في البحر على أن يعينوا بشيء منها المحتاجين» [4] إذن يبدأ مرض الأغنياء بالخوف من الفقر ثم احتقار الفقر ثم احتقار أصحابه ثم استعمالهم كأملاك ويبدأ مرض الفقر من الحرمان المفضي للحسد والحقد ثم التطلع لما في أيدي الأغنياء دون عمل ثم السّرقة. 
تآكل الحرية الفردية والجماعية 
كي يعيش الإنسان سليما معافىً في مجتمع حديث، لا بد له من مقاربة لحلّ لغز تعارض الحرية الفردية مع نظيرتها المجتمعية. فالحرّية الفرديّة هي طريقة الحياة التي يختارها الإنسان لنفسه، أما الحرية الجماعية فهي القواسم المشتركة للحريات الفردية التي تمنع الواحد من الاعتداء على حريات الآخرين وتمنع الآخرين من الاعتداء على حريته، ويتمثل جهد علماء الدين والاجتماع والفلسفة في العمل على تعظيم مساحات التقاطع بين أفراد المجتمع وتقليل مساحات الاختلاف من خلال طرح تفسيرات من شأنها تخفيف حدته وتعديل دفته نحو الاستفادة القصوى منه وتجعل من العيش في ظل الاختلاف آلية للعمل الجماعي الواجب أصلا. وقد تمّ ذلك في الغرب من خلال «العقد الاجتماعي» نتيجة لكتابات جون لوك «الطبيب والفيلسوف وتاجر الرقيق»، وتوماس هوبز وجان جاك روسو صاحب العبارة الشهيرة: «من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد». 
كادت أسطورة العقد الاجتماعي المتمثل في حالة التعاقد الاختياري بين الأفراد لضمان مصالحهم المشتركة أن تكون من سرديات الليبرالية الكبرى أو أحد مسلّماتها التي لا تناقش. يعلن شادويك في تأريخه للفكر الغربي الاستناري أنّه لا يوجد دليل تاريخي على وجود عقد اجتماعي من عدمه والتي دعمت حقوق الشعوب، بل وأسّست الرّابطة السّياسية على الاختيار الحرّ العقلاني[5]. هذه الأسطورة جعلت من الإنسان الغربي في أذهان الكثيرين الإنسان النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به، حتى قال أحدهم «ليتنا نكون غربيين حتى بالنجاسات التي في أمعائهم» [6]. والحقيقة أن هذه المجتمعات عانت من فقد العلاقات الإنسانية المتعلقة بالتضحية والبذل والكرم والعطاء بلا مقابل، تلك العلاقات البعيدة عن المقايضة في العقود، وهو يمثل في الحقيقة الرأسمال الاجتماعي المفقود في نموذج الحرية الغربي. لذلك صكّ عبد الوهاب المسيري مصطلح «المجتمعات التراحمية» لعلاج هذا النّقص في النّموذج. وعالجة طه عبد الرحمن بنظريتة التي يسميها «النظرية الميثاقية»، لكن هذه المرّة ليس بتعاقد بين الإنسان والإنسان، بل بين الله والإنسان. فإذا كانت نظرية التعاقد تدّعي أن الحالة الأولى للبشرية تجري في هذه الحياة المرئية، وعلى حد تعبير طه عبد الرحمن: «في العالم الملكي، حيث الاتفاق يجري بين الأجسام، فقد سبقتها مواثقة أخرى جرت في عالم الملكوت، حيث كان الإنسان يتصرف بروحه لا بجسده، وهي المرحلة الأصل التي نسيها الإنسان، بل قام بخيانتها»[7].
الاستبداد فيروس الحرية
ثمة فيروس آخر لتآكل الإنسانية داخل الإنسان وهو الاستبداد. فحين يسود الاستبداد يعم النفاق ويسعى كل فرد إلى التقوقع حول احتياجاته، فإمّا أن يسكت لأنّه يخاف أن يبدي رأيه فتصيبه منه معرة وتتضرر احتياجاته، أو لأنه يشعر أن الكلام ليس له قيمة، وإمّا أن يتكلم بكلامٍ الصمت أبلغ منه، ليملأ به الفراغ فحسب، من قبيل أن الماكينة تعمل لكيلا تصدأ أجزاؤها وليس لكي تنتج، أو من قبيل أن يسمع ويشعر رب العمل بأنّه موجود ومتفاعل. وإما أن يفند وينتقد ويبدي رأيه المعارض لكن لا يخرج عن كونه مبيض وجه الاستبداد القبيح. فلك الحرية كلّ الحرية أن تنتقد الأطراف لكن إيّاك أن تنتقد القلب. أمّا من يجرؤ على النّقد خارج هذه المنظومة المغلقة فليكن مستعدّا لأن يقدّم عنقه ثمنا لرأيه.
الهوامش
[1] راجع كتابات ميشيل فوكوه عن المعاقبة والمراقبة: ولادة السجن. 
[2] السيد عمر وآخرون، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية: التأصيل والممارسات المعاصرة - المجلد الأول، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، (2013) 
[3] السخط ليس هو عدم الرضا وإنما هو عدم الرضا بقدر الله
[4] محمد عثمان شبير، المدخل إلى فقه المعاملات،  دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، (2010)
[5]  هبة رؤوف عزت، مقالة بعنوان «قضايا وأبحاث الفكر والثقافة»، موقع د.هبة عزت الإلكتروني.
[6] أhttps://www.goodreads.com/author/quotes/2830962     
[7]  محسن المحمدي، مقالة بعنوان «موت الإنسان المعاصر عند طه عبد الرحمن في نقد نظرية التعاقد الاجتماعي (2017).