قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مجتمع مدني مأزوم
 (1)
يكون المجتمع المدني حرّا أو لا يكون، ومن ثمّ فإنّ حركة المجتمع الحرّ تختلف اختلافا جوهريّا عن حركة المجتمع الذي تصادر الدّولة حرّيته، ومن ثمّ فقد سعت الدّولة دائما للتّحكم فى حركة المجتمع وإخضاعه عبر اللّجم أو عبر الاختراق. لقد كان على الدّولة أن تترك للمجتمع هامشا من الحركة حتّى لا ينفجر بوجهها وحتّى يستطيع التّعبير عن نفسه من خلال مؤسّسات مدنيّة ينشئها هو، ولكن عينها كانت لا تغيب عن تلك المؤسّسات، فإن لم تستطع إخضاعها كلّيا أو نسبيّا فإنّ الصّدام بينها وبين هذه المؤسّسات المدنيّة كثيرا ما كان دمويّا وكارثيّا فى كلّ الأحوال.
(2)
النّقابات العمّاليّة مؤسّسات من مؤسّسات المجتمع المدني، تتّخذ لنفسها أشكالامن التّعبير عن دورها في حماية العمّال وتأطيرهم والتّعبير عن مطالبهم، وهي منظّمات لا تنشأ إلاّ تعبيرا عن حاجة ملحّة ولم تكن فى يوم من الأيام ترفا يطالب به العمّال. ولأنّ هذه النّقابات تعبير حرّ عن الإرادة فقد ظلّ هاجس الإخضاع والتّفتيت والقمع يحكم علاقة الدّولة بها باعتبارها أداة لتعطيل الإنتاج وفرض المطالب، في حين كانت هذه النّقابات لا تألو جهدا فى حشد العمّال و تأطيرهم وراء مطالب محدّدة ولا يهم أن يصل الأمر إلى الصّدام أو بذل التّضحيات الجسام  دفاعا عن  حقّها في النّشاط ووفاء لإرادة العمّال.
(3)
العمل الحزبي ليس إلاّ تعبيرا مدنيّا عن حاجة النّاس للتّنظم والمشاركة فى الشّأن العام، والمجتمعات الحرّة تحكمها الأحزاب بواسطة الانتخابات عملا بسنن التّداول السّلمي على السّلطة وعبر برامج يجتهد القائمون على هذه الأحزاب فى وضعها استمالة للنّاخب وسعيا منها للإسهام فى تطوّر المجتمع.
في زمن الاستبداد لا يكون العمل الحزبي حرّا إلاّ إذا كان فى إطار ما تسمح به السّلطة الحاكمة ولذلك لا تنشأ الأحزاب تعبيرا طبيعيّا عن حاجة النّاس وإنّما تكون وسيلة الحاكم فى بسط نفوذه. ولقد مرّت على دول عقود طويلة وهي تخضع لحكم حزب واحد هو حزب الرّئيس حتى انتفت صفة المدنيّة عن هذا الحزب وتحوّل مع الزّمن إلى جهازٍ أمنيّ متخفّ غايته ضبط المجتمع وإخضاعه لإرادة الحاكم باللّين أو بالقوة. ولكن حين يجد المستبدّ نفسه مضطرّا لحلحة الأمور خوف الانفجار، فقد يسمح لبعض الأحزاب بوجود صوري  أو يعطي لبعضها دورا ضئيلا ضمن تعدّديّة هشّة لا تؤثّر فى القرار ولكنّها تتيح له الظّهور بمظهر ديمقراطيّ لا يفضي إلى شيء.
لا يكتفي المستبدّ بالتّحكم فى المشهد السّياسي عبر حزبه أو عبر الأحزاب التى تخضع حركتها لإرادته ولكنّه لا يتوانى عن قمع أيّ إرادة حزبيّة لا تخضع له ولذلك شهدت دول كثيرة صدامات لحكّامها مع أحزاب وحركات سياسيّة كانت نتائجها مأساويّة وصلت حدّ إعدام قياداتها وأفراد منها بعد حلّها ومصادرة أملاكها وسجن الآلاف من مناصريها.
(4)
لا يختلف الأمر فى شيء عند الحديث عن الجمعيّات النّاشطة فى المجال العام بمختلف أنواعها ولا عند الحديث عن المؤسّسات الثّقافية كالمنتديات والمهرجانات والجمعيات ذات الاهتمام الثّقافى، والشّأن نفسه  بالنّسبة للجمعيّات ذات الطّابع الدّيني أو تلك التى يكون القائمون عليها من أهل الدّين. 
لا ينظر الإستبداد إلى المجتمع المدني باعتباره رافدا من روافد العمل العام وإنّما ينظر إليه باعتباره تعبيرا عن إرادة مخالفة ومن ثمّ وجب إخضاعـه بكلّ الطّرق حتّى لا تنفلت الأمور ويصبح للمجتمع إرادة أقوى وفعل أكثر تأثيرا.
كان المجتمع المدني مغلولا كلّيا أو نسبيّا ومن ثمّ لم يكن بوسعنا الحديث عن دوره الفعّال في التّعبير عن إرادة المجتمع كما هي فى جوهرها ولا عن تفاعل حقيقي بين أفراده والدولة. كان النّظام التّونسي مثلا يتباهى بوجود آلاف الجمعيّات النّاشطة فى مجالات مختلفة وهو يعلم  تماما أنّ جلّ هذه الجمعيّات أُنشِئت بإرادته هو وتحت إشراف منظوري حزبه الحاكم وأنّ مجالات نشاطها قد حدّدت سلفا، بل إنّ الكثير من هذه الجمعيّات لم تكن إلّا أرقاما للمباهاة أولدفع تهمة الاستبداد عن نظام مستبدّ كليّا.
(5)
جاءت الثّورة بمخرجات كثيرة كان من أهمّها فتح المجال العام أمام النّاس للمشاركة بحرّية كلّ فى مجاله أو حسب إهتمامه، كما أنّها أتت بحرّية التّنظّم والتّعبيرضمن معايير جديدة مختلفة كلّيا عن معايير ما قبل الثّورة والأهم أنّها أتاحت للنّاس مجالا لبناء تصوّرات جديدة للدّور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني لا كمجتمع في مواجهة الدّولة أو خاضعا لها وإنّما كمجتمع ذي وعي جديد غايته بناء نهضة مجتمعيّة جديدة ضمن الأهداف التي رسمتها الثّورة لنفسها وضمن أفق لا محدود للعمل والاجتهاد. 
كانت الحرّية غائبة أو تكاد فصارت حرّية لا تحدّها إلاّ حدود القانون الذي ينظّم عمل الجمعيّات فهل تغيّر الأمر الآن؟ وهل استطاع المجتمع المدني أن يكون فعّالا كما كان مؤملا؟
لقد ظهرت بالفعل آلاف الجمعيّات الجديدة وتعدّدت مجالات فعلها وأصبح بإمكان أيّ مجموعة ناشطة أن تنشئ إطارا يمكنها من ممارسة نشاطها غير أنّ هذه الطّفرة التي جاءت مع الثّورة سرعان ما بدأت فى الانحسار لتتلاشي الكثير من هذه الجمعيّات أو ينحسر نشاطها إلى حدّ الضّمور فأين مكمن العلّة إذا؟
(6)
نشأت جمعيّات خيريّة كثيرة تعبيرا عن الرّغبة في خدمة المحتاجين للمساعدة فكان لها نشاط ملحوظ فى بداية الثّورة ولكن تشديد الرّقابة والخوف من الاختراق والشّحّ التّدريجي فى الموارد دفع الكثير منها إلي التّوقّف عن النّشاط أو تقليصه رغم ازدياد الحاجة إليها في مجتمع يزداد فقرا وتفقيرا.. 
وكذلك الشّأن فى المجال الثّقافي إذ ظهرت الكثير من الجمعيّات والمنتديات الثّقافيّة بسبب حماسة النّاس لثقافة بديلة أو تكريسا للرّغبة في العمل على إنتاج نموذج ثقافيّ  بديل يعبّر عن هموم الثّورة وأحلام الثّوريين شبابا وكهولا، غير أنّ هذه الجمعيّات قد اصطدمت بعراقيل كثيرة لعلّ من أهمها شحّ الموارد حيث أنّ العمل الثّقافي يحتاج إلى موارد مادّية ضخمة من أجل إيصال رسالته إلى النّاس وهذا ما لم يتح إلاّ للقليل من الجمعيّات الناشئة ممّا جعل الكثير منها يتخلّي عن دوره في مقاومة الرّداءة ويقلّص نشاطه رغم بقاء المجال العام مفتوحا. 
إنّ اعتماد العمل الثّقافي على مساعدة الدّولة كلّيّا أو نسبيّا وانحسار الاهتمام بالثّقافة عند النّاس عاملان ساهما مساهمة ملحوظة في الحدّ من نشاط المجتمع المدني فى المجال الثّقافي لتتكرّس أكثر فأكثر ثقافة التتفيه على حساب الثّقافة الجادّة و لتخسر الثّورة رافدا من أهمّ روافدها في مواجهد أيّ ردّة.
(7)
إذا كان مجتمع ما مأزوما فإنّ مجتمعه المدني سوف يكون أشدّ تأزّما، كما أنّ فتح المجال العام لا يعني إقبالا من النّاس على الانخراط الإرادي في العمل التّطوعي رغم إحساسهم بأهمّية هذا العمل. والأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ فقط، بل إنّ إحدى تمظهرات الأزمة التي تعصف بالمجتمع المدني أنّه مجتمع منقسم على نحو فضيع،ذلك أنّ تضادد المشارب الفكريّة والايديولوجيّة قد تكرّس داخل هذا المجتمع المدني، فصار بذلك رافدا من روافد الصّراع وأداة من أدواته ولم يعد  التّنوع نعمة داخل المجتمع وعاملا من عوامل الثّراء بل تحوّل إلى نقمة وقد صار لكلّ فئة مجتمعها المدني الذي تذود عنه ونشاطها الذي لا تسمح لغيرها بالمشاركة فيه وتلك لعمري المأساة إذ تهدّد بتفتت المجتمع واحترابه
إنّ أزمة المجتمع المدني أزمة عميقة ودوره فى انحسار ممّا ينذر بتغوّل الدّولة من جديد رغم توق النّاس للحرّيّة.